في رياض السنة: فرحة الله بتوبة عبده المؤمن
عن الحارث بن يزيد قال: قال ابن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في ارض وبيئة مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال ارجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه فالله اشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده. أخرجه الشيخان والترمذي هذا الحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثيرة في هذا الباب العظيم الشأن من أبواب الإيمان باب التوبة التي بشر الله بها عباده الضعفاء الذين يقترفون الذنوب والخطايا وكل ذلك وارد من بني آدم إلا من عصمهم الله من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام أما من سواهم ومن هم دونهم فإن الأنفس الأمارة بالسوء تأبى إلا أن توقعهم فيما يغضب الله مما نهاهم عنه من الفواحش والذنوب التي حرمها الله عليهم. إن رحمة الله أوسع من ملكه وهي التي سبقت غضبه وجعلته سبحانه وتعالى لا يقنط عباده الخطائين المذنبين الظالمين لأنفسهم من رحمته أي من تقبله لتوبتهم إن هم اعترفوا بذنبهم وأنابوا إليه فهو سبحانه وتعالى الغفور الرحيم ولم يستثن المولى سبحانه وتعالى من الذنوب القابلة للغفران والصفح إلا ذنبا واحدا ألا وهو الشرك بالله قال جل من قائل (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ما سوى الشرك وهو ظلم عظيم (إن الشرك لظلم عظيم) يقول جل من قائل مبينا سعة رحمته بعباده المسرفين المذنبين بصيغة فيها الكثير من الرأفة والحب (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم) والتعبير بصيغة (يا عبادي) فيه معنى القرب والحب ومن لعباد الله سوى خالقهم؟ فهو سبحانه الملجأ والملاذ. لقد حرم الله تبارك وتعالى اليأس من رحمة الله (انه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). إن المؤمن إذا اخطأ وارتكب ذنبا (وكل ذلك وارد من الإنسان الظلوم الجهول) ينيب إلى ربه ويتوب إليه سيجد ربه قريبا منه يتقبل توبته ويغفر له ذنبه، المؤمن لا يغفل عن التوبة وطلب الغفران من ربه القريب منه (وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني) إن المؤمن إذا مسه طائف من الشيطان يريد إغواءه ودفعه إلى الوقوع في معصية ربه سرعان ما يتذكر فيتوب ويستغفر (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). وهذا الحديث في هذا الباب (التوبة) يتوخى فيه سيدنا رسول الله أسلوب القصة، والقصة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية ليست أسطورة أو حديثا مفترى إنها حقيقة واقعية يوردها الله في كتابه العزيز أو يحدث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للعبرة والموعظة ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من التشويق والإقناع والتركيز في الأذهان لما يراد تركيزه وهذا الأسلوب كثيرا ما يستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في إرشاده وتوجيهه لأصحابه ومن روائهم أمته. هذا الحديث يروي قصة رجل كلن في ارض لا حياة فيها (لا يسكنها احد) ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، نام هذا الرجل فلما استيقظ لم يجد راحلته فاجتهد في البحث عنها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واصفا الحال التي آل إليها: (حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده وعليها زاده وشرابه). يا له من تصوير دقيق لحال هذا الرجل الذي نام وهذا طبيعي واستيقظ فلم يجد راحلته واجتهد في البحث عنها إلى أن اشتد عليه الحر واخذ منه التعب مأخذه هنالك قرر أن يعود إلى مكانه الذي فقد فيه راحلته لينام ولينتظر الهلاك المحقق وقد يئس من النجاة فهو ينتظر الموت فلما استيقظ وجد راحلته بجانبه وعليها زاده وشرابه هنا تنتهي قصة هذا الرجل لتبدأ العبرة والموعظة والدرس وما يريد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أن يركزه في أذهان أصحابه وأمته فالجميع يسلم أن فرحة هذا الرجل براحلته التي فيها نجاته من الهلاك المحقق (الزاد والشراب) إنها فرحة لا توصف يقول عليه الصلاة والسلام مبشرا عباد الله المؤمنين (فالله اشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده) سبحانه وتعالى ما أكرمه وما أحلمه وما أرأفه وما ألطفه من رب، فهو سبحانه وتعالى الغني عن عباده الذي لا تنفعه الطاعات ولا تضره المعاصي فهو اشد من فرحة بتوبة عبده المؤمن من فرحة هذا الرجل بزاده وراحلته. ويشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر إقبال الله على عبده التائب المنيب بقوله فيما يرويه عن ربه (إذا تقرب إلي عبدي شبرا تقربت إليه ذراعا وإذا تقرب إلي عبدي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) ولله المثل الأعلى إذ المراد أن الله هو الأشد إقبالا على عبده المقبل عليه. إن الله تبارك وتعالى يبسط يده في الليل وفي النهار لتوبة عبده وينادي مناد من عنده كل ليلة في الثلث الأخير هل مت تائب فأتوب عليه؟.. فهو الغفار (واني لغفار لمن تاب) (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) تلك بعض من آيات الكتاب العزيز المبشرة لعباد الله المؤمنين والتي بينتها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخبر أمته بأن الله جعل الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما لقد جعل الله مواسم لأمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام منها شهر مبارك عظيم فهو شهر امة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام انه شهر رمضان شهر الصيام والقرآن شهر تغلق فيه أبواب النار وتفتح فيه أبواب الجنة وتصفد فيه الشياطين وتنطلق فيه ملائكة الرحمان تغشى عباد الله الصائمين هؤلاء الذين اقبلوا على ربهم تائبين منيبين مستغفرين لما وقعوا فيه من الذنوب والخطايا ليجدوا ربا غفورا توابا رحيما يفرح بتوبتهم وعودتهم إليه وهو الغني عن أفعالهم والذي لا تضره معاصيهم فالمحروم هو الغافل عن مثل هذه المواسم فلا يغتنمها ويواصل اقتراف المعاصي والوقوع في الموبقات ولا شك انه سيندم عندما يفضى إلى ربه أما المؤمن المتعظ بنفسه وغيره فهو من يسارع إلى التوبة وطلب المغفرة من ربه الذي وعد عبده المؤمن بغفران الخطايا ومحو السيآت وإبدالها حسنات وهو على كل شيء قدير.