مظاهر بر الوالدين في حياتهما وبعد وفاتهما

مظاهر بر الوالدين في حياتهما وبعد وفاتهما


تعود بعض الناس أن يجعلوا من يوم العيد بعد آداء الصلاة أو يوم الجمعة التي تلي العيد فرصة لزيارة موتاهم في مقابرهم للترحم عليهم وقراءة ما تيسر من القرآن الكريم على أرواحهم وإهداء ثواب ذلك اليهم ويزيد البعض فيتصدقون بما تيسر لهم من المال والطعام على المساكين والمحتاجين وفي الغالب يكون ما يقصده هؤلاء الزوار هو قبور آبائهم وأمهاتهم باعتبارهم الأقرب اليهم (وأولوا القربي أولى بالمعروف) وباعتبارهم الأكثر تفضلا عليهم بعد الله تبارك وتعالى وهذه الزيارات هي جزء من واجب ردّ المعروف من الأبناء نحو الآباء وهذا الموضوع باعتباره واقعا تعيشه الأسر والعائلات ويعيشه العدد الكبير من أفراد المجتمع لا يمكن أن يمر دون أن نفصل فيه القول ونتبين فيه الجائز من غير الجائز إنارة للسبيل وتحصيلا للأجر والثواب وبر الوالدين أوجب الواجبات نبدأ ببيان حقوق الآباء والأمهات على أبنائهم لنؤكد ونلح على ان اوجب الواجبات على المسلم التقي الورع المطيع لربه والممتثل لأوامره والمجتنب لنواهيه هو من يحسن معاشرة ابويه باعتبارهما يأتيان بعد الله مباشرة في الإحسان اليه وإسداء المعروف له ولأجل ذلك نصت الآيات القرآنية الصريحة على تقديم بر الوالدين على كل الطاعات الأخرى سوى الفرائض والأركان فقد قال جل من قائل (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) الإسراء والإحسان الى الوالدين ورد على عمومه وشموله هنا ولكن آيات أخرى نصت على جوانب من هذا الإحسان مؤكدة قبل ذلك على وجوب اجتناب كل ضروب وأوجه ومظاهر الإساءة والعقوق بالوالدين محرمة الأدنى والأقل حتى لا يفكر مجرد التفكير في ما هو أكثر من ذلك لهذا يحرم المولى سبحانه وتعالى مجرد التأفف (ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما )الإسراء (منهج بر الوالدين كما يرسمه الاسلام ) اذا امتثل المسلم فاجتنب اتيان أي مظهر من مظاهر الإساءة والأذى المعنوية أو المادية فإن ما ينبغي عليه ان يبادر اليه بعد ذلك هو الرفق والرحمة واللين والعطف على الوالدين قولا وفعلا ومظهرا وتصرفا ويورد القرآن الكريم نموذجا عمليا لذلك في قوله جل من قائل (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) الإسراء فمهما تكن شدة الابن في العمل والمجتمع ومع سائر الناس فإن ما ينبغي أن يظل عليه الابن دائما وأبدا تجاه أبويه هو إظهار الضعف أمامهما والذلة لهما وهما ضعف وذلة لا تورثان إلا قوة وعزة للابن لأنهما في سبيل الله وامتثال لأمره سبحانه وتعالى ولأنهما مظهر من مظاهر الاعتراف بالجميل لمن لم يتأخرا قيد انملة عن بذل الغالي والنفيس للابن يوم ان كانا في مستطاعهما إسداء المعروف وهل يملك ابن بار وبنت بارة أن يحصيا معروف أبويهما سواء في حمل الأم وارضاعها او بذلها مع الأب للمال والجهد وحرمانهما لأنفسهما في سبيل أن ينام أبناؤهما ويشفى أبناؤهما من كل علة ومرض؟ كل ذلك عاشه و يعيشه الأبناء والبنات حيث يرون رأي العين ويلمسون عمليا الاندفاع الجبلي البعيد عن الحسابات والأطماع والأغراض من الآباء والأمهات لبذل كل معروف وجلب كل نفع وخير لأبنائهم وبناتهم وصرف كل شر وضرر عنهم وسبحان الله الذي جعل ذلك في كل والد ووالدة ولأجل ذلك أعطى الاسلام للوالدين في هديه وتوجيهه حيزا واسعا من الاهتمام تعويدا للمسلم على الاعتراف بالجميل وتقييده بالشكر ومحاولة ردّ بعضه إن كان في المستطاع ومن المستطاع المعاملة بالمعروف والإحسان والرفق واللين والعطف والرحمة بالواليدن خصوصا عندما يبلغان من الكبر عتيا ويكونان في أشد الحاجة الى من يقف بجانبهما ويواسيهما ويرحم ضعفهما فإذا جاز لكل الناس أن ينكروا للانسان معروفه ويبتعدوا عنه ان انقطع نفعه عنهم فإن من يجب عليه ان يظل دائما والى آخر رمق مثالا للاعتراف بالجميل هم الأبناء (بر الوالدين مقدم في الاسلام على الجهاد) ولأجل ذلك اعتبر الاسلام بر الوالدين وحسن معاشرتهما والإحسان إليهما أولوية من الأولويات وقد قدمها رسول الله على الجهاد قال عليه الصلاة والسلام لمن جاءه يستأذن في الخروج للجهاد (هل من أبويك من هو على قيد الحياة؟ قال نعم فقال رسول الله ففيهما فجاهد) وجاء من يسأل رسول الله من اولى الناس بحسن صحابتي قال عليه الصلاة والسلام أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك وأمّن رسول الله على دعاء جبريل الذي قال بعدا عن الجنة لمن أحيا الله له أبويه أو أحدهما ولم يدخل الجنة كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن بر الوالدين كفيل بتفريج كروب الدنيا والخروج من مضايقها ومصائبها حين قص قصة الثلاثة الذين آواهم سيل الى غار سدته عليهم حجارة ولم ينقذهم من الهلاك المحقق الا توجه كل واحد منهم الى الله بالدعاء بعمل صالح قام به لوجه الله فأحد الثلاثة قال أنه كان يرعى غنما ولا يعود الى بيته وأولاده كل يوم إلا بعد أن يسقي أبويه من اللبن الذي يعود به وذات ليلة وجد أبويه نائمين فلم يشأ أن يزعجهما وبقي عند رأسيهما لم يذهب إلى أبنائه واهله إلا عندما استيقظا عند طلوع الفجر هنالك سقاهما من اللبن الذي معه وانصرف فكان هذا الصنيع منه موجبا لتفريج هذا الكرب الذي حل به وهذا الهلاك المحقق له (بر الوالدين غير المسلمين واجب) ولم يقصر الإسلام الأمر بالبر على الوالدين المسلمين فقد استأذنت السيدة أسماء رضي الله عنها رسول الله في بر أمها التي لم تكن على دين الاسلام فأذن لها وما لم يجزه الاسلام من طاعة الوالدين هو الشرك والكفر والمعصية إن امر به الوالدان فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال جل من قائل (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ) لقمان ان منهج الاسلام يأبى الخلط ولا يرضى بغير الانصاف والاعتراف لأصحاب الحقوق بحقوقهم حتى لو كانوا على غير دين الاسلام فأمر الدين لله سبحانه وتعالى (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) القصص(لا إكراه في الدين) البقرة (لكم دينكم ولي دين) الكافرون (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل ومن الموعظة الحسنة المؤثرة في الأنفس التأثير البالغ أن يحفظ الأبناء والبنات حقوق آبائهم وأمهاتهم ويرعوها حق رعايتها حتى لو كان هؤلاء الآباء والأمهات على غير دين الاسلام وما أروع أن يتوجه الأبناء والبنات الى الله بالدعاء كي يرحم الآباء والأمهات ويرحم ضعفهم بعد أن ردوا الى أرذل العمر (زيارة قبور الوالدين من أسباب تحصيل البرّ بهما) ولا يكتفي الإسلام بدعوة الأبناء والبنات الى الإحسان لآبائهم وأمهاتهم عندما يكونون على قيد الحياة فذلك ولا شك مقدم وهو الفرصة المواتية للإحراز على مرضاة الله وجزيل ثوابه و يوفر الإسلام للأبناء والبنات فرصة تعويض ما فاتهم في حياة آبائهم وأمهاتهم بأن جعل إكرام صديقهما وصلة رحمهما وزيارة قبريهما من الأسباب التي يتحقق بها بر الوالدين بعد وفاتهما فليس في الإسلام فاصل بين عالم الغيب الذي يمثل الموت وما بعده وبين عالم الشهادة الذي هو الحياة الدنيا التي نحن فيها وكثيرا ما كان العمل للآخرة تتحقق بها مصالح عاجلة في هذه الحياة الدنيا للأفراد و الأسر والمجتمع مزيد ترابط وتلاحم وتعاون وتضامن وفي هذا السياق أيضا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابن آدم إذا مات ينقطع عمله إلا من ثلاثة أوجه صدقة جارية وعلم بثه في صدور الرجال وولد صالح يدعو له سواء كان ذلك بلسانه أو بفعله الحسن فيترحم الناس الذين ينالهم خير ذلك الولد على والديه كما أخير الرسول صلى الله عليه وسلم ان الجزاء يعجل للمسلم في هذه الحياة الدنيا وهو من جنس العمل وذلك عندما قال بروا آباءكم تبركم أبناؤكم ومنهج الاسلام في هذه القضية هو التراحم والتواصل على عمومه فقد قال عليه الصلاة والسلام ليس منا من لم يوقر كبيرنا ولم يرحم صغيرنا ولكي تظل الصلة وثيقة بين الأبناء والآباء وبين الأصول والفروع جعل الإسلام هذه الصلة تتجاوز عالم الأجساد الى عالم الأرواح وتتجاوز الحياة الدنيا الى حياة الآخرة ومن هنا جاء الندب بزيارة قبور الآباء والأمهات والترحم عليهم وقد كان الإسلام في بداية ظهوره ينهى رسوله عليه الصلاة والسلام عن زيارة القبور باعتبار ان العرب في تلك الفترة كانوا حديثي عهد بشرك ووثنية ولكن لما تركزت العقيدة ورسخت في القلوب واستبانت معالمها أذن رسول الله بزيارة المقابر لأن أقل ما فيها تذكر الموت هادم اللذات والذي لا مفر منه وفيه من العبر والدروس ما يردع الحي عن الشر والضرر قال رسول الله (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) كما اذن لأصحابه وعلمهم كيفية الزيارة الشرعية التي تتسبب للقائم بها في تحصيل الأجر والثواب لنفسه وإلحاق دعوات لذلك الميت بالترحم عليه فليس بين عالم الأجساد والأرواح فاصل وقد ثبت في عديد النصوص والآثار ان الروح تأتي قبر صاحبها وتفرح بزائرها وتنتظره ولا شك أن الآباء والأمهات وذوي الأرحام هم أصحاب حق في زيارات الترحم عليهم يخفف بها الله عليهم وترفع بها درجاتهم فذلك من العمل الذي لا ينقطع وصول أجره اليهم (زيارة المقابر ما لها وما عليها) وما يقوم به الناس اليوم في المجتمع من تخصيص العيد أو الجمعة التي تلي العيد لزيارة موتاهم للترحم عليهم هي في الأصل جائزة بل مستحبة ومندوبة وهي لا شك تبلغ درجة الوجوب بالنسبة للأبناء الأحياء نحو الأباء والأمهات الأموات ولا أحد ينكر ذلك وإذا كان يوم العيد هو يوم فرحة وسرور على تكريم الله لعباده وتوفيقه لهم لطاعته إبداء معالم الزينة والفرحة بكل المظاهر التي لا تتسبب في الخروج عن دائرة الشرع فما يخشى منه بالنسبة للزيارة يوم العيد هو أن ينقلب يوم الفرحة الى يوم حزن وذلك لا شك غير مقصود ولا محبذ فللفرحة اوقاتها وللحزن المشروع اوقاته التي لا يقول فيها المؤمن إلا ما يرضي الرب على حد تعبير رسول الله تدمع العين ويحزن القلب وانا على فراقك يا ابراهيم لمحزونون ولا نقول الا ما يرضي الرب ذلك هو هدي سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الرسول الانسان الأب الذي يتألم ويفرح كما يفعل كل الناس ومع ذلك فإن الزيارة للمقابر والترحم على الموتى سواء كان ذلك يوم العيد أو الجمعة او بقية الأيام ما دامت تقع وفق الآداب الشرعية بعيدة عن الهرج والفتنة وفي سكينة وخشوع ووقار فهي لا تأتي إلا بخير للقائم بها ولمن وقعت زيارته وأقل ما فيها الاعتبار والتدبر وصدق رسول الله الذي قال (كفى بالموت واعظا) ومما يجعل هذه الزيارات تؤتى ثمارها وثوابها المرجو ان يحرص الزائر على اجتناب المنكرات والبدع والمحرمات واعتبار الزيارة عبادة وطاعة وقربة لله تبارك وتعالى فلا ينبغي أن تختلط بسواها من المفسدات والمهلكات فبمثل ما يعظم به الأجر والثواب في المواسم والأماكن ذات الخصوصية فكذلك فإن الذنب يعظم ويشتد غضب الله باعتبار الزمن والمكان الذي يقع فيه اقتراف ذلك الذنب (ضرورة التوعية والتوجيه بكل الوسائل) وما تحتاج اليه الزيارات للمقابر بالخصوص في المناسبات الكبرى المتعارف عليها والتي أصبحت أعرافا هو المزيد من التوعية والتوجيه والإرشاد حتى لا تختلط الأمور ولا تلتبس وسبيل ذلك أن تواكب هذه الزيارات خطب جمعية ومواعظ وإرشادات من طرف أهل الذكر والشيوخ والعلماء الأفاضل للذين يحرصون على أداء هذه القربة والصلة لآبائهم وأكثرهم من النساء الأرامل والأمهات والبنات والأخوات وهن الأرق مشاعرا والأشد أسفا على فراق العزيز لذلك وجب توعيتهن وترشيد زيارتهن وتنبيههن الى المزالق والمخاطر المؤدية لا قدر الله الى غضب الله وعقابه وذلم من مثل إبداء الزينة وعدم الاحتشام أو نصب موائد الأكل والشرب بجانب القبور أو الجلوس عليها أو رفع الأصوات بالبكاء والعويل والصراخ أو اللغو والحديث بغير ذكر أو دعاء واستغفار للميت فحرمة الميت كحرمة الحي وهو أشد أذى بالمنكرات انه طالب رحمة وغفران ومنتظر لدعاء خير فلا ينبغي ان نحرمه من هذا الأجر والثواب العظيم ولا شك ان عملا متواصلا وهادئا حكيما في هذا المجال مؤد للنتيجة المرجوة التي هي تحصيل للأجر والثواب للأحياء والأموات ولن يكون ذلك بغير الاستهداء والاسترشاد بهدي سيد العباد عليه الصلاة والسلام الذي لم يترك في هذا المجال وغيره حاجة الى زيادة زائد ولله الأمر من قبل ومن بعد وهو المبتغى والمراد



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.