الفقر المعنوي توطئة للتخلف المادي
نشاهد كثيرا من الأمم التي قطعت في ميادين العلم والحضارة أشواطا بعيدة لم تهمل مبادئها الروحية، ومعتقداتها الدينية، بل تعطي لكل جانب من جوانب الحياة، ما يستحقه بدون أن يضيع شيء في شيء، أو تقع التضحية بواحد على حساب الآخر وهذا دليل نضجها واكتمال رشدها، بل واعتقد أنه ضمان نجاحها وخلود مجدها اذ الانسان بدون المثل الأخلاقية العليا، والقيم الروحية الخالدة السامية، يفقد أجل مميزات انسانيته، ويرجع بخطى سريعة إلى حيوانيته الحمقاء، ويقضي بسرعة مهولة على ما تبنيه أجيال وأجيال وهذا الارتكاس المشين، والخبط الأرعن كثيرا ما تقع فيه الشعوب التي ظلت حقبا من الدهر مغلوبة على أمرها ثم تهيأت لها الفرص للتحرر والانعتاق فإنها حينما تنهض من كبوتها وتأخذ زمام أمورها بيدها تؤمن أول ما تؤمن بأن الذي سبب لها ما كانت فيه من بلاء وهوان هو تخلفها المادي. وضعف الوسائل الآلية التي تصد بها غائلة الأعداء الزاحفين وتنظر إلى ما بينها وبين الخصم من أبعاد في هذه المجالات فتنكب على الأخذ بجميع الوسائل المادية كما ينكب الجائع النهم على قطعة الطعام التي ترقبها زمانا وهو لا يدري ما وراء الشبع من كضة وما وراء الكضة من علة أو موت حقيقة إن التخلف المادي خطر على حياة الشعوب وأي خطر بيد انه لا يكون ابدا إلا إذا سبقه الفقر المعنوي الذي هو توطئة له في كل زمان أو مكان ذلك هو الإملاق الحقيقي والتخلف المستمر الذي هو أشبه شيء بالنار الباردة تحرق الثياب وتأكل اللحم و لا ينظر أثرها ولا يحس وقعها إلا بعد نزول الكارثة وهذا بعينه هو ما حدث في عصور انحطاطنا المعنوي الذي سبق انحطاطنا المادي ووقعنا بسببها فريسة بين مخالب السباع تمزقها شر ممزق. وانه لمن المؤسف حقا ان نرى بعض شبابنا المسلم في كل البلاد الإسلامية تبهره المادية إلى درجة يصبح معها عبد المادة لا يؤمن بشيء سواها ولا يحاول الالتفات أبدا إلى ما تركه الجدود ويريد بكل جوارحه أن يتخلص من الماضي كيفما كان شكله ولونه حتى يصل به الحال إلى القول بأن كل شيء ورثناه من الأباء والجدود بما في ذلك الدين هو سبب بقائنا في مؤخر قافلة الحياة فيجب أن نطرح عن كواهلنا كل ذلك. وندخل إلى الحياة من الأبواب التي دخل منها الناجحون فيها المتحكمون في مصائرها. وهذه الحرقة والشعور بالحاجة والعزيمة أشياء جميلة ومحببة في شبابنا ونباركها فيه غير أننا نذكره بأن تكاليف الدين وشعائره لم تقعد بأجدادنا الذين طبقوها بإخلاص وايمان بل العكس هي التي جعلتهم يتغلبون على كل خصم مهما كانت قوته وهي التي فتحت في وجوههم أقاصى المعمورة ومكنتهم من ناصية الكون وجعلت الفرس والرومان يستكينون لسلطان العرب والمسلمين وما جاء الضعف والانحلال والتفكك إلا بعد أن أهملوا مبادئ دينهم وفرطوا في أعظم تراث حباهم الله به وحسدهم عليه أعمق المفكرين تفكيرا وأعظم الفلاسفة فلسفة وأكثر العلماء علما آنئذ حلت بهم النكبات وتفرقوا وضاعت القوة المادية تبعا للقوة الروحية. واننا لو التفتنا إلى الأمم التي نجعلها مثلا أعلى في الحضارة والعلم وتأملنا بعين الإنصاف المجردة في سلوك أبناء وبنات تلك الأمم ونظرنا إلى تصرفاتهم مع معتقداتهم وأديانهم، فإننا سنقول من باب إحقاق الحق انهم خير منا مع أديانهم، وانهم أشد تمسكا بها رغم تباعد أزمنتها ورغم فقرها بالنسبة لديننا. نرى آلافا وآلافا من الشبان المسيحيين والشابات المسيحيات يعلقون في أعناقهم صليبا كشعار للتمسك بالدين وانه أقدس شيء في حياتهم، وتضرب نواقيس الكنائس يوم الأحد أو في قداس ديني فتكتظ الكنائس لا بالشيوخ والعجائز وحسب بل بجميع أبناء المسيح وبناته يؤدون ما يرونه عبادة لله وغذاء للأرواح ويخرجون إلى الحياة مؤمنين وأعظم من هذا وأعمق ما نشاهده في الأفلام عن أوروبا وأمريكا عن أداء واجب الشكر لله عند تقديم الطعام وعند الانتهاء منه بمطأطأة الرؤوس وقبض الأيدي والتمتمة بكلمات العبادة والتقديس فهل عاقتهم صلاتهم وكنائسهم وعبادتهم عن غزو الفضاء؟ وهل تخلفت بهم في ميادين العلم والاختراع؟ أنا أعتقد أنها مما يشحذ عزائمهم ومما يقوي ثقتهم بأنفسهم وبالله. وإن أداء ما افترضه الله على المسلم لا يزيده إلا نظافة ونظاما ونشاطا وحبا واتحادا. ولا يضيع له من وقته عشر ما يقضيه في الملاهي والمقاهي ولا يضيع له من جهده وقوته عشر ما يقضيه في الرياضات الأخرى التي قد تنفع وقد تضر أو تنفع أقواما ولا تنفع آخرين أما عبادته فهي نفع محض بالنسبة للفرد وعلم شامل بالنسبة للجميع فلماذا يفر المسلم من دينه وهو قوته وسعادته وفلاحه؟ ولماذا لا يقوم بشعائره وفيها كل أسباب المناعة والقوة وفيها الازدهار والعيش الرغيد؟ ما لنا نرى اخواننا موزعين متفرقين في نظرتهم إلى دينهم فمن ناشز ونافر ومن سطحي يخاله عقيدة في القلب لا تقيد الجوارح ولا تحدد السلوك ومن جاهل مغرق يظن أن دينه يفصل بينه وبين الحياة؟ إن الدين واحد فالنظرة إليه يجب أن تكون واحدة وانه عقيدة وعمل وانه القوة الروحية التي لا تغلب والتي بدونها لن نحقق شيئا. فمن لم يخلص لدينه وقومه فلا خير للانسانية فيه ولا يعلق عليه أمل وهو طريد ومشرد تائه لا تطمئن إليه نفس ولا يثق به أحد حتى أولئك الذين يهيم بحضارتهم وعلمهم ويجعلهم المثل الأعلى. فإنهم يقولون في قرارة أنفسهم لو كان فيه خير لوجده فيه دينه ولو كان يملك الإخلاص لأخلص لعقيدته ولو كان له ضمير لأحب قوميته وافتخر بتراثه فأي أرض تقله وأي سماء تظله ليعيش مع التائهين أو ليرجع إن شاء إلى اليقين.