مفاهيم إسلامية:آفة التهافت على المسؤولية
ليس هناك من التكاليف المناطة بعهدة الإنسان ما هو اشق حملا وأعظم تبعة من تحمل المسؤولية لان كل ذي نظر حصيف يدرك تماما أن ما عليه من واجبات نحو نفسه وربه وما عليه من حقوق نحو أهله وبنيه ومنظوريه وما عليه أيضا من حقوق وواجبات تندرج في نطاق العموم كحق المواطنة وكحقوق الدين والجوار والنسب والصحة قلت ما عليه من هذه الحقوق والواجبات الحالة بدون تكليف وإنابة وتحمل تستنفد جهده وطاقته وتستغرق جميع أوقاته وهو وان مد له في عمره ورزق مع ذلك العافية والحيوية والإمكانيات فسوف يخرج من هذه الدنيا وهو لم يستوف ما يطلب منه لان من جربوا الحياة قبلنا قالوا وهم صادقون (يموت ابن آدم ولا تنقضي حوائجه) وانه لمن البله والجنون وعدم تقدير العواقب أن نرى أناسا يتهافتون على المسؤولية ويسيل لعابهم من اجلها يجرون وراءها في كل سبيل ويخطبونها بكل مهر وهم لم يؤدوا ما حملهم به الله من مسؤوليات وواجبات نحو أنفسهم ونحو من ذكرنا آنفا فما مثل هؤلاء إلا كمثل من قام ليصلي نفلا وهو مطالب بفروض حتمية يتلدد في أدائها ويتهاون بها، وما مثلهم أيضا إلا كمثل من يترك أطفاله الصغار جياعا ويتظاهر بأنه من أهل البر والإحسان فيتصدق على جائعين آخرين ولو فتشنا عن أسباب تنفله وتصدقه لوجدنا أسبابا أخرى غير التقوى والرحمة والكرم وليست من جنسها بل هي من نقائضها لان التقوى إنما تظهر أولا في ترك المحرم وفعل الواجب الذين يستوجبان الثواب والعقاب والكرم والرحمة إنما يظهران أولا وبالذات في نفسك واقرب الناس إلى فؤادك فما هي إذا دوافع هذا التنقل والتفضل والتطول؟ إنها بدون شك المخاتلة والخبث للوصول إلى أغراض خسيسة يتنزه عنها الأبرار الأخيار، لأنها لا تخلف وراءها إلا العار والشنار وسوف يأتي يوم قريب من كل احد تهتك فيه جميع الأستار وتفشي مغلفات الأسرار. ومهما تكن عند أمريء من خليقة * وان خالها تخفى على الناس تعلم إن تحمل المسؤولية في حد ذاته ضرب من الفدائية والبطولة والإيثار وانه لمن الدعائم التي أقيم عليها عمران الكون وحرضت عليها الشرائع السماوية ولولاها لبقي الناس كغنم ضل رعاتها كلما جمعت من جانب تفرقت من آخر، ولكانوا مصداق قول ذلك الحكيم الذي قال منذ أحقاب: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم * ولا سراة لهم إذا أجهالهم سادوا اجل لابد من مسؤوليات عامة ولابد من أبطال فدائيين ومؤمنين يقظين يتحملون تلك المسؤوليات بأمانة واقتدار لتصل الحقوق إلى ذويها وليقع تخليص الضعاف من أيدي الأقوياء وشرورهم وليكون أصحاب المسؤوليات شموعا تحترق لتضيء على الآخرين، فهي إذا بهذا الاعتبار ضرب من البطولة والتضحية لأنها تعقد الصبر على المكروه وحرمان النفس من لذائذها وشهواتها والتقدم في حالات البلاء والحرمان، وتقديم الغير في حالات الجزاء ومادامت المسؤولية تعني هذه المعاني ولا تتحمل غيرها فإنها لن تكون أبدا من الأمور السهلة الهينة التي يستطيعها الأقوياء والضعاف والأتقياء والفجار بل إن أهلها قوم مختصون توجد فيهم أوصاف لا توجد في سواهم وكثيرا ما يتلحفون بالغموض والتستر ويلوذون بأذيال الفرار لأنهم يجدون للبر والمعروف مجالات كثيرة يمارسونها فيها ويأتون بما يملأ فراغ أنفسهم العطاش إلى الخير ولأنهم أيضا ينزهون أنفسهم عن التدلي في حضيض التافهين المتهافتين فيسدل عنهم ستار النسيان ويكدحون في الأعمال الجانبية والشخصية حتى حين ساعة مغادرتهم لهذه الدنيا المظلمة فيغادرونها وهم كنوز مطلسمة لم تفتح ولم يستغل ما تحتويه ولكم تكررت هذه الصور في الحياة منذ أقدم عصور التاريخ ولكم حرمت الإنسانية من طاقاتها المعطلة وكنوزها المغمورة والأمر لله كيفما شاء فعل. إن كثيرا من الفضلاء الأخيار يودون أن يعيشوا محمولين على غيرهم حتى في صلاتهم التي يقدمونها بين يدي ربهم فهم يودون أن يصلوا مأمومين وإذا قدموا للإمامة تحرجوا من ذلك أيما حرج وتمنوا أن لو صلوا فرادى خير لهم من أن يعلقوا صلاة جماعة كبيرة في أعناقهم ولقد رأينا من أمثال هؤلاء كثيرا في صدر الإسلام من أمثال عمير بن سعد وسعيد بن عمر وغيرهما ممن أرغمهما الفاروق على الإمارة وتحمل المسؤولية فاتوا فيها بالعجب العجاب، وإننا لا نشاطر إخواننا المتسترين المتهربين تسترهم وتهربهم الكبيرين بموجب احتياطهم لدينهم ودنياهم اللهم إلا إذا كان في الميدان من تطيب له النفوس وتتوفر فيه الشروط، أما إذا أقفر الميدان من الفضلاء النبغاء ولاذوا كلهم بأذيال الفرار مؤثرين السلامة والتعفف والتفرغ للمسؤوليات الخاصة وهي كثيرة وكثيرة جدا فان ذلك قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه من ترك الواجب الكفاءي بالتمالي ولا يخفى أن الواجب الكفاءي ينقلب عينيا في حالة التمالي على الترك وفي حالة تمحظ الأهلية في شخص أو أشخاص، فإنه والحالة هذه يصبح عينيا على الشخص والأشخاص وكفائيا بالنسبة لباقي الأمة، فما أعمق نظرية الإمام سحنون رضي الله عنه وما أدقه من مأخذ اخذ به فأفحم الأندلسيين، هذه هي المسؤولية وهذه هي النوافذ التي يجب أن ينظر إليها ومنها وإذا فهمت المسؤولية على هذا الأساس ممن يأخذونها ولمن يعطونها وأيضا ممن يفرون منها فان الأمة تكون بخير لان درجة رشدها ووعيها قد ارتفعت وبذلك تحالفها السلامة وتأمن من العثار والانزلاق.