خطبة جمعية: الحب في الله ألقاها الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي بالحامع الكبير بمقرين العليا
الحمد لله الذي فتح لنا بالإسلام أبواب الرحمات ووعدنا في الآخرة بدخول الغرفات. وأشهد أن لا إله إلا الله القائل (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بين قلوبهم) وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله أرسله الله منقذا للبشرية وهاديا لكل البرية صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد أيها المسلمون فعلى بركة الله وبتوفيقه نواصل شرح الحديث النبوي الشريف (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما وان يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار) ولقد أتينا في الأسبوعين الماضيين على معاني أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ونواصل اليوم شرح الشرط الثاني: وهو ان يحب المرء لا يحبه إلا لله. ما أعظمه من غرض نبيل كرّس الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم حياته من أجل تجسيمه في نماذج بشرية خالدة بتأييد إلهي وعون رباني أحال أجلافا من العرب إلى عباد مؤمنين يحبون الله ويحبون بعضهم. ولمعرفة وإدراك عظم الرسالة والمجهود الذي بذله الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام علينا أن نتعرف على الحالة التي كان يعيش الناس عليها قبل البعثة النبوية الشريفة وقبل بزوغ رسالة الإسلام العظيمة وها هو ذا جعفر الطيار جعفر ابن أبي طالب يصور لنا الحالة التي كان عليها المجتمع الجاهلي والتحول الكبير الذي أحدثته مبادئ الإسلام وبعثة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام لقد قال رضي الله عنه وهو بين يدي النجاشي وكان يتحدث باسم الوفد المهاجر قال (أيها الملك كنا قوما اهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وامانته وعفافه فدعانا لتوحيد الله وألا نشرك به شيئا ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وأمرنا بالصلاة والصيام..قال جعفر فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحلّ لنا..) لقد أحسن جعفر التصوير فقد كانوا كذلك وأكثر من ذلك يتطاحنون ويتقاتلون لأتفه الأسباب، لا شفقة ولا رحمة بينهم يئد الواحد منهم ابنته وهي حية كل ذلك لأجل عزّة موهومة واباء كاذب جاء الإسلام فاجتثه واجتث كل ما يشابهه من الأعمال الدنيئة والتصرفات المشينة التي لا يمكن أن يقوم بها بشر ذو كبد حرى ولكنها الانسانية كلما ابتعدت عن وحي السماء ومنهج الله وطريق الرشاد وكلما انحرفت عن الصراط وألهت هواها وجرت وراء غاياتها بدعوى التحرر من العبودية كلما فعلت ذلك في أي زمان ومكان إلا وفقدت انسانيتها، فقدت مميزاتها وانتكست إلى الحضيض وصار لا فرق بينها وبين الذئاب الضارية والوحوش المفترسة حتى في قرننا هذا كلما فقدت حياة الناس القيم الروحية إلا وارتكبت أشنع الجرائم وأبشع المجازر وما الحروب التي يتوالى اشتعالها في مناطق شتى من العالم وفي بعض الأحيان بين الاخوة الأشقاء الذين يربطهم أكثر من رباط: رباط اللغة ورباط الدين ورباط الوطن ولكن رغم ذلك يتقاتلون ويتناحرون ويتشاجرون ويتخاصمون من أجل أتفه الغايات وأبسطها كل ذلك دليل قاطع لا يقبل الشك والجدال أنه لا يمكن بدون مبادئ السماء الخالدة وقيمه السامية لا يمكن بناء مجتمع مطمئن اتجه الاسلام مباشرة إلى العلاقات بين الأفراد فمتنها وقواها وبناها على اسس ثابتة وقواعد قوية لا تهتز. إن الإسلام في منهجه الفريد في الربط بين الأفراد يتجه إلى القلوب والجواهر ويدع الأعراض الزائلة الفانية. إن الإسلام يضرب عرض الحائط بكل الروابط الأخرى إذا كانت على حساب الدين والعقيدة ويقرر منذ البداية أن الأخوة الحقيقية ليست إلا أخوة العقيدة فقط أخوة الإيمان وصدق ربنا حين قال (إنما المؤمنون اخوة) آخى الإسلام بين عمر بن الخطاب وسلمان الفارسي وبلال الحبشي صهرهم جميعا وآخى بينهم فامتزجت أرواحهم وانصهرت أجسادهم في مجتمع واحد متكاتف متآلف يساس على التقوى لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى (كلكم من آدم وآدم من تراب). إن بلال أقرب وأحب إلى الرسول من أبي لهب وأبي جهل وغيرهم من أئمة الكفر وهكذا تميز المؤمنون عن غيرهم وتحابوا فيما بينهم وتحابوا عن غيرهم وتحابوا فيما بينهم وتآلفوا وتكاتفوا فأخرجوا للدنيا نماذج لا يربط بينها إلا رباط العقيدة وما أعظمه من رباط وهكذا هاجر المسلمون من مكة تاركين أهلهم وذويهم لا لشيء إلا لأنهم يخالفونهم في العقيدة ويحاربونهم من أجل ايمانهم. فوجدوا في المدينة قوما يحبونهم لله وفي الله يتقاسمون معهم كل شيء ويؤثرونهم على أنفسهم. وصدق الله العظيم حين قال (والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) صدق الله العظيم هكذا كانوا آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك أخوتهم وزكاها ونماها بتصرفاته وأقواله وأفعاله بإرشاده واقراره بنهيه وأمره فينشأ في مدة وجيزة مجتمع الإسلام مجتمع المحبة محبة الله ورسوله ومحبة أفراده بعضهم لبعض. قال صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ما أروعه من تمثيل وتشبيه للمسلمين بالجسد الواحد فهل من يصاب في عينه لا يتألم بقية أعضاء جسده؟ كلا لا يوجد فصل في الإحساس كذلك فإن المؤمنين حسب هذا الحديث جسد واحد يتغذى من بعضه ويتألم لألم بعضه ويزيد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى تأكيدا بقوله للمؤمنين التائقين لدخول الجنة (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم. أفشوا السلام بينكم) وهكذا ربط بين المحبة والتآخي ودخول الجنة ثم أرشدهم إلى الدواء الناجع والمعين لهم على التحابب والتآخي أفشوا السلام بينكم. والسلام اسم من أسماء الله فهو السلام ومنه السلام واليه يرجع السلام. والمؤمنون إذا اجتمعوا تحت لواء السلام فلا خوف ولا هم يحزنون لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة ومن الله عليهم سبحانه وتعالى بنعمة التآلف والتكاتف (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) وقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله ناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى. قالوا: يا رسول الله فخبرنا من هم؟ قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فو الله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور ولا يحزنون إذا حزن الناس) وقرأ (ألا ان اولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وهكذا أعد ربنا سبحانه وتعالى للمتحابين فيه هذا المقام فسعى المؤمنون لتحقيق هذه الغاية بينهم وتدعيم أواصر الأخوة فترسخت. ذات يوم بينما أحد الصحابة جالس بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم إذ مر صحابي آخر فقال الجالس للرسول صلى الله عليه وسلم انه يحبه في الله فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم اذهب وأخبره بذلك وبشره وان يجيب بآداب المسلم: أحبك الذي أحببتني فيه) ومن يحبه الله فهل يخاف أو يحزن هل يغلب في هذه الدار وفي الآخرة إذ الله (ولي الذين آمنوا) (إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) والمحبة في الله من أجل العبادات والقربات ومن أحب الأعمال إلى الله لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم (أفضل الأعمال الحب في الله) وللأخوة في الله واجبات على المسلم القيام بها: منها أن يحفظه وينصره ويتولاه ويعينه ويرشده ويقضي حوائجه كل ذلك في حدود طاقته وامكانه. وعلى المسلم أن يحفظ أخاه المسلم في غيبته وحضوره في ماله وزوجه وعرضه ووعد من فرج على مسلم كربة من كرب الدنيا بان يفرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) هكذا يحدد الإسلام حق المسلم على المسلم وواجب المسلم على المسلم.فحقوق المسلم على المسلم كثيرة: (لا يؤمن بي من بات شبعانا وجاره إلى جانبه جائع) وينهى الإسلام عن غيبة المسلم وأخذ حقه وظلمه والتعدي عليه والتعرض له بسوء قال صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ) وقال في حديث آخر (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم وكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) ونهاهم عن القطيعة وشدد في نهيه حتى قال (فإن مرت به ثلاث فليقله وليسلم عليه فإن ردّ عليه فهما شريكان في الأجر وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم) وقال في مقام آخر (من هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار) أخرجه أبو داود وقال صلى الله عليه وسلم (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه) وهكذا نرى عباد الله المسلمين كيف شدد الإسلام على اسباب التناحر والتباغض والتقاطع كل ذلك حرص منه على أن يظل المجتمع الإسلامي في مأمن من أسباب التناحر والتشاجر والتباغض ويتجه الإسلام مباشرة إلى أسباب التناحر بين المسلمين فيجتثها ويحل محلها قيما وغايات أسمى منها فإذا كان الناس يتشجارون ويتفاخرون في الدنيا بأموالها وقصورها فإن الإسلام يضع الدنيا في مقامها فيصفها انها لعب ولهو وان الآخرة هي الدائمة وهي الحياة الحقيقية. وان ما يملكه الانسان لن يأخذ معه منه إلا ما قدمه من صالحات (صدقات ومبرات...)