نص خطبة العيد (1433/2012) التي ألقاها الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي بالقاعة المغطاة بمنطقة سان دني St Denis (فرنسا) بحضور جمهور المصلين بجامع بلا
الله اكبر الله اكبر الله اكبر الله اكبر كبيرا والحمد لله حمدا كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا الله اكبر ما سعى في هذا الصباح الباكر المؤمنون إلى المساجد والمصليات لآداء صلاة العيد مسبحين ومستغفرين وشاكرين وحامدين لربهم على ما وفقهم إليه من صيام شهر رمضان وقيام لياليه جامعين بين الحسنيين آملين أن يكونوا بآداء هذين الشعيرتين: شعيرة الصيام والقيام من أهل شفاعة الصيام والقرآن، إذ الصيام يقول يوم القيامة-قائما بواجب الشهادة- أنا يا رب منعته الطعام والشراب فشفعني فيه ويقول القرآن أنا يا رب منعته النوم فشفعني فيه، فيشفعان. لك الحمد يا ربنا ولك الشكر على ما وفقتنا إليه وأعنتنا عليه مما أديناه بعونك وتسديدك (وما توفيقي إلا بالله) فكنا طيلة هذا الشهر المبارك، شهر رمضان المعظم، شهر امة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام كنا مجتهدين في الطاعات والقربات بشتى أنواعها وقد رأينا من أنفسنا العجب العجاب فسرعان ما إرتاضت واعتادت واشتاقت إلى الاستزادة من الطاعات. نعم أيها المؤمنون، أنفسنا هذه الأمارة بالسوء إذا ما روضناها وعودناها وجاهدناها سرعان ما تنقاد وتطيع بل وتجتهد وتجد في المجاهدة حلاوة، أنفسنا كالأطفال إذا فطمناها تنفطم. والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وان تفطمه ينفطم. اجتهدنا في التزود بخير ما يتزود به المؤمن في رحلته إلى ربه، وزاد هذه الرحلة التي لها نهاية هو التقوى وصدق الله العظيم القائل (وتزودوا فان خير الزاد التقوى) والصيام مدرسة للتقوى يقول جل من قائل مبينا الغاية من فرض الصيام (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات). لقد كانت أيام شهر رمضان أياما معدودات سرعان ما مرت على عجل، مرت العشر الأولى وهي عشرة الرحمة ثم تبعتها العشرة الثانية وهي عشرة المغفرة وكانت العشرة الثالثة وهي عشرة العتق من النيران عشرة التتويج، عشرة التشمير على الساعد تشبها واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان إذا دخلت عليه العشر الأواخر من شهر رمضان (شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله) تحريا لليلة القدر، الليلة المحمدية، ليلة لا يحرم خيرها إلا محروم غافل تقول أم المؤمنين السيدة عائشة الصديقة ابنة الصديق رضي الله عنهما (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها). ذلك هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحياء ليالي شهر رمضان ارشد إليه أمته وبلغه عنه أولئك النجوم أصحابه الكرام وآل بيته الأطهار أمهات المؤمنين الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا والذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بان نقتدي بهم ونراقب الله فيهم (الله، الله في أصحابي لو انفق أحدكم ملأ الأرض ما بلغ مد احدهم ولا نصيفه) حلف الزمان لا يأتين بمثلهم زكاهم ربهم في كتابه العزيز في أكثر من موضع (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) رضي الله عنهم وأرضاهم وجازاهم عن الأمة ودينها ونبيها عليه الصلاة والسلام خير الجزاء. الله اكبر الله اكبر الله اكبر هذا هو يوم عيدنا معاشر المسلمين، عيد يأتي بعد آداء فريضة الصيام نعبر فيه عن فرحتنا وسرورنا بما وفقنا الله إليه وأعاننا عليه رغم كل ما يحيط بنا من الفتن والملاهي والمغريات في هذا الزمان وقد اخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك والحمد لله على ذلك ترى المؤمن يقبض على دينه وكأنه يقبض على الجمر ويأبى أن يكون إمعة يقول (إذا أحسن الناس أحسنت وإذا أساؤوا أسأت) بل يحسن إذا أحسن الناس ولا يسيء إذا أساء الناس. احمدوا الله عباد الله أن جعلكم ممن اخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال (بعث هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء، قالوا: من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس ولا يمارون في دين الله). وهنيئا لكم معاشر المسلمين في هذه البلاد فانتم تجمعون بين الغُربتين: غربة الدين والغربة عن الأهل والأوطان فأجركم عظيم إن انتم صبرتم وصابرتم وتمثلتم أحسن التمثل تعاليم دينكم الحنيف وهدي نبيكم الكريم عليه الصلاة والسلام وجسمتم ذلك في سلوككم وأخلاقكم ومعاملاتكم سواء كان ذلك فيما بينكم فانتم هنا في هذه البلاد وما شابهها من أجناس وأعراق متعددة ومتنوعة فيكم العربي وفيكم غير العربي وفيكم الأبيض والأسود والأصفر ولكنكم جميعا والحمد لله أخوة يجمع بينكم الإيمان إنكم أمة واحدة (وأن هذه أمتكم امة واحدة وأنا ربكم فاعبدوني) اذكروا عباد الله وتذكروا نعمة الله عليكم فقد كنتم أعداء وألف الله بدين الإسلام وعلى يدي سيد الأنام عليه الصلاة والسلام بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا متحابين في الله متعاونين على طاعة الله متآلفين غير مختلفين يباهي بكم ربكم وهو يراكم في المساجد والمصليات وفي الجُمع والأعياد وانتم تتنافسون في الطاعات وتتعاونون على البر والتقوى وتندفعون للبذل والعطاء: تراحما وتضامنا وتآزرا فيما بين بعضكم البعض رغبة منكم في تحصيل الأجر والثواب بتفريج كروب المكروبين ورحمة الضعفاء والمحتاجين في مشهد لفت إليكم أنظار من يحيطون بكم وشهدوا لكم ولدين الإسلام بهذا الحضور الفاعل والروحانية القوية التي يحتاج إليها الفرد والمجتمع في هذا الزمان الذي طغت فيه المادة واشتد التكالب على الدنيا وضعفت الروابط العائلية. احمدوا الله أيها المؤمنون من أهل هذه الديار واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله فالأجر عظيم والمستقبل مشرق وضاء بإذن الله، فانتم أتباع نبي قال في حقه رب العزة والجلال (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). ورحمة الدين الذي انتم سفراؤه ودعاته في هذه الديار نطقت بها آيات الكتاب العزيز الذي تدبرتم آياته طيلة رمضان المبارك في صلاة القيام، آياته القائلة (يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) وقد علمكم وبين لكم رسولكم الكريم عليه الصلاة والسلام أن التقوى لا يعلمها من العباد إلا الله الذي لا تخفى عليه خافية والذي لا ينظر إلى الصور والوجوه ولكن ينظر إلى القلوب التي في الصدور. دينكم أيها المسلمون دين السلام والمحبة والوئام والرفق ينبذ الفرقة والفتنة والغلظة، انه دين يخاطب الله فيه نبيه الكريم الذي كان وبشهادة ربه على خلق عظيم (وانك لعلى خلق عظيم) ومع ذلك يقول له جل من قائل (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر). دينكم أيها المؤمنون دين الدفع بالتي هي أحسن (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم). دينكم أيها المسلمون دين الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي أحسن). دينكم أيها المسلمون دين حسن المعاشرة والمعاملة مع المسلم ومع غير المسلم. دينكم أيها المسلمون هو دين اليد البيضاء التي تمتد لكل عباد الله بغير سوء وبالخصوص أهل الكتاب حيث قال جل من قائل (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن). دينكم لا ينهاكم عن حسن المعاملة والمعاشرة لمن يخالفونكم في الدين ما لم يعتدوا عليكم. دينكم أيها المؤمنون هو دين العدل والمساواة دين يحرم الظلم والعدوان (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) النفس البشرية في دين الإسلام ولاشك أن الأمر كذلك في كل الأديان والشرائع السماوية مصانة محفوظة لا تظلم ولا يعتدى عليها مهما كان السبب، فالاختلاف بين الناس مما قضى به الله (ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم) حرام في دين الإسلام القتل والعدوان (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)، حرام في دين الإسلام التسلط والإكراه (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) دينكم أيها المسلمون دين الأمن والسلام (ادخلوا في السلم كافة). رسالة الإسلام وانتم من يحملون في هذه الديار رايتها دين محبة ودين إحسان (إن الله كتاب الإحسان في كل شيء) والإحسان هو المتوج لمسيرة المؤمن في طلبه لرضوان ربه (أن تعبد الله كأنك تراه). الله اكبر الله اكبر الله اكبر إنكم أيها المؤمنون إذا تمثلتم أخلاق دينكم وهدي نبيكم وجسمتموها في سلوككم ومعاملاتكم و(الدين المعاملة) ستحققون مرضاة ربكم وهي الغاية الأولى والأخيرة، وسيتحقق للإسلام بهذا السلوك القويم الذي يتطابق فيه القول بالفعل والممارسة خير كبير ها انتم ترون بوادره وثمرته في هذه الجموع من كل الفئات والأجيال ذكورا وإناثا وهذه المساجد والجوامع التي تشيد في كل المدن وفي كل الأحياء بجهود المحسنين الذين يبذلون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتحصيلا للأجر وتحصينا للأجيال المسلمة التي استوطنت هذه البلاد وغيرها، هذا هو الجهاد الحقيقي والفعلي، تحصين أبناء وبنات المسلمين والحفاظ على ذاتيتهم وفي ذلك الخير لهم والخير لغيرهم إذ لا يتصور من مؤمن صادق مخلص لربه أن يظلم أو يعتدي أو يحرق أو يهشم أو يتسبب في ضرر لنفسه أو لغيره ممن يعايشهم، إن أبناءكم وبناتكم وأسركم أمانة في أعناقكم وانتم مسؤولون عنهم ومحاسبون يوم القيامة عن الإهمال وعدم تربيتهم وتوجيههم والأخذ بأيديهم وما لم تقوموا بهذه المهمة وتتحملوا هذه المسؤولية وتلتفوا حول بعضكم البعض وتتناسوا خلافاتكم البسيطة فإن هؤلاء الأبناء والبنات يمكن أن تتجاذبهم التيارات الهدامة ويقعوا لا قدر الله في مهاوي الفساد والرذيلة وهي اليوم متاحة مشاعة بكل الوسائل. والحمد لله فها هي ذا المعالم الدينية المتمثلة في المسجد والمدرسة والمكتبة ومختلف الفضاءات اللازمة تشيد ومنها مشروعكم الكبير مشروع مسجد بلال في منطقة سان ديني يوشك على التمام بفضل الله ثم بفضل جهودكم الخيرة وبذلكم وعطائكم فليكن هذا العيد الذي تجتمعون فيه هذا العام في قاعة مغطاة، ليكن ذلك دافعا لكي تتموا ما بقي من أشغال ليبدأ بإذن الله العمل الديني الصحيح والشامل للعبادة والتفقه في الدين الفقه الصحيح الذي يجمع للمسلم بين أن يعيش عصره ويكتسب معارف زمانه ويتمكن منها دون أن يفرط في دينه فدين الإسلام هو دين الروح والجسد، والفرد والجماعة والعاجل والآجل (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك). ولا تنسوا أيها المؤمنون أن تهتموا بأختكم المرأة، (فالنساء شقائق الرجال) (ولهم مثل الذي عليهن بالمعروف) أحسنوا معاشرتهن (إذ خيركم خيركم لأهله) ورسولكم صلى الله عليه وسلم خيركم لأهله واعلموا أن المرأة: بنتا وأختا وزوجة وأما لها علينا حقوق ينبغي أن نرعاها وواجبات علينا أن نقوم بها اهتداء بسيرة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام الذي وقف في حجة الوداع يوصي أمته (استوصوا بالنساء خيرا) فإذا انتم أيها المؤمنون اهتديتم بما دعاكم إليه ربكم وأرشدكم رسولكم الكريم عليه الصلاة والسلام، فقد برئت ذمتكم واستوجبتم الأجر والثواب الذي وعد به الله عباده المحسنين وحق لكم حينئذ أن تسروا وتتبادلوا بالتهاني فيما بين بعضكم البعض خصوصا في مثل هذا اليوم الذي هو يوم عيد وفرحة وسرور ويوم تبادل للتهاني، وهو يوم تصاف وعفو وتجاوز خصنا الله به ووعدنا عليه بجزيل الأجر والثواب، إذ للصائم فرحتان فرحة حين فطره وفرحة يوم يلاقي ربه الذي يجازيه الجزاء الأوفى على ما بذل وأعطى وعلى ما بادر إليه بعد الصيام والقيام وقبل السعي إلى صلاة العيد من آداء لزكاة الفطر التي هي طهرة للصوم وطعمة للمحتاجين من عباد الله المؤمنين حتى تكون الفرحة عامة شاملة لا يبقى معها في أيام العيد من يفتقر إلى مستلزمات العيش من أكل وشرب ودواء وبذلك يكون المسلمون في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى) أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولوالدي ولوالدي انه هو الغفور الرحيم.