من تونس إلى المغرب إلى فرنسا.. تظاهرات علمية وروحية مولدية مشهودة تشدّ اهتمام القاصي والداني
لئن كانت كل أشهر السنة أوقاتا مناسبة تتخذ كمحطات للتزود في رحلة الحياة المليئة بالمصاعب والمتاعب بما يحتاج اليه الانسان من زاد معنوي وروحي يتحقق به له التوازن والاعتدال والاطمئنان فإن بعض الأشهر تزيد على غيرها من بقية الاشهر لخصوصيات ميّزها الله بها كشهر رمضان الذي هو شهر القرآن والصيام والقيام أو شهري ربيع الأول وربيع الثاني. فقد اعتاد الناس مشرقا ومغربا أن يجعلوا من هذين الشهرين (الربيعين) مناسبة لشحذ الهمم وتقوية الصلة الروحية بسيّد البرية عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وابداء كل مظاهر السرور والفرحة المشروعين بمنّة الله على عباده أجمعين ببعثه لهذا النبي الكريم الذي قال الله في حقه (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) والتعبير عن الحب الشديد الذي به يتذوّق المؤمن من حلاوة الايمان وقد قال عليه الصلاة والسلام (ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الايمان أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما.. ) ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يكون أحب الى المؤمن ليس فقط من ماله وولده بل ومن نفسه التي بين جنبيه وعندما قال الفاروق لرسول الله صلى الله عليه وسلم (والله لأنت أحب اليّ من نفسي التي بين جنبيّ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر)، أي الآن آمنت الايمان الحقيقي، الايمان الكامل، الايمان القوي. والحب قيمة دينية وانسانية خالدة تحتل من الرسالات السماوية أعلى مرتبة، ودين بدون حب ليس بدين، والدين حبّ أو لا يكون، حبّ الله الخالق البارئ المنعم المتفضل، وحب رسله وخاتمهم وإمامهم سيد الأوّلين الآخرين عليه وعليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وحب المؤمنين (لا يكون أحدكم مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه) والمتحابون في الله على منابر من نور أوجب الله على نفسه محبتهم، وحب الناس أجمعين لأنهم خلق الله الذي كرمهم وفضلهم، والمؤمن لا يكره من الناس إلا أفعالهم السيئة، وحب ما خلق الله من الكائنات الحيّة وحتى الجامدة، وتربية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته على قيمة الحب قال: (أُحد جبل يحبنا ونحبّه، أُحد معي في الجنة). وفي سبيل ترسيخ هذه القيمة الخالدة وتجسيمها وتربية النفس المؤمنة عليها وتعبيرا عن أعلى درجات الحب بعد حبّ الله اعتاد المسلمون قديما وحديثا وعلى مرّ العصور وحيثما كانوا في ديار الاسلام أو خارجها على الحفاوة بحلول شهري ربيع الأول وربيع الثاني واتخذوهما مناسبة للتعبير عن السرور بانبلاج فجر عهد جديد بميلاد سيدنا محمد عليه افضل الصلاة وازكى التسليم ولم تخرج هذه الحفاوة عن التعريف بخَلقه وخُلقه وشمائله، وخصائصه وسيرته العطرة وكل ذلك دين بل صميم الدين ولبّه، فهو عليه الصلاة والسلام السيد الكامل، وهو الاسوة والقدوة، وهو المبرأ من كل عيب، وهو من قال فيه ربّه (وإنك لعلى خلق عظيم) وهل بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لغاية أخرى بعد هداية الناس غير اتمام مكارم الاخلاق (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق)؟ فمولده عليه الصلاة والسلام هو سيد الايام، ولولا المولد لما كانت بعثة ولا هجرة ولا ليلة قدر،ولا تمام ولا كمال للدين. فالمولد عيد الاعياد ولذلك حق لمن يجعلون مولده عيدا لهم في كل يوم وفي كل شهر وعلى مدار العام وحق أيضا لمن يجعلون من ربيع الأول وربيع الثاني ربيعا تنطلق فيهما الاحتفالات لكي لا تتوقف وكيف تتوقف وهي تذكير واعتبار وتجديد للعهد وتقوية لصلة الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكانت ولا تزال لأهل الغرب الاسلامي الممتد من طرابلس الغرب الى تونس والقيروان والمغرب الاوسط في بجاية وقسنطينة ووهران وتلمسان وصولا الى فاس ومكناس ومراكش وطنجة وتطوان حيث جبل العلم وكذلك في ما كان يسمى بالاندلس وبلاد الغال (فرنسا اليوم وما وراءها) حفاوة وتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم شديدين، ودرجت هذه الربوع، ربوع الأولياء الصالحين والعلماء الراسخين الجامعين بين الشريعة والحقيقة على التعبير بكل وسيلة مشروعة عن الفرحة برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غرابة أن يحفظ التاريخ لهذه الربوع ما تنافس في تأليفه فطاحل العلماء من مدوّنات في السيرة والشمائل المحمدية والمدائح النبوية وأروع وأبلغ صيغ الصلاة على سيد البرية. كل هذه المدونات نثرا وشعرا تعطر بها المجالس في المنازل والزوايا والمساجد والجوامع طيلة شهري ربيع الأول وربيع الثاني ويبلغ الاحتفال برسول الله صلى الله عليه وسلم أوجه وأعلى مداه ليلة المولد النبوي من كل عام. وتشد هذه الاحتفالات المهيبة الناس اليها بمختلف فئآتهم وأعمارهم ومراتبهم الاجتماعية يأتونها بكل تلقائية ويتجشمون عناء الاسفار البعيدة من أجل حضورها، انها هنا وهناك وحيثما رحلت لا تشد اهتمام المسلمين فقط بل تلفت انظار غيرهم من المراقبين والملاحظين ورجال الاعلام بمختلف وسائطه، ترى من ألزم هؤلاء الاجانب بتلك التغطيات الاعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية لتلك الاحتفالات والندوات والملتقيات وجلسات السماع والانشاد والمديح التي ترتفع بها الاصوات والحناجر وتخشع لها القلوب وتقشعر لها الابدان وتذرف من تأثيرها البليغ العيون بالدموع خشية لله وشوقا لنعيمه وحبا لرسوله عليه الصلاة والسلام؟ لقد هيأت لي الاقدار، والمنّة لله وحده بأن أعيش عن كثب بعض هذه اللقاءات العلمية والروحية هنا في تونس ومنذ مطلع شهر ربيع الأول في المغارة والمقام الشاذليين وفي مجالس عقدت لختم الشفاء ودلائل الخيرات وسرد قصة المولد النبوي وقراءة البردة والهمزية وهناك في المغرب حيث كان لي شرف المشاركة في الملتقى العالمي السابع للتصوّف الاسلامي بمناسبة المولد النبوي دعتني اليه الطريقة القادرية البودشيشية وكانت ليلة المولد النبوي في الزاوية البودشيشية بمداغ في الشمال الشرقي للمغرب الاقصى ليلة مشهودة يعجز اللسان والقلم عن وصف انوارها واشراقاتها، جاء لشهود هذه الليلة المباركة ما يزيد على المائة وأربعين ألفا من المحبّين والمريدين، جاؤوا من كل القارات في انتظام ونظام محكمين وفي روحانية عالية، باشراف الشيخ حمزة البودشيشي شيخ الزاوية حفظه الله وابنه الشيخ جمال وحفيده مولاي منير الدين صحبة مساعديهم ومريديهم شملوا كل الحاضرين بصنوف الرعاية والكرم مما زاد الجميع بهم تعلقا وأطلق ألسنتهم بأخلص الدعوات الى الله كي يأخذ بأيديهم لمواصلة البذل والعطاء في هذا المجال الذي تشتد اليه الحاجة في هذا الظرف الذي تمر به الامة الاسلامية. ان مشهد الاحتفال بالمولد النبوي بالزاوية القادرية البودشيشية لم تعد اليوم اصداؤه تقتصر على المغرب بل تجاوزته الى آفاق أوسع وأبعد ولا أدل على ما أقول أن المجلة الاسبوعية الفرنسية «الاكسبريس» في عدد 3214 لأسبوع 6ـ12 من شهر فيفري 2013 نشرت تحقيقا على صفحات 36 و37 و38 و39 لهذه الاحتفالية الكبيرة وجعلت الغلاف الخارجي صورة لهذا المشهد المهيب كتبت عليه بالحرف الكبير: المغرب التصوّف في عيد.. (Maroc Le Soufisme en fête). وكما قلت فإن الاحتفال والحفاوة بذكرى المولد النبوي لم تعد اليوم ظاهرة داخل البلاد الاسلامية بل تجاوزتها الى حيث يوجد مسلمون فعلى سبيل الذكر لا الحصر اقامت الجمعية الثقافية الاسلامية بسفران إحدى الضواحي الباريسية احتفالها السنوي بذكرى المولد النبوي يومي 9 و10 فيفري في القاعة المغطاة بالمنطقة وسط حضور كبير من النساء والرجال والشباب والاطفال حيث ألقيت محاضرات وقدّمت مقاطع من المديح والسماع الروحي طرب لها الجميع وطلب الاستزادة منها الجميع وهو ما وعد به القائمون على الجمعية وعلى رأسهم السيد البكاي مرزاق بارك الله في جهوده. وفي مدينة مرسيليا دعت جمعية آمال مرسيليا الى محاضرة في قاعة البلدية ألقاها الشيخ خالد بن تونس شيخ الطريقة العلاوية كان الحضور فيها أغلبه فرنسيا شدّته مضامين الروحية والتسامح والمحبّة التي بلغها الشيخ ابن تونس أحسن تبليغ. وتواصل بعد ذلك الجمع في سهرات روحية في مرسيليا وليون وتوج كل ذلك بحفل بهيج أقيم بالجامع الكبير بكليرمون فرون (Clairmont Ferran) امتد من بعد صلاة العصر الى ما بعد صلاة العشاء شارك فيه الشيخ حسين المحجوب إمام الجامع والاستاذ عبد الله بنو (فرنسي) والشيخ البشير العبيدي (شيخ الزاوية القاسمية) والدكتور عبد السلام لدوز (شيخ الزاوية الشاذلية بشاتيون من ضواحي باريس) والاستاذ عبد الرحمان تيبون (فرنسي) وتخللت هذه المحاضرات فقرات انشاد للبردة من طرف بعض مريدي الطريقة المدنية الاسماعيلية القاسمية وتشرفت شخصيا بإدارة هذه الاحتفالية البهيجة التي تفاعل معها تفاعلا كبيرا وتلقائيا جمهور كبير غصّت به أرجاء المسجد الكبير بكليرمون فرون وهو مسجد شيّد في المكان الذي كان ثكنة للجيش الذي خرج للحروب الصليبية!! فسبحان الله الذي يهيئ حتى بعض الأماكن لينطلق منها ذكر الله والصلاة والسلام على أفضل من اجتبى من خلقه سيّدنا محمد بن عبد الله الذي وعده ربه برفع ذكره (ورفعنا لك ذكرك) وإن في ذلك لعبرة وذكرى لمن يعتبر ومن لا يقف عند ظاهر النص والاثر. وتأبى الاقدار الإلهية إلا أن تجعل لهذه الربوع التونسية شرف الاختتام مثلما جعلت لها شرف الافتتاح وذلك من خلال الاحتفال بأربعين المولد النبوي الذي سيكون بختم القرآن يوم الجمعة في المغارة الشاذلية بين صلاتي المغرب والعشاء في سنة متصلة خالصة (وما كان لله دام واتصل).