مع فضيلة الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله في الإجابة عن الأسئلة والاستفهامات الدينية للشباب: السؤال الخامس
في مثل هذا الشهر المبارك (شهر رمضان المعظم) ألقت جريدة الصباح على فضيلة الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله مجموعة من الأسئلة التي تخامر أذهان الشباب وتشغل بالهم وقد تولى رحمه الله الإجابة عن هذه الأسئلة بأسلوبه المتين البليغ والمقنع ونشرت هذه الأجوبة تباعا بمعدل سؤال وجواب كل يوم في اثني عشرة حلقة هي ما تمكنا من الحصول عليه. وتعميما للفائدة يسرنا أن نعيد نشرها على صفحات الموقع (الإسلام حقائق وأعلام ومعالم) مواكبة لهذا الموسم الديني ومساهمة في التوعية والإرشاد خصوصا بين أوساط الشبان حيثما كانوا راجين أن يعم بها النفع وأن يكتب اجر ذلك في صحائف الشيخ رحمه الله الذي انتقل إلى جوار ربه في مثل هذا الشهر الثاني عشر من شهر رمضان 1385/ سبتمبر 1975 رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فراديس جنانه. السؤال: 5 المسلم يتأرجح بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة وكلتاهما لها مقامها في الفلسفة الإسلامية التي وان ارتكزت على الروحانيات لا ترفض المادة كما رأينا سابقا ورأينا في حلقة سابقة أيضا أن مسلم اليوم أصيب بازدواجية الشخصية فهلا تكون ناجمة عن صعوبة تحقيق وحدة الشخصية التي تهدف إليها كل تعاليم الإسلام؟ الجواب الناظرون إلى الإسلام من بعد أو الذين يمارسونه كشهوة يأتونها متى أرادوا وينصرفون عنها متى شاؤوا يستطيعون أن يقولوا أن تحقيق وحدة الشخصية أمر عسير المنال إن لم يكن متعذرا ومستحيلا لأنهم يأخذون الروحانية في طرفها الأبعد ويأخذون المادية في طرفها الأبعد أيضا والإسلام من أعظم مميزاته الوسطية بل إنها ميزته الكبرى ومعجزته الخالدة تلك التي أكدها القرآن في قوله تعالى: “وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” وهذا الرسول الشاهد علينا كان معتدلا في كل شيء وهو الذي يقول: “خير الأمور أوسطها”. وآفة البشر منذ أن كانوا في الإفراط أو التفريط ومن كان لا يستطيع أن يعيش إلا مفرطا أو مفرّطا فهو المصاب بالازدواجية تارة والتطرف تارة أخرى وليس من الإسلام هذا ولا ذاك فلقد كان محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أسوتنا الحسنة يغشى النساء وينجب البنين ويعطي لأهله ما عليه من حق ولنفسه ما عليه من حق أما ربه فهو الذي لا يبعد عنه قيد أنملة حتى في ممارسة حقوق الآخرين عليه بل واعتبر ذلك عبادة يؤجر عليها أصحابها حيث قال: وفي بضع أحدكم صدقة، ولما سئل من طرف احد أصحابه الذي قال: “أيأتي احدنا شهوته يا رسول فيكون له بذلك أجر؟” قال لهم: “أرأيتم لو أوقعها في حرام أيكون عليه وزر؟” قالوا: نعم! قال: “فكذلك إذا أوقعها في الحلال يكون له ذلك أجر”. والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم عندما يفعل هذا أو يقوله إنما هو مستجيب لهتاف السماء القائل له ولامته من خلاله: “ولا تنس نصيبك من الدنيا” هذه أخي القارئ هي معجزة الإسلام، أخذ الحياة بمتعها المباحة المتاحة على وجه إرضاء الرب والقيام بالواجب مع إخلاص القصد ومحاولة إسداء النفع حتى تصبح عبادة في مضمونها في حين أنها لم تكتس صور العبادة المتعارف عليها والتي حددتها الشرائع السماوية قبل الإسلام، وبهذه الطريقة المحمدية أمكن لأصحاب محمد أن يوصفوا من قبل أعدائهم الذين لم يستطيعوا لهم مراسا بأنهم بالليل رهبان وبالنهار فرسان. فإذا ما فتش الذين يريدون الروحانية عن طريقة تبلغهم إليها من خلال الطرق الصوفية أو من خلال الرهبنة المسيحية أو من خلال الرياضات البوذية والهندية فان الكثير منهم سوف يعطل سنة الله في خلقه ولن يظفر بطائل والقلة النادرة من أهل التصوف الإسلامي الحقيقي سوف يرهقون أجسادهم وعقولهم ولا يصلون إلى الغاية إلا بمشقات كبيرة في حين أن أسلافنا الميامين الذين تشبعوا من سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وحياته وتمسكوا بحبليه المتينين الكتاب والسنة وجعلوهما الجناحين الذين يطير بهما من أراد الطيران، قد وصلوا إلى الصفاء الروحي والتخلص من أوضار الدنيا وقذاراتها وهم يعيشون مع الناس ويمارسون ما يمارسه الناس ولم يعطلوا طاقة من طاقاتهم ولا موهبة من مواهبهم. فالمفتاح السحري إذن الذي يمسك به من فهم الإسلام وتشربته روحه هو الاعتدال وهو بالتالي اخذ الحياة من جانبها الطيب بقصد الاستعانة بها على الخير وصرفها في سبيله والقيام بما يوجبه المولى سبحانه وتعالى على أهل اليسار وأهل الخيرات والمنافع من إبلاغها إلى أهلها وقضاء حاجة المحتاج وإقالة عثرة العاثر وتعليم الجاهل وفك المظلوم من يد الظالم. ومن نظر إلى الإسلام بهذا المنظار وتفهم حقائقه بتجرد ونزاهة وأمانة علمية فانا واثق من انه سوف يرتمي بين أحضانه ليحقق به ما يتوق من هناء وراحة واتصال دائم بمدبر الحياة وخالق الكائنات، فإذا لم يتحقق له هذا المبتغى الغالي فلا اقل من أن يكبر الإسلام ويحترم نظرياته ويرى أن أهله جديرون بما هيأتهم الرسالة إليه من قيادة وريادة وسيادة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده.