مدونات الفتوى ومنزلة الفتاوى التونسية بينها
ظهرت في السنوات الأخيرة كتب مدونات عديدة في أجزاء ضمت ما صدر عن دور الإفتاء والمجامع الفقهية وعن بعض العلماء من فتاوى شرعية في العبادات والمعاملات. وقد كان الكثير منها أجوبة عن أسئلة تلقتها هذه الجهات مكتوبة أو عن طريق الهاتف والفاكس وتولى في الإبان العلماء المنتصبون لهذا الشأن الإجابة على تلك الأسئلة وبعد ذلك وتعميما للفائدة وجعلا لها في متناول القارئ صدرت في شكل كتب بعضها على هيئة مجلدات عديدة وصلت إلى العشرين كما هو الحال بالنسبة لفتاوى دار الإفتاء المصرية والتي تولى طبعها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، وهي فتاوى قرن كامل صدرت عن مختلف المفتين الذين تقلدوا هذا المنصب إلى السنوات الأخيرة. وعمل آخر شبيه بالفتاوى المصرية أصدرته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت في حوالي عشر مجلدات ضمت فتاوى هيئة الفتوى وهي لجنة تضم مجموعة من العلماء تم تعزيزها في تركيبتها كلما اقتضى الأمر ذلك. وصدرت في السنوات الماضية عديد الكتب التي أجاب فيها علماء أعلام عن الأسئلة التي تلقوها من أبناء الأمة الإسلامية سواء من يقيم منهم في ديار الإسلام أم أولئك الذين يعيشون في أروبا والأمريكتين وإفريقيا وآسيا وذلك في مجالات العبادات أو المعاملات ومن كتب الفتاوى المنتشرة بين الأيدي وتلقاها الناس بالقبول الحسن: فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا وفتاوى الشيخ محمود شلتوت وفتاوى الشيخ حسنين مخلوف وفتاوى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق وفتاوى الشيخ مصطفى احمد الزرقا وفتاوى الشيخ أحمد حماني وغيرهم كثير كما تولت إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية إصدار فتاوى هذه الهيئة التي ضمت في عضويتها الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد صالح العثيمين وغيرهما. وفي مجال الفتاوى المختصة أصدرت بيت البركة بجدة ومؤسسة الراجحي المصرفية وكذلك البنوك الإسلامية بالكويت ودبي والبحرين والسودان ومصر مجموعة من الفتاوى الاقتصادية المالية التي جاءت في شكل إجابات جماعية عن أسئلة تلقتها هذه الهيآت الشرعية من رجال المال والإعمال. ولم يقتصر هذا الإصدار للفتاوى على إخراجها في شكل كتب متعددة الأجزاء بل تم وضعها في شكل أقراص مضغوطة يسهل استعمالها والاستفادة منها. يضاف إلى هذا الكم الكبير أعمال وقرارات المجامع الفقهية: المجمع الدولي بجدة ومجمع رابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه الهندي ومجمع الفقه الأروبي ومجمع الفقه الأمريكي. كل هذه المدونات الصادرة عن أفراد أو عن هيآت علمية ومجمعية هي اليوم مادة جاهزة مبوبة صدرت في عديد الطبعات وتكاد لا تخلو منها (إن لم يكن كلها فجلها) المكتبات الجامعية وحتى العامة بل قد تحتوي على اغلبها المكتبات الخاصة التي يتابع أصحابها هذا الشأن ويحرصون على أن يضلوا على اتصال بكل جديد مفيد منه. التصدّي للفتوى عبأ وشأن الفتوى ومعرفة حكم الشرع وهديه في سائر التصرفات من عبادات ومعاملات سيظل يحتل الصدارة بين مختلف جوانب الثقافة الإسلامية لأن الفتوى هي حكم الله في ما يأتيه المسلم وما يدعه، وهذا الأمر هو عمود الدين وأساسه وهو جوهره ولبه وسوى ذلك تكميل وتحسين ويدخل ضمن الفضائل والرغائب. وتكتسي الفتوى من الدقة والأهمية ما يجعلها تتبوأ هذه المكانة فلا يمكن أن تتقبل من أي كان إذ يمكن أن يكتب ويخطب ويحاضر عن مختلف مجالات الثقافة الإسلامية من هبّ ودبّ، وكلامه لا يتجاوز ذلك الحيز الذي هو واسع ولكنه لا يمكن أن يقتحم المجال الضيق والدقيق والذي هو خاص بأهل الذكر من العلماء الأعلام الذين هم وحدهم من امرنا الله تبارك وتعالى أن نسألهم (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) إنهم الطائفة التي نفرت لتتفقه في الدين (ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) وهي وحدها المؤهلة والقادرة بأن تنذر قومها إذا رجعت إليهم قياما بالواجب وتبرئة للذمة، إنهم الموقعون عن رب العالمين من لا يشترون بدينهم ثمنا قليلا وعرضا زائلا وهم من يستشعرون ثقل الأمانة ودقة المسؤولية فلا يسارعون إلى الفتوى وإصدار الأحكام خشية أن يكونوا معنيين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (اجرأكم على الفتوى اجرأكم على النار) وهؤلاء العلماء الأعلام الذين يخشون الله ويضعون نصب أعينهم سيرة أسلافهم الذين تبحروا في مختلف فروع العلوم الإسلامية وما جلس الواحد منهم للفتوى إلا بعد إن تعينت فيه وقد حاول الكثير منهم التملص من تولي هذه المهمة خشية أن يفتوا بغير علم فيضلوا ويضلوا، ذلك كان شأن مالك وأبى حنيفة والشافعي وابن حنبل والقابسي وابن أبي زيد وسحنون. إن الفتوى دين، والمؤمنون مدعوون إلى أن ينظروا عن من يأخذون دينهم. إن المؤمن لا ينبغي أن يأخذ حكم الدين إلا من تقي يخاف الله وعالم ثبت فهامة اشبع ما قاله السابقون بحثا ودراسة وتمحيصا ثم اعمل ما وهبه الله من عقل وعلم ليختار بين آراء من سبقوه الأصلح بما في ذلك الأيسر والأرفق اهتداء بنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يختار الأيسر ما لم يكن حراما والذي كان يقول (يسرا ولا تعسرا). والفقيه المصدر للفتوى لا يملك إلا أن يجتهد رأيه إذا لم يجد نصا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء الذين سبقوه مستعينا بكل قواعد وأصول الفقه وضوابطه ومقاصد الشريعة. الفتوى ووجوب المراعاة للواقع ولا شك أن الفقيه المتصدي للفتوى وهو يستقل برأي أو يأتي بجديد يضع في اعتباره الواقع المعيش والمستجدات في كل ميادين الحياة وهي متطورة دائما لا تعرف الركود والجمود، والفقيه مدعو إلى التفاعل مع الواقع بمختلف بيئاته وظروفه ومتفاعل مع ما يوفره التقدم العلمي من فتوحات كبيرة تجعل من عمله (أي تبيينه لحكم الشرع وهو الفتوى) سهلا من حيث أن العلم جعل من بعض المعطيات لم تعد في حكم الظني بل أصبحت من الحقائق الملموسة المحسوسة مما يدفع الفقيه إلى النظر الأدق والأكمل للمسائل التي يدعى إلى بيان حكم الشرع فيها، و(الحكم على الشيء فرع من تصوره)، بل لا يمكن الحكم على الشيء إلا بعد تصوره وتمثله واستيعابه ففاقد الشيء لا يعطيه. وكثيرا ما يلجأ البعض من الفقهاء عندما يسألون عن مسائل مستجدة، مستحدثة إلى العمل بقاعدة سد الذرائع ويتوسعون في ذلك إلى درجة يصبح كل شيء غير جائز وحراما تورعا واحتياطا!! والحال أن الله تبارك وتعالى أزال كل حرج عن عباده في الدين الذي رضيه لهم (ما جعل عليكم في الدين من حرج). إن كثيرا من الأمور التي يسأل عنها الناس يمكن أن تكون مباحة وحلالا وفيها التوسيع والتيسير على الناس إلا أن قصور من يسالون عن حكمها وعجزهم عن استيعابها يقلبها إلى حرام احتياطا وتورعا وتوقيا!! وهذا الوضع غير طبيعي ولا يمكن أن يكون قاعدة سارية دائمة بل لابد من البحث له عن حل ولا حل له إلا بان يكمل الفقيه الذي يسال عن حكم الشرع في المستجد المستحدث نقصه ويتفتح على غيره وان يسأل بدوره أهل الذكر من العلماء المختصين في كل الميادين التي يحتاج إليها: في الطب وعالم المال والاقتصاد والفلك وغير ذلك.وهذا المنهج من التفتح والتفاعل والتكامل بين الفقهاء وبين المختصين في كل المجالات التي يسأل عنها هو الذي أخذت به المجامع الفقهية والمؤسسات العلمية فوجدناها تدعو إلى دوراتها الأطباء ورجال الاقتصاد والمصرفيين والمختصين في البورصة والتامين كل ذلك من أجل أن تكون القرارات الصادرة عنها اقرب ما تكون من الواقع: تصورا واستيعابا وأوفى ما تكون لنصوص الشرع ومقاصده السمحة، فالشريعة كانت ولا تزال رحمة كلها ويسرا كلها ورفقا كلها ومراعاة للمصلحة حيثما كانت (إذ حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله). أهمية الفتاوى التونسية وقد سلك هذا المسلك في التفتح على أهل الذكر علماؤنا الأعلام في تونس، شيوخ الزيتونة الذين كانوا نجوما ساطعة في سماء هذه الربوع وتركوا لنا ذخيرة رأى النور البعض منها هي عبارة عن فتاوى محررة مدققة نشرت في الإبان على صفحات الجرائد والمجلات واحتوت عليها مجلدات المجلات الدينية التي كانت تصدر بتونس مثل الهداية الإسلامية وشمس الإسلام والزيتونة وجوهر الإسلام والهداية، إنها رصيد ضخم مبثوث في طوايا الدوريات والجرائد والمجلات التي لا يملك بعضها إلا القليل من الناس. وجمع الفتاوى التونسية خلال قرن من الزمان كان عملا جامعيا قام به منذ سنوات الأستاذ الدكتور محمد السويسي بارك الله فيه-في إطار أطروحة دكتوراه أعدها ونال بها من الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين وظلت هذه الأطروحة إلى وقت قريب محدودة الانتشار لا يصل إليها إلا القليل من الباحثين ولا يستفاد منها إلا جزئيا كما اخرج الدكتور محمد بوزغيبة فتاوى كل من الشيخين محمد الطاهر بن عاشور ومحمد العزيز جعيط رحمهما الله ببادرة من مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان ومركز جمعة الماجد بالإمارات العربية المتحدة ولكن عمل الدكتور محمد السويسي ضم إضافة إلى فتاوى الشيخين ابن عاشور وجعيط فتاوى أخرى لعلماء آخرين تونسيين وهناك بعد هذا العمل فتاوى أخرى صدرت لمن تولوا منصب الفتوى بتونس بعد ذلك كما صدرت لعلماء آخرين تونسيين فتاوى ساهموا بها في الإجابة عن الأسئلة الدينية لتونسيين ولأشقائهم خارج ديار الإسلام ويمكن أن ندرج في هذا الإطار مشاركات أعضاء وخبراء مجمع الفقه الإسلامي التونسيين من أمثال المشائخ الحبيب ابن الخوجة والمختار السلامي ومحمود شمام والطيب سلامة ومحي الدين قادي كما يمكننا أن نضيف إلى هذا العمل الجهد المشكور الذي بذله طيلة ما يقارب العشرين سنة فضيلة الشيخ محمد الحبيب النفطي على صفحات جريدة البيان. إن الالتفات إلى هذه الأعمال بإعادة تحقيقها وتبويبها وإذا لزم الأمر التدليل عليها عمل جدير بالمبادرة إليه ويمكن إخراجه بتتابع وتسلسل في أشكال متعددة (كبيرة وصغيرة سهلة التناول معقولة الثمن) إن ذلك ولاشك عمل مفيد يسد الفراغ ويحول بين أفراد المجتمع والتذبذب الذي أصبحنا نراه ونسمعه ونشاهده. فما أكثرهم أولئك التونسيون والتونسيات الذين يتصلون عبر الهاتف والفاكس والانترنات بالفضائيات العربية يسالون عن حكم الدين فيما يعترضهم من مشكلات في عباداتهم ومعاملاتهم وكثيرا ما تكون الفتاوى الصادرة عن فقهاء تلك الفضائيات غير متصور للمسالة ولا عارفة بالبيئة ولا فاهمة للعبارات التي يستعملها السائل وهكذا يأتي الجواب مسقطا ولكن ما الحيلة والسائل لا يجد قريبا منه الجواب الشافي. وليس في ما ندعو إليه أدنى تحجر وانغلاق أو تعصب مذهبي معاذ الله ولكنها المراعاة للواقع والاجتناب للتذبذب والاختلاف الذي لا يمكن أن يستهان بنتائجه الوخيمة.