في رحاب القرآن: صفات عباد الرحمان كما وردت في سورة الفرقان
يقول الله تبارك وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمان الرحيم (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) صدق الله العظيم بهذه الآيات البينات الجامعة لصفات عباد الرحمان ختم الله تبارك وتعالى سورة الفرقان. وهي آيات جديرة بالوقوف عندها وتدبّر معانيها وتمعّنها وتقريبها من المؤمنين لعلهم يكرعون من معينها ويهتدون بما فيها ولعلهم أيضا يبذلون قصارى جهدهم في محاولة تجسيمها في حيز الواقع، لأن الجزاء الذي أعده الله للمتّصفين بصفات عباد الرحمان جزاء عظيم والأجر الذي ينتظر عباد الرحمان اجر كبير فقد ختمت هذه الآيات بقوله جل من قائل (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما) لقد جمع الله تبارك وتعالى في عرضه وتعداده لصفات عباد الرحمان بين ما هو من صميم العقيدة والإيمان وما هو من قبيل العبادات والشعائر وما هو من قبيل السلوك والمعاملات وسائر التصرفات أقوالا وأفعالا. إنها وصفة من العليم الخبير ومن الحكيم الحليم لعباده المؤمنين كي يأخذوا بها ان أرادوا شفاء أدوائهم وأمراضهم وان أرادوا صلاح أحوالهم وأعمالهم. إن صفات عباد الرحمان كما وردت في خاتمة سورة الفرقان جديرة -مثل كل القرآن- أن يجعلها المؤمن نصب عينيه ويعتبر نفسه معنيا بها قبل غيره بهذا الخطاب الإلهي الموجه إلى كل مؤمن لا يستثنى من ذلك احد بحيث يمكنه التهرب أو التملص منه. * الصفة الأولى لعباد الرحمان هم (الذين يمشون على الأرض هونا) فحتى الأرض التي نمشي عليها فإن هدي الإسلام يقتضي منا -رغم أنها جماد- ان نمشي عليها برفق ولين فمنها خلقنا واليها نعود يستوي في هذه العودة إلى الأرض القوي الجبار والضعيف النحيف ثم أليْست هذه الأرض وأديمها من أجساد من مضوا وأفضوا إلى ربهم؟ وسيكون مصيرنا نفس مصيرهم إن مشي عباد الرحمان هو مشي المعتبرين ليس مشي أولئك الذين يسعون في فساد هذه الأرض وخرابها وكل ذلك وقع ويقع من الإنسان وصدق الله العظيم حين يقول (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) وبضدها تتميز الأشياء فان الجاهلين والطاغين والمفسدين أولئك الذين يسعون في الأرض فسادا إذا مشوا على الأرض مشوا مشي الجبارين المتكبرين وما ذلك إلا لأنهم لا يعقلون و(إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). * والصفة الثانية من صفات عباد الرحمان هي إنهم (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) إن عباد الرحمان يترفعون عن السفاسف ولا ينزلون إلى الحضيض والى الترهات ولا يعاملون بالمثل إنهم يصفحون ويعفون ويدفعون بالتي هي أحسن، إيمانهم الذي في قلوبهم يجعلهم يحسنون إلى من أساء إليهم ويدفعون السيئة بالحسنة إنهم يكظمون غيظهم ولأجل ذلك فإنهم إذا خاطبهم الجاهلون بسيء الكلام وببذيئه فإنهم لا يزيدون عن الردّ عليهم بكلمة السلام ويا لها من كلمة هي اسم الله جل جلاله، وهي تحية المسلمين وشعارهم (السلام عليكم) ودار السلام هي الجنة مبتغى وهدف وغاية المؤمن ولا يخفى ما لهذه الكلمة من مفعول عجيب في تأليف القلوب وتحبيب الناس في بعضهم البعض يقول عليه الصلاة والسلام (أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم افشوا السلام بينكم) * الصفة الثالثة من صفات عباد الرحمان هي أنهم يحيون لياليهم بمناجاة ربهم فهم بين سجود وقيام يجدون في ذلك الراحة والطمأنينة والسعادة ويحسّون بالقرب من ربهم وهو قرب ليس مثله قرب. وترقي عباد الرحمان في قيام الليل يجعلهم يصلون إلى حالة من الأنس والشوق لقدوم الليل هي أشدّ من شوق أهل اللهو بقدوم الليل. فحال أهل الشهوة شطحات ونزوات وترهات وموبقات مهلكات أما أهل القيام بالسجود لله عز وجل وتدبر آياته فهم أهل الأنوار وأهل العزّ وأهل السبح في ملكوت الله الواسع، وأهل القرب من الله وما أكثرها الآثار المعبّرة عن أحوال أهل قيام الليل، إنها تصور حقيقة سعادتهم وراحتهم وتذوقهم لحلاوة الإيمان، وللإيمان حلاوة ليس مثلها حلاوة، حلاوة دائمة باقية متعدية بنفعها إلى الدار الآخرة ولأجل ذلك فان أهل القيام والناس نيام غير مستعدين لكي يبدلوا سعادتهم التي هم فيها بشقاوة وتعاسة وغباوة غيرهم ممن هم وراء السراب يلهثون. إن أهل قيام الليل من عباد الرحمان أدركوا حقائق الأمور فلم تعد الدنيا أكبر همهم ولا مبلغ علمهم فتوقهم وشوقهم إلى الجنة ونعيمها شديد وخوفهم من ان يعذبهم ربهم فيدخلهم نار جهنم يجعلهم لا تفتر ألسنتهم عن الدعاء والضراعة إلى الله كي يصرف عنهم عذاب جهنم (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم ان عذابها كان غراما) أي ملازما دائما. إن عباد الرحمان هم من (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) إنهم (قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون). (إنها ساءت مستقرا ومقاما) أي بئس المقام في جهنم وبئس المصير إليها، ففيها العذاب المقيم الذي لا يقوى على تحمله احد إذ في جهنم من صنوف العذاب -أعاذنا الله وحفظنا ووقانا منه- ما لا يمكن حتى مجرد تعداده ووصفه لان جزءا ضئيلا بسيطا منه عندما يصاب به الواحد منا في الدنيا تضيق عليه الأرض بما رحبت فيجأر ويصرخ ولا يترك حيلة ولا نصيحة إلا ويأخذ بها حتى يعافى فما بالك بعذاب جهنم وبئس المصير هذا العذاب الذي نتناساه ونتجاهله ونتغافل عنه وهو محقق لا محالة ولا مفرّ منه إلا بالعمل الصالح وبالطاعة والامتثال لما أمر الله وبالاجتناب لما نهى الله عنه وبالدعاء والضراعة إلى الله كي يصرف عنا عذاب جهنم الذي هو عذاب مقيم، الويل لنا منه ومن أهواله فكيف لا يكون دعاء عباد الرحمان لربهم في ظلام الليل الدامس أن يصرف عنهم عذاب جهنم ومن صرف عنه عذاب جهنم فقد فاز فوزا عظيما. * الصفة الرابعة من صفات عباد الرحمان هي أنهم (إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) إن عباد الرحمان هم أهل الوسطية والاعتدال فلا هم بالمبذرين المسرفين إخوان الشياطين ولا هم بالبخلاء الذين يجعلون أيديهم مغلولة إلى أعناقهم ويتبعون أوامر الشيطان (الشيطان يعدكم الفقر) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال (ما أحسن القصد في الغنى وما أحسن القصد في الفقر وما أحسن القصد في العبادة). إن حال عباد الرحمان وهم يتصرفون فيما وضع بين أيديهم وفيما وهبهم الله ورزقهم هو القوام الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. وتعود الآيات المذكرة بصفات عباد الرحمان إلى بيان خصوصية أساسية هي أصل كل شيء وسبب كل خير ألا وهي توحيد الله وعدم الإشراك به فالشرك ظلم عظيم والله تبارك يقول (إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) ولأجل ذلك ناسب في هذا السياق ان يذكر المولى سبحانه وتعالى بصفة أساسية من صفات عباد الرحمان. فيقول جل من قائل (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) وهل يملك أحد مع الله شيئا حتى يدعى ويطلب منه؟! معاذ الله فالله وحده هو المعبود بحقّ وهو الذي إليه نسعى واليه نحفد ومنه نطلب وإياه نرجو وننزّهه عن الند وعن الشريك وعن الزوجة والولد فهو الأحد وهو الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، انه سبحانه وتعالى هو السميع المجيب وهو القريب ممن يدعوه ويناجيه (وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني) انه سبحانه وتعالى مجيب دعوة المضطر (امن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء). فالله وحده هو الذي يدعوه المؤمن ويطلب منه لان سواه لا يملك شيئا ولا يستطيع دفع الشر عن نفسه. إن الله سبحانه وتعالى هو القادر وحده على قضاء حوائج عباده لا يعي بها جميعها ولو أن الإنس والجن يقومون على صعيد واحد فيطلبون حوائجهم جميعها فان الله قادر على إجابتهم جميعا، انه صمد إليه يتوجه كل العباد ولا يقدر سواه على ان يقضي حتى حاجة الواحد فما بالك بحاجات الخلق أجمعين. * الصفة الخامسة من صفات عباد الرحمان هي أنهم لا يقتلون النفس التي حرم الله (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق) فقتل نفس واحدة ظلما وعدوانا هو كقتل الناس جميعها يقول جل من قائل (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا). إن قتل النفس البشرية جرم عظيم وظلم كبير لا يغفره الله لان الله وحده هو المحيي وهو المميت. والنفس البشرية عزيزة على خالقها ولذلك فان كل من يزهقها ظلما وعدوانا فانه مستحق لغضب الله وشديد عقابه في الدنيا والآخرة ولأجل ذلك فان مما ذكر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع هو تحريم القتل فقال عليه السلام (ألا وان دماءكم وأعراضكم وأموالكم بينكم حرام كحرمة الشهر الحرام) . وحذر الرسول عليه الصلاة والسلام المسلمين من ان ينقلبوا من بعده كفارا يضرب بعضهم أعناق بعض والحالات التي يجوز فيها قتل النفس البشرية حددها الشرع ولم يتركها لاجتهاد مجتهد. * الصفة السادسة من صفات عباد الرحمان هي أنهم (لا يزنون) أي لا يتعدون على الأعراض والحرمات فلا ينتهكونها خصوصا وقد كفاهم الله بالحلال عن الحرام عندما جعل الزواج من سنة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام حيث دعا إليه ورغب فيه باعتباره السبيل الشرعي للاستجابة لما خلق الله في الإنسان من غرائز وشهوات. ولأجل ذلك فان من كفاه الله بالحلال ويسره عليه وكتب له به الأجر والثواب فانه عندما يتجاوز حدود الله فهو معتد وظالم لنفسه وظالم لغيره. وما لا يرضاه العاقل لزوجته ولأمه ولإبنته ولأخته لا ينبغي له ان يأتيه هو ولهذا عقب الله تبارك وتعالى بقوله (ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيّئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ومن تاب وعمل صالحا فانه يتوب إلى الله متابا) ان المتعدي على أعراض الناس المرتكب لما يغضب الله تبارك وتعالى لن يلق إلا الآثام وما ينتظره يوم القيامة من عذاب أشد وأمر لا يستطيع له صبرا ولا يطيق تحمله ولسوف يخلد في هذا العذاب ولسوف يهان فيه وبه جراء تعديه على الحرمات وإتيانه للفواحش. ورحمة من الله بعباده الضعفاء ممن يمكن ان تغلبهم شهواتهم وأنفسهم الأمارة بالسوء (وهذه هي حال اغلب الناس إلا من رحم ربك) فان المسرفين على أنفسهم إذا تابوا إلى ربهم وتركوا ما كانوا يأتون وإذا ما عملوا عملا صالحا فان الله الغفور الرحيم والتواب الحليم جزاء لهم على توبتهم يبدل سيئاتهم حسنات (وكان الله غفورا رحيما) انه سبحانه وتعالى كذلك فكرمه وجوده وفضله وتجاوزه وغفرانه لا يجعل أحدا ييأس وكيف ييأس من روح الهح ورحمة الله من يقرأ قوله جل من قائل (انه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) كيف ييأس من رحمة الله من يقرأ قول الله تبارك وتعالى (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم). ولأجل تأكيد هذا الأمل في الإحراز على عفو الله بعد اقتراف هذا الذنب فان الله تعالى يختم بقوله جل من قائل ( ومن تاب وعمل صالحا فانه يتوب إلى الله متابا) صدق الله العظيم. ورحمة من الله بعباده الضعفاء فان من يمكن إن يقع في المعصية ومن يمكن إن يقترف الرذيلة لا ينبغي عليه إن يتواصل في غيّة وضلاله بل عليه إن ينيب ويتوب ويستغفر ربه سبحانه وتعالى فمن تاب واستغفر وأناب وكانت توبته نصوحا صادقة فإنّ الله كرما وجودا ومنا وإحسانا وحلما وتجاوزا وعد من يتوب ويؤمن ويعمل عملا صالحا بأن يبدّل الله سيئاته حسنات لأنه جل وعلا غفور رحيم فقد ورد في الحديث الشريف إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لو لم تذنبوا لأتيت بقوم آخرين يذنبون وأغفر لهم) كما وردت في الوعد بالصفح والغفران عديد الآيات القرآنية التي يحسن في هذا المقام التذكير ببعضها لأنها تندرج في نفس السياق من ذلك قوله جلّ من قائل (إن الله يحب التوابين ويحب المطهرين) وقوله (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين تابوا...) وقوله تعالى (أولم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده) وإنها لكثيرة وعديدة جدا الآيات القرآنية التي تعرضت إلى التوبة والإنابة والعودة إلى الله كما أن الأحاديث الشريفة زادت هذا المعنى تأكيدا بحيث زرعت الأمل في النفوس واستأصلت منه اليأس والقنوط وصورت (ولله المثل الأعلى) كيف إن العبد إذا اقبل على ربه شبرا أقبل عليه ربه ذراعا وإذا اقبل على ربه ذراعا أقبل عليه ربه باعا وإذا جاء إلى ربه ماشيا جاءه ربه هرولة كل ذلك لتقريب الأفهام وللتأكيد على إن الله سبحانه وتعالى وهو الغني عن عباده تشتد فرحته بتوبة عبده المؤمن، إنها أشد من فرحة صاحب الراحلة التي يفقدها صاحبها في الصحراء وعليها زاده وماؤه حتى إذا ما يئس منها رجع إلى مكانه ونام فلما استيقظ وجد راحلته بجانبه ومن شدة فرحته بها قال ساهيا (اللهم لك الحمد أنت عبدي وأنا ربك)!! ذلك قليل من كثير مما يحفل به كتاب الله العزيز وسنة وسيرة سيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام في مادة التوبة والغفران وهي مادة جديرة بالتعميم والإشاعة والإذاعة بين الناس فأحب العباد إلى الله من يحبّب الله لعباده ويعرفهم بنعمه وآلائه ورحمته وغفرانه ولطفه وإحسانه فذلك هو السبيل الأمثل والأقوم للإحراز على هذه الدرجة. * الصفتان السابعة والثامنة يقول جلّ من قائل (والذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مروا كراما) وهاتان الصفتان هما من أعمال اللسان وللسان أعمال وأفعال، والمسلم مسؤول ليس فقط عمّا تقدم يداه بل مسؤول عما ينطق به لسانه وما تسمعه أذناه وما يراه بصره (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) ولا يمكن إن يستهين عاقل بما ينطق به اللسان أو تسمعه الأذنان وقد ورد في الحديث الشريف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده) وقوله عليه الصلاة والسلام (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) وقوله عليه الصلاة والسلام للصحابي الذي استهان بما تنطق به الألسنة (ثكلتك أمك وهل يكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم)؟. وشهادة الزور هي الكذب متعمدا على الغير. والكذب كبيرة وهو من علامات النفاق قال عليه الصلاة والسلام (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان) وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان كليا عن الكذاب وقال (لا يكذب المؤمن) وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستهانة بالكذب فقال: (إن المرء ليكذب ويكذب حتى يكتب عند الله كذّابا). والافتراء والاختلاق والبهتان من أكبر الكبائر وكثيرا ما يستهين بها البعض ويحسبون ذلك أمرا هيّنا (وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) إن ما ينجر عن الكذب وبال وشر مستطير لذلك حذر منه الإسلام واعتبره من أكبر الكبائر وفي هذا الإطار جاء النهي الشديد عن شهادة الزور التي هي ضرب من ضروب الكذب والبهتان، وهي عدوان عظيم ففي الصحيحين عن أبي بكرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ثلاثا قلنا بلى يا رسول الله قال: الشرك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت). وما ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تحذيرا للأمة من مغبة الاستهانة بشهادة الزور. فلا يجوز بل يحرم على المسلم أن يدلي بشهادة زور وبهتان يرمى بها آمنا فيتسبب له في ضرر مادي أو معنوي وعباد الرحمان ليس فقط لا يشهدون شهادة الزور بل لا يشهدون مجالس شهادات الزور إنها مجالس لغو وفجور وظلم وعدوان ولأجل ذلك فهم يمرون بها مرّ الكرام لا يرتادون مجالس شهادات الزور واللغو بل يعرضون عنها ولا يريدون أن يكونوا أطرافا فيها فينالهم غضب الله وشديد عقابه. * الصفة التاسعة من صفات عباد الرحمان هي أنهم (إذا ذكروا بآيات الله لم يخروا عليها صمّا وعميانا) إنهم من أولي الأبصار إنهم من تنفعهم الذكرى (وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) فعباد الرحمان هم الذين نور الله أبصارهم وبصائرهم لأجل ذلك فإنهم لا تزيدهم الآيات والعبر إلا إيمانا ويقينا وتمسكا بهدي ربهم وما أكثر آيات الله، هي آيات الكتاب العزيز حبل الله المتين والسراج المنير والعروة الوثقى وهي أيضا ما فينا وما يحيط بنا مما يشهد لله تبارك وتعالى بالوحدانية والقدرة والعظمة. فأبصارنا آية وأسماعنا آية وألسنتنا آية وحياتنا آية ومماتنا آية وفي ما يحيط بنا في هذا الكون الفسيح آيات ومعجزات دالة على قدرة الله وعظمته وجلاله وصدق من قال: وفي كل شيء له آية تدل على انه الواحد وصدق الله العظيم القائل في كتابه العزيز (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فعباد الرحمان إذا ذكروا بآيات الله لم يمروا عليها مرور الصم والعميان وما أكثر هؤلاء بين الناس (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وحجة هؤلاء العميان يوم القيامة مردودة عندما يحشرهم ربهم عميانا (قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) إن عباد الرحمان هم الذين (إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون). * الصفة العاشرة من صفات عباد الرحمان هي دعاؤهم وطلبهم من ربهم كي يهب لهم من أزواجهم وذرياتهم قرة أعين وان يجعلهم للمتقين إماما (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) إن الدعاء هو سلاح المؤمن وهو مخ العبادة وهو المجسم للعبودية الفعلية لأن فيه إظهار الاحتياج والافتقار من العبد لخالقه ومولاه الذي هو على كل شيء قدير والذي أمره للشيء إنما يقول له (كن فيكون) وهو سبحانه وتعالى القائل في كتابه العزيز لعباده( وقال ربكم ادعوني استجب لكم) وهو القائل (امّن يجيب المضطر إذا دعاه) وهو القريب من عباده (وإذا سالك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني). لأجل ذلك فإن من يوفق للدعاء ويلهم لسانه بان يطلب من ربه حاجاته فعليه أن يطمئن أن الإجابة حاصلة لكنها في الوقت الذي يريده الله وفي الشيء الذي يريده الله. ولن يعدم الداعي لربه الطالب من مولاه إما الاستجابة أو صرف البلاء النازل أو ادخار الجواب للدار الآخرة. فعباد الرحمان يسألون ربهم كل شيء ومن أعظم ما يسألون وما يطلبون من ربهم أن يهبهم الله الزوجات الصالحات والذرية الصالحة فهؤلاء هم قرة العين بحق وهم أعظم نعمة ينعم بها الله على عباده بعد الإيمان فالزوجة الصالحة هي الحسنة الواردة في الآية الكريمة (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) إنها السكن والسكينة وهي القرب والطمأنينة وهي المسرة والراحة تعين على طاعة الله وتكفي زوجها الوقوع في ما يغضب الله. وكذلك الأمر بالنسبة للزوج. أما الأبناء الصالحون البررة بآبائهم وأمهاتهم فهم من العمل الصالح الذي يلحق منه الأجر والثواب للآباء والأمهات بعد رحيلهم عن هذه الدار إلى الدار الآخرة. إن الأبناء الصالحين امتداد طبيعي لآبائهم وأمهاتهم فكيف لا يخصهم الآباء والأمهات بالدعاء والطلب من الله سبحانه وتعالى؟. ومما يدعو به عباد الرحمان ويطلبونه من مولاهم جلّ وعلا هو أن يوفقهم لطاعته والامتثال لأوامره وأن يتقوه حق التقوى بحيث لا يفقدهم حيث أمرهم أن يكونوا وأن لا يجدهم حيث نهاهم أن يكونوا. ومن كانت حالهم حال الخشية والخوف من الله والتعلق به والرجاء فيه فان الله معهم في كل أحوالهم وحالاتهم إن عباد الرحمان يدعون ربهم أن يجعلهم في هذا السبيل والصراط المستقيم قدوة لغيرهم في الخير والعمل الصالح. ويعقب المولى جل وعلا على كل ما سلف ذكره من صفات وتصرفات عباد الرحمان بما يقتضيه المقام وبما يعتبر نتيجة طبيعية وبما هو منتظر ومتوقع ومترقب وهو الجزاء الذي أعده الله تبارك وتعالى لمن تحلوا بالصفات الآنفة الذكر والتي أوردنا بعض ما فتح به الله مما هو من وحي تلك الصفات الممكنة التحقيق والتجسيم في حيز الواقع على من يريد الله لهم وبهم خيرا فيقول جل من قائل (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) صدق الله العظيم. هنيئا لعباد الرحمان بما أعده الله لهم من جزاء أوفى وأوفر إنّ مساكنهم يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين في الغرفات إنهم في أعلى عليين من جنة النعيم هذه الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت أعدّها الله للمتقين من عباد الرحمان وذلك جزاء على صبرهم (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) لقد صبر عباد الرحمان على طاعة الله وعلى اجتناب ما نهى الله عنه مما تشتهيه الأنفس. فعباد الرحمان هم في هذه الحياة الدنيا في معترك وهم في جهاد ومجاهدة إذ المغريات والفتن كثيرة ولكنهم صمدوا أمامها وثبتوا ولم يتزحزحوا قيد أنملة والصفات الآنفة الذكر التي عددّها الله تبارك وتعالى وأثبتها لعباد الرحمان صفات جمعت فأوعت بحيث لم تترك جانبا من جوانب التصرف الإنساني إلا واتت عليه في ميادين العقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق، هنيئا لعباد الرحمان فهم في الغرفات يتنعمون تلقى عليهم التحية والتكريم في سلام وآمان وطمأنينة، إن عباد الرحمان خالدون في الجنة التي هي نعم المستقر والمقام فالله تبارك وتعالى غني عن عباده لا تضره معاصيهم وكفرهم ولا تنفعه طاعاتهم وإيمانهم، إنما هي أعمالهم يحصيها لهم لن يستطيع الكافرون بكفرهم أن يلحقوا به ضررا، انه سبحانه وتعالى لا يعبأ بكفر من يكفر وان تكذيب المكذبين لن يعود إلا عليهم بالمضرة والوبال والعذاب الشديد هذا العذاب الذي هو عقاب استحقوه بما قدمت أيديهم في الحياة الدنيا.