فضيلة الشيخ محمد الشاذلي النيفر رحمه الله: ملامح من شخصيته وجوانب من عطاءاته
من السنن الحميدة التي ينبغي أن تتكرس وتتعاضد الجهود والطاقات في سبيل أن يعم الوعي بها حتى تصبح ممارسه تلقائية تكريم الأعلام والرجالات (والنساء ضمنا) الذين تركوا بصماتهم وآثارهم التي لا تمحى في المجتمع بكل فئاته وأجياله، وهذا التكريم يكون ماديا في حياة هؤلاء ولكنه أيضا ينبغي أن يكون معنويا لأنه غير مكلف خصوصا عندما تتقدم بهؤلاء السنّ فيكونون قاب قوسين أو أدنى من الرحيل عن هذه الدار –وان كانت الآجال بيد الله- أو بعد وفاتهم. اعتقد أن ذلك هو اقل ما يجب نحو من افنوا أعمارهم في سبيل أن يشعوا بما اكتسبوه من علوم (والعلم نور) على من حولهم ومن يأتي بعدهم. والحضارة العربية الإسلامية مليئة بالتنظير المتمثل في آلاف النصوص –وبدون مبالغة- الرافعة لشان حملة الأقلام ورجالات العلم وان كان التجسيم العملي لهذه الرفعة لم يرتق إلى المستوى المنشود والمأمول، وما أكثرهم أولئك الرجال (والنساء) الذين رحلوا عنا في غفلة أو تغافل منا كأنهم لا فرق بينهم وبين من عاشوا ويعيشون لأنفسهم ولأنفسهم فقط. قدمت بهذه المقدمة لأنوه بمبادرة بيت الحكمة بقرطاج التي أقامت يوما دراسيا عن حياة فضيلة الشيخ محمد الشاذلي النيفر رحمه الله هذا العالم الجليل والمؤرخ القدير والباحث المحقق والوطني الذي لم يشغله تحصيله وعطاؤه العلمي عن أن تكون له مشاركته الكبيرة سواء كان ذلاك إبان الحركة التحريرية أو بعد نيل البلاد للاستقلال، لقد أبلى رحمه الله في الحقبتين البلاء الحسن وكم كنا نود لو أن فضيلة الشيخ محمد الشاذلي النيفر رحمه الله دون أو سجل ولو عن طريق أشرطة سمعية شهادته لما عاشه شخصيا وما كان فيه طرفا وحاضرا من أحداث هامة سواء كان ذلك قبل الاستقلال أو بعده ذلك أنه مهما كانت شهادات من عرفه وزامله وافية فإن الرؤية كانت ستكون أكمل واشمل وأدق لو رواها –سواء كتابة أو بصوته- فضيلته ففي كل مرة أزوره فيها في بيته بالقرجاني كنت استمع إلى المعلومات الدقيقة الضافية حول أمهات القضايا والمراحل من تاريخ تونس الحديث وكنت كل مرة أتأسف شديد الأسف لماذا لا تدون مثل هذه المعطيات فهي ليست من قبيل الذاتي الشخصي بل هي من قبيل العام الذي يهم الجميع. ذلك جانب من جوانب شخصية الشيخ محمد الشاذلي النيفر رحمه الله ضاع عنا الكثير منه وفاتتنا فرصة تحصيله منه مباشرة وبدون واسطة. ورغم أن هذا اليوم الدراسي وكذلك ما يمكن إن يعد حوله من بحوث جامعية كل ذلك سيعرف بالشيخ محمد الشاذلي النيفر رحمه الله ولكنها مناسبة نغتنمها لندعو الأفراد سواء كانوا طلبة في أقسام الدراسات العليا في الجامعات التونسية أو إعلاميين أو غيرهم وكذلك المؤسسات ذات الاهتمام بكل ما هو علمي فكري توثيقي كي لا يتركوا من لا يزالون على قيد الحياة وهم كثر من رجالات تونس وأعلامها كي يفسحوا لهؤلاء المجال حتى يقدموا بأنفسهم وفي قائم حياتهم بعض ما عرفوا ولربما اختصوا به دون سواهم. إن جوانب شخصية فضيلة الشيخ محمد الشاذلي النيفر رحمه الله عديدة وقد تهيأ لي شخصيا أن أتعرف عليه من قرب سواء كان ذلك في جمعية المحافظة على القرآن الكريم التي ترأس مجلسها وكان الشيخ الوالد الحبيب المستاوي رحمه الله كاتبها العام أو كان ذلك في الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين وكان المدرس اللامع فيها وقد تشرفت بالتتلمذ عليه في دروس المرحلة الثالثة ما بعد الإجازة في شعبة الفقه والسياسة الشرعية أو عندما آلت إليه عمادة هذه الكلية (وريثة جامعة الزيتونة العريقة) وكانت فترة عمادته لها من أخصب المراحل فقد صدرت في عهده القوانين المنظمة لسير الدراسات العليا (دكتوراه المرحلة الثالثة ودكتوراه الدولة) أمكن لعدد كبير من الأساتذة والشيوخ والطلبة من تونس وخارجها إن يناقشوا أطروحاتهم وينتدبوا للتدريس الجامعي في تونس وفي البلدان الشقيقة. كما أقام فضيلته وهو يتولى عمادة الكلية أكثر من مؤتمر علمي إسلامي احتضنت أشغاله الزيتونة (أسبوع الفقه الإسلامي، ذكرى مرور ثلاثة عشر قرنا على تأسيس الزيتونة (الجامع والجامعة)).كما عرفت فضيلة الشيخ محمد الشاذلي النيفر رحمه الله من خلال السفر معه لحضور مؤتمرات وندوات إسلامية في الرياض ومكة المكرمة وفي الجزائر والمغرب وموريطانيا وكنت في هذه الرحلات استفيد أيما استفادة من علمه الغزير الذي يزينه خلق رضي وابتسامة لا تغادر محياه كان رحمه الله لطيفا ذا دعابة يمزح ولا يقول إلا حقا وكان نصوحا محبا لأبنائه الروحيين لا يبخل بإفادتهم ويسره ما يحققونه من نجاح وسبق، لا يكتفي باستقبالهم في مكتبه بالكلية بل يدعوهم إلى بيته العامر الذي ظل يعج بالزوار القادمين من كل صوب الجميع يخرجون قريري العيون وقد عمهم وغمرهم بكرمه وسماحته ووعده بالمساعدة الممكنة. وعرفت فضيلة الشيخ محمد الشاذلي النيفر رحمه الله من خلال انضمامه من أول يوم إلى أسرة تحرير مجلة (جوهر الإسلام) فكان إلى جانب الشيخ الوالد رحمه الله، لا يكاد يخلو عدد من أعدادها من مقاله أو دراسته أو قصيده آتيه إلى بيته أو في جمعية المحافظة على القرآن الكريم في سيدي بن عروس أو في مكتبه في عمادة الكلية الزيتونية فلا أعود منه إلا بمقال خاص لمجلة (جوهر الإسلام) قال لي رحمه الله ذات يوم كنت في قاعة انتظار لمقابلة شيخ الأزهر في القاهرة فلما قدمت نفسي للموظف المكلف بالاستقبال قال لي (الشيخ الشاذلي النيفر) أنت الذي تكتب باستمرار في مجلة (جوهر الإسلام) قال (الشيخ الشاذلي النيفر) قلت نعم. كان رحمه الله يعترف لأهل الفضل بفضلهم وكانت علاقته بالشيخ الوالد علاقة أخوة صادقة فقد ضمهما إلى بعضهما أكثر من مجلس وأكثر من مسؤولية دينية ووطنية وكانا رحمهما الله إلى جانب غيرهما من العلماء الأعلام الذين نذكر منهم المنعم فضيلة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رحمه الله والمنعم فضيلة الشيخ محمد الشاذلي بلقاضي رحمهما الله كان هؤلاء وغيرهم ممن أفضوا إلى ربهم ومن مازال منهم على قيد الحياة يؤمنون بالتلازم الوثيق بين ما هو ديني وما هو وطني إذ (حب الوطن من الإيمان). وبعد أن توفي الشيخ الوالد سنة 1975 وواصلت إصدار مجلة (جوهر الإسلام) كان فضيلة الشيخ محمد الشاذلي النيفر رحمه الله بجانبي سواء كان بمواصلة مدي تباعا بالمقالات والدراسات مما يمثل بحق رصيدا علميا هاما في مختلف مجالات الثقافة العربية الإسلامية أو بما كان يقدمه إلي من نصائح وتوجيهات ساعدتني على أن تظل مجلة (جوهر الإسلام) وفية للخط الذي تأسست من اجل خدمته ألا وهو: الدفاع عن حقائق الإسلام وإزالة ما الصق به من شبهات كل ذلك بحكمة واعتدال جعلها تواصل بعد وفاة مؤسسها الصدور لأكثر من عشر سنوات موفرة بذلك مادة عملية دينية أصيلة كانت في تلك المرحلة من تاريخ تونس الحديث أحد مواردها العذبة. إن الحديث عن الشيخ محمد الشاذلي النيفر رحمه الله لا يمكن أن يستوفيه مقال ولا دراسة فالرجل متعدد الاختصاصات والاهتمامات واسع العطاءات تجاوز إشعاعه حدود تونس إلى المشرق والمغرب وكان فيما تمحض وتفرغ له في السنوات الأخيرة من عمره ألا وهو خدمة المذهب المالكي كان المرجع والحجة، إليه رحمه الله انتهت الرئاسة العلمية الفعلية وكان رحمه الله مثله مثل فضيلة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رحمه الله خير من رفعا رأس تونس العربية المسلمة عاليا شامخا في الندوات والمؤتمرات التي عقدت في مختلف عواصم العالمين العربي والإسلامي. فرحم الله الشيخ محمد الشاذلي النيفر رحمة واسعة وأجزل مثوبته ونفع بعلمه واسكنه فراديس جنانه.