فتوحات وإشراقات والهام الهي وفتح رباني للإمام الشاذلي: حزب الحمد نموذجا لها
كانت ليلة الجمعة الليلة العاشرة من ليالي الموسم الشاذلي السنوي الذي ينتظم بالمقام والذي ينطلق من بداية شهر جوان ليتواصل إلى أواخر شهر أوت وبداية شهر سبتمبر وقوام هذا العمل كما هو معلوم تلاوة جماعية لستة أحزاب من القرآن الكريم تنطلق بعد أداء صلاة العشاء جماعة وبعد الاستماع إلى إنشاد ديني بصوت الشيخ أحمد مفتاح ومن يعززه من المنشدين وتنتهي فقرة القراءة للقرآن بدعوات وضراعات إلى الله يؤمن عليها الحاضرون لتبدأ على اثر ذلك الفقرة الثانية والمتمثلة في قراءة جماعية لحزب البحر وحزب آخر من أحزاب سيّدي أبي الحسن الشاذلي بإشراف من الشيخ حسن بن حسن شيخ المغارة والمقام وبمساعدة الشيخ الطيب بن عثمان ويلي ذلك توجه هو عبارة عن موعظة تنطلق من آيات الكتاب العزيز وهدي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ودعوات وابتهالات تتلى على إثرها فاتحة الكتاب مرات عديدة بأيد ممتدة إلى الله تبارك وتعالى وكلها رجاء ببلوغ الغايات في هذه الحياة وبعد الممات. أما الفقرة الأخيرة من العمل الشاذلي فتتمثل في دخول بيت الذكر الذي لا يخرج عن ترديد اسمي الله سبحانه وتعالى (الله، هو) بصفة جماعية وبنسق تصاعدي تخشع له القلوب وتدمع به العيون ويحصل للذاكر ترق يخرج على إثره منشرح الصدر قرير العين لا ينفك لسانه عن الحمد والشكر لله الذي وفقه وسدده وهداه وأرشده لما أمر الله به عباده المؤمنين في آيات الكتاب حيث قال جل من قائل (اذكروني أذكركم) والقائل (اذكروا الله ذكرا كثيرا). كان الموعد ليلة الجمعة العاشرة وهي آخر ليلة (قبل دخول شهر رمضان المبارك) مع حزب الحمد وما أدراك ما حزب الحمد وكل أحزاب أبي الحسن درر وغرر وقمم في الفصاحة والبلاغة والعمق والنفاذ إلى أعماق النفس البشرية والدخول معها في ترق في المناجاة والدعاء والاستغاثة والمصارحة من قارئ هذه الأحزاب المباركة بعقله وقلبه، ذلك أن أبا الحسن الشاذلي هو بحق فارس هذا الميدان الذي لا يشق له غبار وهو عنوان لمدرسة سار على هديها وترسم خطاها واستمد من عطائها الروحي أعلام جاؤوا من بعده منهم خليفته أبو العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري والإمام البوصيري صاحب البردة والهمزية غيرهم ممن أتمتد سندهم إلى ما شاء الله من القرون الطويلة ولا تزال معينا روحيا لا ينضب كأن حبرها لم يجف وكأن أصحابها الذين صاغوها لا يزالون على قيد الحياة ولم يغادرونا إلى دار البقاء قبل قرون عديدة، سبحان الله إن لكلامهم حلاوة وإشراقا ونورا، انه كلام قريب عهد من الله. ليس في هذا الكلام أدنى تكلف أو تصنع أو تقعر فحاشاهم من ذلك وهم من كانوا لأنفسهم بالمرصاد جاهدوا أهواءها حتى صفت وذاقت وحلى لها الذوق ففاضت بما فتح الله به عليها مما هو من الله واليه فلا غرابة أن تجد هذه الكلمات القبول لدى كل من ينهلون من معين الروح والذي هو نورانية وإشراق وسبح في ملكوت الله الرحب، ملكوت الرحمة الالهية والمحبة الربانية الصادقة الخالصة. كنت وسط الجمع المبارك الكريم في صحن المقام أتابع من خلال ما احفظ من حزب الحمد ومن خلال ما شاركت في قراءته من مجموع بين يدي أحد الإخوة وكان جالسا بجواري هو كهل رأيت فيه مهابة وإشراقا وتفاعلا صادقا مع مختلف فقرات حزب الحمد والتي افتتحها الإمام أبو الحسن بسور عديدة (الإخلاص والمعوذتين والفاتحة) وكذلك آيات أخذت بأعناق بعضها البعض وتتابعت في انسجام وتناسب معنوي عجيب، هي آيات توحيد وتسبيح وحمد ودعاء ليعود من جديد إلى السور المباركة (الإخلاص والمعوذتين) ولينطلق بعد ذلك في ثناء على الله سائلا ربه بما سأله به المخلصون من النبيين والصديقين والشهداء والصلحاء والعلماء الموقنين والأولياء المقربين من أهل السماوات والأرض وسائر الخلق أجمعين إن أبا الحسن يسال ربه بذلك وبالآيات والأسماء كلها فيقول على اثر ذلك (ارحمني برحمتك التي رحمت بها أنبياءك ورسلك ولا تجعلني بدعائك رب شقيا واني خفت وأخاف أن أخاف ثم لا اهتدي إليك سبيلا فاهدني إليك وامني بك من كل خوف ومخوف في الدين والدنيا والآخرة انك على كل شيء قدير. اللهم يا بديع السماوات والأرض ويا قيوم السماوات والأرض ويا قيوما بكل شيء يا حي يا قيوم يا إلهنا لا إله إلا أنت كن لنا وليا ونصيرا وأمنا بك من كل شيء حتى لا نخاف إلا أنت واجعلنا في جوارك واحجبنا بالذي حجبت به أولياءك فترى ولا يراك أحد من خلقك أصبب علينا من الخير أكمله وأجمله واصرف عنا من الشر أصغره وأكبره طس حم عشق مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان، اللهم إنا نسألك الخوف منك والرجاء فيك والمحبة لك والشوق إليك والأنس بك والرضى عنك والطاعة لأمرك على بساط مشاهدتك ناظرين منك إليك وناطقين بك عنك لا اله إلا أنت سبحانك ظلمنا أنفسنا وقد تبنا إليك قولا وعقدا فتب علينا جودا وعطفا لا اله إلا أنت سبحانك ربنا ظلمنا أنفسنا وقد تبنا إليك قولا وعقدا فتب علينا جودا وعطفا واستعملنا بعمل ترضاه وأصلح لنا في ذريتنا إنا تبنا إليك وإنا من المسلمين يا غفور يا ودوديا بر يا رحيم اغفر لنا ذنوبنا وقربنا بودك وانصرنا بتوحيدك وارحمنا بطاعتك ولا تعاقبنا بالفترة ولا بالوقفة مع شيء من دونك واحملنا على سبيل القصد واعصمنا من جائرها إنّك على كل شيء قدير...) ولولا خشية الإطالة وضيق الحيز المخصص لمضيت موردا للقارئ فقرات أخرى إذ القلم يأبى عليّ أن أتوقف ولكن حسبي هذه المرة بهذا المقدار من حزب الحمد وما هو إلا نزر قليل لاشك انه عنوان معبر ومشوق لهذا الحزب بل لكل أحزاب أبي الحسن الشاذلي التي يمكن أن نقول في حقها ما قيل في حكم ابن عطاء الله السكندري انه لو جازت الصلاة بكلام بشر (ولا تجوز الصلاة إلا بكلام الله القرآن الكريم) لجازت بكلام ابن عطاء الله وبكلام شيخ شيخه الإمام أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه ولا تزال المطابع تخرج علينا بشروح مستفيضة لأحزاب أبي الحسن وحكم ابن عطاء الله حررها علماء أعلام وشيوخ كبار تستخرج ما في مادة هذه الأحزاب والحكم من فتوحات وإشراقات هي ولا شك من الإلهام الإلهي الذي لا غرابة فيه ولا عجب من أمره الم يقل جل من قائل (اتقوا الله ويعلمكم الله)؟ وأبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه الذي تعتزّ هذه البلاد (تونس) بأنه مرّ بربوعها مرورا ترك بها سندا روحيا متصلا فلا تزال المغارة والمقام الشاذلي يشدان إليهما من كل الآفاق والأمصار من مختلف الأجناس من ينشدون السكينة والطمأنينة ويرتوون من معين أحزاب أبي الحسن الشاذلي وتوجهاته وضراعاته واستغاثاته التي فضلا على أننا لا نكاد نجد لها نظيرا في المدونة الصوفية على الأقل في مستوى الكم الكبير فإننا أيضا لا نجد مثيلا لكيفية القراءة لهذه الأحزاب بصفة جماعية نظيرا في ترتيب دقيق ومتناسق ومتواصل عبر الزمان الطويل وذلك في تونس في المقام في الموسم السنوي وفي المغارة على مدار السنة، فالحمد لله أولا وآخرا على هذه المنة الإلهية وهذه الخصوصية التونسية التي ظلت عبر العصور محل عناية خاصة من القائمين على المغارة والمقام ومن المرتادين للمقام والمغارة من مختلف الفئات الاجتماعية وعلى رأسهم الهيئة العلمية الدينية الزيتونية الموقرة .