الإشعاع الروحي للمغارة والمقام الشاذلي بتونس
المقام الشاذلي بتونس معلم ديني وروحي عريق اختاره الإمام أبو الحسن الشاذلي عندما حل بتونس كان ينقطع فيه الأيام الطوال للعبادة في المغارة الواقعة في قمة الجبل الرفيع الشامخ المنور بالقرآن الكريم وبذكر الله العامر بهما على امتداد القرون الطويلة. مكرمة إلهية وهبة ربانية لتونس وأهلها. ومما يدل على أن العمل الشاذلي خالص لله هو هذا الدوام والاستمرار، وذلك الإجماع على شرعيته من قبل الهيئة العلمية الزيتونية فقد كان كبار الشيوخ لا يغيبون عن المقام والمغارة خصوصا في ليالي الأختام وفي ما يقام في المقام والمغارة من مواسم على امتداد العام فكنت تراهم بعمائمهم البيضاء التي هي تيجان على رؤوسهم تزيدهم بهاء وجمالا وتزيد الناس بهم حفاوة ولهم تبجيلا- فكنت تراهم وسط جموع الزوار يعطون الصبغة الشرعية لتقاطر تلك الجموع الغفيرة على المقام والمغارة. ذلك أن كل ما يجري في المقام والمغارة موافق للكتاب والسنة ليس فيه بدعة ولا هرج ولا مرج، بل سكينة وانصراف من قبل الجميع إلى الانصهار في العمل الشاذلي بالكلية. وليلة الجمعة من كل أسبوع في موسم الزيارة هي ليلة من ليالي القرآن والذكر والدعاء والضراعة إلى الله بالابتهالات وصيغ المناجاة الرائعة التي تركها الإمام الشاذلي لأتباعه ولسواهم ممن يتذوقون ويتفاعلون مع تلك الصياغات التي يشهد فيها الخاص والعام للإمام الشاذلي ولفرسان الشاذلية بحيازة قصب السبق. تتقاطر الجموع الغفيرة على المقام في سكينة وانتظام كل ليلة الجمعة. وعلى اثر صلاة المغرب بحوالي ساعة يقول باش محرك (الشيخ فتحي دغفوس): سيدي... وقت إيذانا بإنطلاق “العمل” وهكذا ينادى على باش منشد (الشيخ احمد مفتاح) حيث يجلس في مكانه لينادى من بعده على شيخ القراء (الحاج محمد المبروك) ويأخذ مكانه ثم ينادى على شيخ الحزابة (الحاج الطيب ابن عثمان) الذي يأخذ مكانه ثم ينادى على شيخ الذكارة (الشيخ محمد بالرحومة) ثم يأتي الشيخ حسن بن حسن (شيخ المقام والمغارة) فيجلس في مكانه ليوضع العشاء وتقرأ وظيفة السماط علما بأن هذا العشاء يعد خصيصا لأركان العمل الشاذلي من المشائخ المذكورين ومساعديهم. وهذا الترتيب الدقيق يحرص الجميع على احترامه والالتزام به: توقيتا ومجلسا وحركة وسكنة، فالكل رهن إشارة شيخ المقام والمغارة الشيخ (حسن بن حسن) يتولى تنفيذ وإبلاغ التعليمات للجميع باش محرك (فتحي ذغفوس) ومساعدوه من السَدنة وخدام المقام والمغارة الشاذلية الذين يحرص الشيخ على اكرامهم بما يرضيهم وهم قبل ذلك يتشرفون بالخدمة ويعتزون بها ويطلبون الثواب عليها من الله سبحانه وتعالى. إنهم يقومون بالأدوار المنوطة بعهدتهم بحركية وانضباط وروح عالية من الاحترام والترحيب بالجميع فهم يعرفون الجميع بأسمائهم ويعرفون مواقعهم ومنازلهم في المجتمع، ويتحركون بأنفاس شيخ المقام والمغارة الشاذلية. يقرأ شيخ المقام ومساعدوه من الشيوخ سورة الفاتحة وسورة لإيلاف قريش ويسبحون الله ويذكرونه ويدعونه بما يناسب المقام وما هم بصدد القيام به ويرددون (بسم الله خير الأسماء في الأرض وفي السماء، اللهم اجعل فيه (الشفاء..) والطعام المعد للشيخ ومساعديه يطهى في الزاوية وما يقع القيام به من إعداد مادي هو عبارة عن فرح يتواصل طيلة أربعة عشر أسبوعا ووراء هذا العمل المضني جنود خفاء من الرجال والنساء يتفانون في البذل والعطاء والخدمة في المقام والمغارة أكثر من تفانيهم في خدمة بيوتهم وأفراحهم الخاصة. قبل صلاة العشاء يأخذ الشيخ (أحمد مفتاح) باش منشد مكانه ومعه المنشدون والمساعدون له فيشنفون الآذان بأروع القصائد في الأمداح النبوية والضراعات والابتهالات التي تخشع لسماعها القلوب وهكذا يتواصل الإنشاد إلى ان يحين وقت صلاة العشاء فيبدأ الآذان الأول ثم يليه آذان جماعي خارج الصحن لتردد على إثره بصفة جماعية الصلاة على رسول الله وآله (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله...). كل هذا الترتيب يكون بإشارات يفهمها القائمون على العمل والترتيب الشاذلي من بعضهم البعض. ثم يأخذ باش محرك الإذن لشيخ القراء للنزول لإمامة الناس في صلاة العشاء ثم تليها المعقبات ويصلي من أراد أن يصلي ثم يجلس القراء في أماكنهم ويوزع عليهم سماطهم وهو عبارة عن قطع من الخبز الصغير (المعد خصيصا) وينزل الشيخ (محمد المبروك) شيخ القراء من جديد ويحتل مكانه من الحلقة ولا تبدأ القراءة إلا بعد أن يتلقى الإذن من باش محرك (فتحي دغفوس) قائلا (الحاج محمد المبروك يتوكل على الله) وتبدأ بذلك قراءة مرتلة متأنية للمقدار المقرر لتلك الليلة يقود هذه القراءة شيخ القراء ومساعدوه ويتبعهم حفاظ القرآن من الأئمة وغيرهم ممن تشدهم حلقة القرآن الكريم في موسم الزيارة بالمقام كما هو الحال في المغارة في الموعد الأسبوعي بين مغرب وعشاء مساء الجمعة من كل أسبوع على امتداد السنة. وحلقة القرآن الكريم في المقام الشاذلي تولاها شيوخ مهرة أدركنا بعضهم منهم: الشيخ محمد المهيري رحمه الله والشيخ محمد الهادي بلحاج رحمه الله وقد كانت لهما صولات في تلاوة القرآن في المقام والمغارة يهتز لها الجميع حيث كانا يفرضان انضباطا منقطع النظير فلا يعلو على صوتيهما صوت. وحلقة القرآن الكريم في سيدي بلحسن تخرج منها عديد الحفاظ الذين يحرصون على تعهد حفظهم والالتقاء في المقام والمغارة بزملائهم وشيوخهم ويتلاومون عن الغياب والتقصير إن حدث من احدهم أو بعضهم. وليلة ختم القرآن في المقام ليلة مشهودة، إنها ليلة عظيمة إذ لا تكاد تجد موضع قدم تجلس فيه، يحرص على شهودها الكبار والصغار وعلية القوم ورؤوسهم. والختم في المقام يتم في موسم الزيارات مرتين إحداهما في الوسط والثانية في الختام والقرآن الذي يقرأ في المقام يتكامل مع القرآن الذي يقرأ في المواسم التي هي ستة: 1- الخميس الأول من رجب وتسمى جمعة الرغائب. 2- ليلة الإسراء 3- ليلة النصف من شعبان 4- ليلة عرفات 5- ليلة عاشوراء 6- ليلة المولد فمن هذه المواسم ومن أسابيع الزيارة تتكون سلكة القرآن في المقام. وهي غير السلكة التي تقرأ بالمغارة مساء كل يوم جمعة بين المغرب والعشاء حيث يختم القرآن عديد المرات في السنة. وعند بلوغ القراء إلى سورة (والضحى) ليلة الختم ينزل الشيخ (حسن بن حسن) ويأخذ مكانه وسط المحراب ويتولى إجلاسه باش محرك ويتصعد نسق القراءة شيئا فشيئا ليبلغ قمته لا في ارتفاع الأصوات وإنما في الخشوع والحضور والى أن يصل إلى فاتحة الكتاب وأول البقرة وخواتيمها وما يتبعها من آيات الدعاء وتمتد الأيدي إلى الله راجية منه القبول والتجاوز والغفران. واثر ذلك يدعو الشيخ (حسن بن حسن) سرا ويؤمن على دعائه الحاضرون وتقرأ وظيفة الإمام ابن عرفة التي توزع نسخ منها على الحاضرين ليتناسق العمل الشاذلي ويتم الختم (ختم القرآن) على أتم الوجوه وأحسنها ويهنئ بعد ذلك القراء والحاضرون شيخهم ويعضهم البعض على توفيق الله لهم. وتبدأ على إثر ذلك مرحلة أخرى حيث يأخذ باش محرك (فتحي دغفوس) الإذن من شيخ المقام لكي تبدأ قراءة الأحزاب المقررة وينادى على الشيخ (الطيب بن عثمان) شيخ الحزابة ليأخذ مكانه وسط أركان الحلقة ممن يحفظون عن ظهر قلب أحزاب الإمام الشاذلي المعروفة والمشهورة “حزب البحر، حزب البر، حزب التوسل، حزب اللطف وغيرها” وينزل الشيخ (حسن بن حسن) ويأخذ مكانه. وليلة ختم الموسم يقرأ حزب البحر والحزب الكبير بقسميه ووظيفة الأختام ويختم كل ذلك بالدعاء إلى الله بتقبل الأعمال قائلين في نهاية هذه المرحلة جماعة (وسيلتنا إلى الله يوم العرض على الله: لا اله إلا الله محمد رسول الله) ثم يقوم على اثر ذلك شيخ المقام والمغارة الشيخ (حسن بن حسن) ليدخل إلى بيت الذكر حيث يجد شيخ الإنشاد الشيخ (أحمد مفتاح) ومن معه ينشدون المرزوقية وهي قصائد صوفية جميلة تنسب إلى سيدي (احمد زروق) ويبقى معهم الشيخ (حسن بن حسن) برهة من الزمن ليخرج على إثرها ويدخل الذكارة لابسين ثيابا من الصوف (يمتص العرق) وتبدأ المرحلة الأخيرة من العمل الشاذلي التي تمتد إلى طلوع الفجر، حيث يردد الذاكرون بصفة جماعية اسم الله “الله، الله، الله، ثم هو، هو، هو” يقودهم شيخ الذكارة ويصطفون متقابلين وهذا الجانب من العمل الشاذلي هو لخاصة الخاصة حيث يكتفي بقية الزائرين للمقام الشاذلي بالمرحلتين الأولى “تلاوة القرآن” والثانية “تلاوة الأحزاب الشاذلية” وعند الانتهاء من هذين المرحلتين يتسلم الزائرون من سدنة المقام الشاذلي السماط وهو عبارة عن خبز صغير يعودون به لعائلاتهم بنية التبرك ويشتري البعض الآخر من باعة الحلويات الموجودين خارج الزاوية ما يلذ لهم ويطيب من الحلويات التونسية التقليدية. بينما يواصل الذاكرون ذكرهم الجماعي المرتب المنظم إلى مطلع الفجر لينتهي العمل بصلاة الصبح جماعة وبذلك تنتهي الزيارة. ذلك وصف للعمل الشاذلي في المقام والذي يتكرر على امتداد ليالي الزيارة الأربعة عشر للمقام الشاذلي. ويشد المقام الزوار من مختلف الفئات والجهات ومن مختلف المستويات فالبعض لا يفوتهم أسبوع والبعض الآخر يأتون في الافتتاح وفي الوسط وليلة الاختتام، والبعض يأتون للفسحة وحب الاطلاع وفرارا من حرارة المدينة حيث أن المقام والمغارة في موضعين مرتفعين يهب عليهما النسيم العليل وكثيرا ما تبدأ الزيارة بفسحة ترويحية لتصبح سنة معتادة حيث تجتذب الروحانية القوية للمقام والمغارة من سبقت لهم من الله الحسنى وأراد الله اجتذابهم إليه واصطفاءهم لتلقي نفحاته الزكية وهؤلاء والحمد لله كثيرون وهم في بعض الأحيان ممن يتصور أنهم بعيدون كل البعد عن هذه الأجواء الروحانية حيث تجد في المقام والمغارة كل الفئات: الفنانين والرياضيين والحرفيين ورجال الأعمال ورجال السياسة وتجد رجال العلم والثقافة وتجد الكبار المسنين وتجد الكهول وتجد الشبان ممن هم في مقتبل العمر وتجد النساء فلهن مكانهن ومنزلتهن المحفوظة والمرعية في المقام والمغارة الشاذلية. ويشد المقام والمغارة الشاذلية التونسيين المقيمين وأولئك الذين يعملون خارج حدود الوطن كما يشد المقام والمغارة إليهما غير التونسيين من الأشقاء العرب من ليبيا، الجزائر، المغرب وغيرها وكذلك المسلمين القادمين من أروبا (فرنسا، ايطاليا، اسبانيا، سويسرا، انقلترا) ومن (الأمريكتين وآسيا وإفريقيا) إنهم يأتون منذ سنوات بأعداد كبيرة، منهم من يقضي كل فصل الصيف بتونس لكي لا يفوته أسبوع من أسابيع الزيارة ومنهم من يأتي في الافتتاح ومنهم من يأتي في الاختتام. والشاذلية يعرفون أسماء كبيرة من إخوانهم في الطريقة من الأوروبيين والفرنسيين بالخصوص من أمثال المرحوم الشيخ مصطفى فلسان وداود قريل واندري جيلس عبد الرزاق يحي والدكتور محمد عبد السلام لدوز ومحمد فلسان وغيرهم. إن هؤلاء الشاذلية الأوروبيين يأتون مصحوبين بأسرهم من زوجات وأبناء وبنات ويظلون يترددون طيلة أيام إقامتهم في تونس على المقام وعلى المغارة وعلى الخلوة “بسوق البلاط” وعلى زغوان وعلى سيدي محرز والسيدة المنوبية وسيدي علي الحطاب وسيدي الشريف وسيدي بوسعيد، فهم يعرفون في تونس كل هذه المقامات والزوايا والمزارات. وتونس مليئة بها وهي أماكن يحس فيها الزائر بالسكينة والطمأنينة وتلك منة من منن الله على تونس وأهل تونس. ختم (الشفا) بالمقام الشاذلي وينتظم بالمقام الشاذلي موكب ختم كتاب ((الشفا)) بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي أبى الفضل عياض بن موسى اليحصبي رحمه الله وهي سنة حميدة جرت على إقامتها مشيخة المقام الشاذلي عدة مرات في السنة حيث توزع على الحضور من مختلف الفئات والأجيال نسخ من الأجزاء التسعة عشر التي تولت أخراجها في أسفار جميلة أنيقة مشكولة النص لتسهل قراءتها مطبعة الخيري الفاضل السيد الطيب قريسة رحمه الله، وقد انتظمت هذه السنة الحميدة في السنوات الأخيرة بفضل الحرص الشخصي لفضيلة الشيخ حسن بن حسن شيخ المقام الذي انتدب لإنجاح هذا الموكب ثلة من مساعديه وأعوانه ممثلة في الشيخ فتحي دغفوس مقدم الزاوية ومن معه. وهكذا يتعطر المقام الشاذلي (المغارة) بذكر محامد وفضائل وخصائص سيد الأنام عليه الصلاة والسلام وترتفع إلى الله صادق الدعوات وأخشعها وأخلصها في أجواء من الصلاة على سيد الأنام امتثالا للأمر الإلهي لعباده المؤمنين في كتابه العزيز القائل (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) وتحف الألطاف الإلهية من يشهد موكب ختم كتاب ((الشفا)) وكذلك من غاب لسبب من الأسباب بما تتضمنه الدعوات والفواتح المتوالية والتسابيح والاستغاثات التي يؤمّن عليها الحضور من الرجال والنساء اللاتي تحرصن على أن لا تغبن عن هذا الموكب الديني البهيج مرتفعة على اثر الانتهاء من الموكب حناجرهن بالزغاريد حفاوة ومسرة وحبورا بمن رفع الله له ذكره وشرح له صدره وأعطاه الكوثر صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا مباركا كما ينبغي وكما يجب وكما يحب ويرضى. (الشفا) سجل لكمالات رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظم موكب ختم (الشفا) اثر صلاة العصر من يوم السبت وهو اليوم الذي كان يتفرغ فيه القاضي عياض لتحرير كتابه ((الشفا)) حيث كان رحمه الله لا يخرج للناس في ذلك اليوم إذ يلازم بيته لغاية نبيلة في نفسه أخفاها إلى ان أتم عمله الذي ليس له من دافع ولا غاية إلا نشر محامد وفضائل وخصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم وتحقيق القول فيها وتدقيقها وضبطها ثم صياغتها في هذا الكتاب الجامع الذي ألفه تقربا إلى الله وحبا صادقا منه لرسول الله صلى الله عليه وسلام وإشاعة ونشرا بين الناس بمختلف أجيالهم على مر الزمان لما يجب على المسلم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالا يجوز في حقه عليه الصلاة والسلام وما فطره الله عليه من صفات الكمال وآيات الجمال ليكون على الناس حجة ولمن يؤمن به ويتبعه قدوة وأسوة (ولكم في رسول الله أسوة حسنة). وقارئ كتاب ((الشفا)) تكتمل لديه الصورة الخُلقِيَّة والخَلقِيَّة فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه ماثل أمام القارئ، نور من الله يهدي إلى صراط الله المستقيم وتحقيق مرضاة رب العالمين، فهو عليه الصلاة والسلام الرحمة للناس أجمعين (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وهو صلى الله عليه وسلم من امتن به الله على عباده المؤمنين فقال في حقه (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). كل هذه المعاني فصل فيها القول القاضي عياض ومحصها ودققها ووضعها بين يدي قارئ (الشفا) مبوبة منظمة تأخذ فصولها وأبوابها بأعناق بعضها البعض من الفاتحة المبينة للغرض من تأليف كتاب ((الشفا)) إلى الخاتمة المتضمنة للضراعة والدعاء إلى الله كي يتقبل بكرمه وجوده وإحسانه هذا العمل الخالص لوجهه الكريم. ففي أيام السبت ألف كتاب ((الشفا)) وفي أيام السبت تعقد أختام ((الشفا)) لأنها الأيام التي يتفرغ فيها البعض للنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نيل لم ينقطع منذ ان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بشيرا ونذيرا، نيل لن ينقص من شأنه ولن يشكك في عظمته وكماله وجماله صلى الله عليه وسلم، نيل لن يزيده عند ربه وعند المؤمنين به وعند العقلاء والفضلاء من غير المؤمنين إلا رفعة ولن يزيد دينه والهدى الذي جاء به ودعا إليه إلا انتشارا فذلك ما وعد به الله رسوله صلى الله عليه وسلم ووعد به المؤمنين حيث قال جل من قائل (ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون ان كنتم مؤمنين) فالله متم نوره والواقع يشهد انه كلما وقع النيل من الإسلام ومن رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام ومن الكتاب المبين الذي جاء به من عند الله إلا وازداد الإقبال أكثر على التعرف إلى هذا النبي الكريم وهذا الرسول العظيم وهذا الكتاب الخالد القرآن الكريم.. الواقع خير شاهد فرب ضارة نافعة فطبعات معاني القرآن وكتب السيرة المترجمة إلى كل اللغات سرعان ما تنفد وتعاد الطبعة تلو الطبعة ويلتجأ إلى التصوير والاستنساخ وكثيرا ما يكون الاطلاع عليها ومدارستها إما سبيلا لاعتناق الإسلام أو على الأقل إلى إنصافه وإنصاف رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام ولو كانت في كثير من الأحيان تصرفات بعض المسلمين وأراء بعض المسلمين تتناقض وتتعارض تعارضا صارخا مع التصرف القويم السليم البعيد عن التحجر والتعصب والتطرف. ما كان لله دام واتصل ان كتاب (الشفا) الذي ينتظم لأجل ختمه الموكب الديني المهيب بالمقام الشاذلي عمل خالص لوجه الله وما كان لله دام واتصل وقد تلقت الأمة هذا الكتاب بالإجلال والتقدير وانكب عليه العلماء يدرسونه وينشرون فوائده ودرره بين الناس وتقام له الأختام البهيجة المشهودة وقد أدركنا وما بالعهد من قدم تلك المجالس العلمية العطرة التي كان يخصصها لتدريس وتدارس كتاب (الشفا) ويحضرها طلبة العلم وعامة المسلمين وحتى شيوخ العلم من الأئمة والمدرسين والوعاظ فضيلة الشيخ المنعم محمد الزغواني رحمه الله واسكنه فراديس جنانه وذلك في (جامع الحجامين) حيث كان يتولى الإمامة (وجامع الزيتونة) المعمور الذي هو كعبة الشمال الإفريقي العلمية والذي أطلق على احد أبوابه اسم (الشفا) تعظيما لكتاب (الشفا) وتبركا به، وفي جامع الزيتونة المعمور لا يزال كتاب (الشفا) يختم صحيح البخاري وصحيح الإمام مسلم في سنة حميدة متصلة يستعد لها اكبر استعداد ويحرص على شهودها الجميع وفي ذلك برهان على تعلق صادق بسيد الأولين والآخرين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وتجسيما فعليا على ان أفضل رد على المتقولين المفترين بهتانا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إنما يكون بمزيد التعرف على كمالات سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام والتملي منها وتدبرها تدبرا يرسخها في القلوب والعقول ويدفع إلى العمل بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من هدي هو سماحة كله ورحمة كله ورفق كله. وقد أتى على الخصال المحمدية والشمائل النبوية القاضي عياض في كتاب (الشفا) حيث يجد القارئ والمتتبع لأجزاء هذا الكتاب بغيته فقد أشفى الغليل ولم يترك زيادة لمستزيد فلله دره فقد غدا كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم) درة لا نظير له لم يؤلف في بابه مثله ولا يزال العلماء والشيوخ يوصون به كل من يسألهم عن كتاب جامع في بابه يغني عن سواه من الكتب، ف(الشفا) جامع لكل ما ينبغي ويجب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومتضمن لما لا يجوز ويحرم من الآراء والأقوال وحتى المشاعر في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلد واحد لا يعسر حمله أو يصعب اقتناؤه تعددت في السنوات الأخيرة طبعاته وخرجت آياته وأحاديثه وشرحت كلماته الصعبة حتى أصبح في المتناول لا يعدم مجرد متصفحه من الخروج بفائدة بل فوائد ولا يزال الشيوخ والأئمة يوصون به المسلمين كي تحتويه مكتباتهم الخاصة في منازلهم استفادة وتبركا وتقربا إلى الله بالتحبب لرسوله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. حب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضاة لله هذا السفر الجامع وهذا الكتاب العلمي النافع (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) تضمن كل ما يحبب المسلمين في رسولهم الكريم من أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور ومن يأملون في الله ومن الله ان يجعله شفيعا لهم يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون، فبمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذوق المؤمن حلاوة الإيمان (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ان يكون الله ورسوله أحب إليهما مما سواهما...) وبإتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستهداء بهديه تجسيم عملي لحب الله (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ان المجلس الذي يعقد لتذاكر أحوال المصطفي وخصائصه عليه الصلاة والسلام لهو من أعظم المجالس وأفضلها وأحبها إلى الله الذي أمر عباده المؤمنين في كتابه العزيز بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (ان الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) فبالصلاة والسلام على رسول الله تتنزل الرحمات وتستجاب الدعوات وترفع الدرجات، ان الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة من أعظم الطاعات، إنها هدية الله لأمة سيدنا محمد من اجل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، إنها قمة الإجلال والتعظيم والتقدير وهي مظهر التعلق الصادق والحب الخالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهنيئا لمن يلهم ويوفق لهذه الطاعة الخفيفة على اللسان الثقيلة في الميزان المحققة للآمال وجازى الله علماء الأمة الموفقين لما صاغوه وتركوه لنا من كنوز اجتهدوا في انتقاء كلماتها وتفننوا في اختيار أروع أساليبها كل ذلك امتثالا لأمر الله (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) وحبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بشر من لم يعد لقيام الساعة إلا حب الله ورسوله بقوله (ابشر فأنت مع من أحببت). فضيلة ارتياد مجالس الذكر ان ختم كتاب (الشفا) الذي ينتظم مساء يوم السبت بالمقام الشاذلي أكثر من مرة في السنة مناسبة لا يمكن تفويتها لمن يريد ان يغشى رياض الجنة (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر) فمن يرتادون حلق الذكر تحفهم عين العناية الإلهية وتغشاهم الملائكة ويذكره الله فيمن عنده، يتجاوز خيرهم أشخاصهم إلى من حولهم (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). وأروع ما في الختم تلك التسابيح والأذكار والصلوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يؤديها بصفة جماعية جمع كريم من “المحركين” ويتوج كل ذلك بدعوات من شيخ المقام حسن بن حسن يؤمّن عليها الحضور ثم دعاء الختام الذي ظل يعده خصيصا لهذه المناسبة لسنوات عديدة الشيخ عبد الوهاب سعادة رحمه الله، وهو دعاء إلى الله عقب الختم بصلاح الأحوال وحسن الختام وقضاء الحاجات تشمل من تمكن من الحضور ومن تعذر عليه ذلك من المسلمين والمسلمات وينتهي بذلك هذا الموكب الذي نسأل الله له الدوام والانتشار. دعاء ختم (الشفا) قال القاضي أبو الفضل رحمه الله (هنا انتهى القول بنا فيما حررناه وانتجز الغرض الذي انتحيناه واستوفي الشرط الذي شرطناه مما أرجو ان يكون في كل قسم منه للمريد مقنع وفي كل باب منهج إلى بغيته ومنزع وقد سفرت فيه عن نكت تستغرب وتستبدع وكرعت في مشارب من التحقيق لم يورد لها قبل في أكثر التصانيف مشرع وأودعته غير ما فصل وددت لو وجدت من بسط قبلي الكلام فيه أو مقتدى يفيدنيه عن كتابه أو فيه لأكتفي بما أرويه عما أرويه. والى الله تعالى جزيل الضراعة في المنة بقبول ما منه لوجهه والعفو عما تخلله من تزين وتصنع لغيره وان يهب لنا ذلك بجميل كرمه وعفوه لما أودعناه من شرف مصطفاه وأمين وحيه، وأسهرنا به جفوننا لتتبع فضائله وأعملنا فيه خواطرنا من ابرز خصائصه ووسائله ويحمي أعراضنا عن ناره الموقدة لحمايتنا كريم عرضه ويجعلنا ممن لا يذاد إذا ضيد المبدل عن حوضه ويجعله لنا ولمن تهمم باكتتابه واكتسابه سببا يصلنا بأسبابه وذخيرة نجدها (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) نحوز بها رضاه وجزيل ثوابه ويخصنا بخصيصي زمرة نبينا عليه السلام وجماعته ويحشرنا في الرعيل الأول وأهل الباب الأيمن من أهل شفاعته ونحمده تعالى على ما هدى من جمعه والهم وفتح البصيرة لدرك حقائق ما أودعناه وفهم ونستعيذه –جل اسمه- من دعاء لا يسمع وعلم لا ينفع وعمل لا يرفع فهو الجواد الذي لا يخيب من أمله ولا ينتصر من خذله ولا يرد دعوة القاصدين ولا يصلح عمل المفسدين وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا). بذاتك يا ذا العــلا والجـلال * ومـن قد حبي بسني الخلال محمــد الهـاشمي الــذي * بـه لا يخيب لديك السـؤال وآي البخاري مـعا مسلـــم * وكـل أحاديث خير الرجـال وآي (الشفا) وكتاب (الشفا) * وما عد فيه له من خصــال تكرم علينـا ببرء السقـــام * ونيل الذي نرتجي في المـآل وكن حصننا من جميع الهموم * أيـا خير كاف ويـا خير وال وفـرج كـروبا لقــد أثقلت * لنا الظـهر يا من إليه السؤال فيـا أرحــم الراحمين ويـا * كـريمـا يحب السخا والنوال إليك بسطنـا أكـف الـرجـا * فـرحماك يا أرحم الراحمين فمـا خـاب عبـد إليك آلتجا * وسيلتـه سيــد المـرسلين دعاء ختم مجلس صحيحي البخاري (الشفا)ء