أبو الحسن القابسي
شهدت القيروان في عصرها الذهبي الأول الذي تلا الفتح الإسلامي بروز علماء أعلام في مختلف فنون العلم والمعرفة. فكان منهم الفقيه المجتهد والمفسر صاحب الرأي والمحدث الحافظ والطبيب النطاسي والكيميائي. وكثيرا ما تجتمع غالبية هذه العلوم التي تبدو متنافرة لا صلة تربط بينها وتجمعها إلى بعضها لدى الشخص الواحد فيكون فقيها ومحدثا ولغويا ومؤرخا حجة زمانه يقف عنده كل جدال وتنتهي إليه كل مسألة. ومن هؤلاء الذين جمعوا بين علوم كثيرة واستطاعوا أن يبرزوا في اغلبها مترجمنا أبو الحسن علي ابن محمد بن خلف المعافري المعروف بأبي الحسن القابسي يقول عنه محمد بن محمد بن مخلوف صاحب كتاب شجرة النور الزكية في طبقات المالكية “هو الفقيه النظار الأصولي المتكلم الإمام في علم الحديث وفنونه وأسانيده، وكان عليه الاعتماد، مؤلفا مجيدا ثقة صالحا وكان أعمى لا يرى شيئا وهو مع ذلك من اصح الناس كتبا وأجودهم ضبطا وتقييدا”. أما القاضي عياض فهو يصفه في كتابه ترتيب المدارك بأنه واسع الرواية عالما بالحديث وعلله ورجاله فقيها أصوليا متكلما مؤلفا مجيدا وكان من الصالحين المتقين الزاهدين الخائفين". فهو إذن مشهود له بسعة العلم والجمع بين علوم مختلفة ومشهود له بصلاح الحال والتقوى وهي صفات قل أن تجتمع في شخص واحد. وجه تسميته بالقابسي: أبو الحسن القابسي قيرواني المولد والنشأة والوفاة وهو مدفون بمقبرة طريق تونس بالقيروان. ويرى القاضي عياض انه لم يكن قابسيا (نسبة إلى قابس) وإنما كان له عم يشد عمامته بشد قابس فسمي بذلك وهو قيرواني. ولكن صاحب معالم الإيمان الدباغ يرى أن والده كان من أهل قابس فإما أن يكون أتى القيروان وتزوج منها وتزايد له بها أو أن يكون أتى به صغيرا. ويبدو أن الرأي الثاني اقرب وقد أورد صاحبه بعض الحجج المقنعة منها إن أهل قابس يعرفون والد أبي الحسن ومقامه ويعتبر عندهم من كبار الصالحين. شيوخه: نشأ القابسي محبا للعلم والعلماء حريصا على طلبه فتتلمذ على كبار علماء عصره في شتى الفنون والعلوم من أمثال أبي العباس عبد الله بن احمد الأبياني وأبي محمد عبد الله بن مسرور العسال وأبي الحسن علي بن بدر بن هلال وأبي القاسم زياد بن يونس اليحصبي وأبي الحسن علي بن محمد بن مسرور الدباغ. وكل هؤلاء من جهابذة العلماء تشد لهم الرحال من مختلف الأمصار للتتلمذ عليهم والتحصيل منهم. رحلته في طلب العلم : لم يكتف مترجمنا بما تلقاه في افريقية ورغب في الزيادة مصدقا قول الرسول صلى الله عليه وسلم “منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال” وأمثال القابسي كلما ازدادوا علما ازدادوا تقربا إلى الله وازدادوا شعورا بأنهم لا يعلمون إلا قليلا (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) فيرغبون في الاستزادة مستلهمين من الله العون والتوفيق ولسان حالهم يردد (قل ربي زدني علما). ورغم الصعاب والعراقيل التي كانت تكبل العلماء ورغم بعد الأمصار وصعوبة الاتصال فإنهم لم يبالوا بالمخاطر وجازفوا في كثير من الأحيان بحياتهم من أجل الحصول على العلم الشريف والتتلمذ على العلماء الأعلام مهما باعدت بينهم المسافات. سافر أبو الحسن القابسي إلى المشرق الإسلامي ستة اثنين وخمسين وثلاثمائة (352هـ) وحج سنة ثلاثة وخمسين وثلاثمائة (353هـ) ثم عاد إلى مصر فأقام بها يسمع الحديث بالإسكندرية من أبي الحسن علي بن جعفر التلبياني وسمع بمصر من جماعة عددهم – معالم الإيمان. وبعد أن تلقى العلم واتصل بكبار العلماء بالمشرق رجع إلى القيروان سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ليأخذ مكان الصدارة عالما ومجاهدا صابرا ومرشدا داعيا يوجه الناس ويدعوهم إلى الإسلام صادعا بكلمة الحق لا تأخذه فيها لومة لائم. تلاميذه: تلقى على أبي الحسن كثير من العلماء كابي عمران الفاسي وأبي بكر بن عبد الرحمان وأبو القاسم العبيدي وأبو عبد الله المالكي وأبو علي حسن بن خلدون وأبو القاسم بن الكاتب وأبو عبد الله محمد بن أبي موسى بن عيسى بن مناس وأبو عمرو الداني. وهؤلاء التلاميذ الذين تلقوا عن أبي الحسن كانوا من كبار علماء عصرهم انتشروا بعد أن في شتى العلوم. ولم يكن دور أبي الحسن القابسي مقتصرا على التعليم الضيق بل كان يرشد العامة ويدعو الخاصة وينصح الولاة يقوم بكل ذلك احتسابا لله تعالى راجيا منه المثوبة والجزاء. مؤلفاته: لم يقتصر مجهود مترجمنا على ما ذكرنا من حلقات التعليم والإرشاد بل تجاوزها إلى التأليف والكتابة فتجاوز نفعه أبناء عصره إلى الذين أتوا بعده على مر الأجيال والى يوم الناس هذا فبالإضافة إلى العلماء الأعلام الذين خلفوه في التدريس والفتيا فلقد ذكر المؤرخون لأبي الحسن كتبا عديدة أهمها كتاب “الممهد” وقد بلغ فيه إلى ستين جزء ويقال انه مات قبل أن يتمه وهو كتاب جمع فيه بين الحديث والأثر والفقه. وكتاب “المنبه للفطن والمبعد من شبه التأويل” كتاب “الملخص” ورسالة في الاعتقادات والرسالة الناصرة ورسالة في الذكر والدعاء ورسالة أحمية الحصون وكتاب المناسك والرسالة المفصلة لأحوال المعلمين والمتعلمين ومن خلال هذه العناوين المتعددة نلاحظ سعة علم أبي الحسن واهتماماته المختلفة. ورغم هذا العطاء الكبير في ميدان التأليف فإن ذلك لم يشغله عن العبادة بشتى صنوفها وأنواعها. فكان كثير الصيام والقيام، ورعا فيما يأكل وما يأخذ، عزيز النفس شديد المحاسبة لها لذلك أحبه الناس جميعا كبارا وصغارا علماء وطلابا أمراء وولاة. لقد صان أبو الحسن القابسي نفسه وعلمه وعظم نضاعته بين الناس فعظم الناس العلم والعلماء وأحلوهم المقام الرفيع والمنزلة العالية في المجتمع. لقد صدق فيه قول الشاعر ولو إن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما وكان القابسي من العلماء المخلصين والعارفين الورعين لذلك فهو يتهيب المسؤوليات وتحملها، غير عابئ بالبهارج والمظاهر التي أيقن أنها لا تبلغ إلا إلى المهالك وغضب المولى سبحانه وتعالى لذلك، عندما توفي ابن شبلون الفقيه لم يجد الناس غير أبي الحسن القابسي لسد هذا الفراغ والقيام بهذه المهمة وإفتاء الناس وإرشادهم إلى الحق فهرعوا إليه بأمر من الأمير يقول ابن سعدون لما طلب أبي الحسن للفتوى وعزم عليه تأبى وسد بابه دون الناس، فقال لهم كسروا عليه بابه لأنه قد وجب عليه فرض الفتيا وهو اعلم من بقي من القيروان. فلما رأى ذلك خرج عليهم ينشد لعمر أبيك ما نسب المعلا * إلى كرم وفـي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعـرت * وصوح نبتها رعي الهشيم إن رجلا هذه خصاله وصفاته حري بأن ينال تقدير ومحبة الناس الكبير والصغير القاصي والداني يكبرون ما في الشيخ من سلوك حميد ومجاهدة للنفس وأهوائها، يقول عنه أبو سعيد بن أخي هشام يعظم أبا الحسن ويقول: “أبو الحسن لا يحاسب على مكيال ولا ميزان وإن كان لا يدخل الجنة إلا مثل أبي الحسن فما يدخلها منا احد” ولقد كان كثير التردد على الأولياء والصالحين كثير التعظيم لهم يزورهم في بيوتهم وأماكن عبادتهم ويطلب منهم الدعاء له بالصلاح والتوفيق يتحمل نفورهم وصدودهم وتعنيفهم لا ينفك يردد طلبه وحاجته عندهم حتى يستجيبوا لطلبه ومن هؤلاء أبي العباس الأبياني الذي توقع له مستقبلا مشرقا قال له ذات يوم بعد مذاكرة بينهما خصه بعدها بقوله (يا أبا الحسن لتضربن إليك إباط الإبل من أقصى المغرب فقلت له ببركتك إن شاء الله ولما نرجوه من النفع). وتكررت له نفس الحادثة تقريبا يوما آخر عندما استحسن هذا الولي حسن تفهم أبي الحسن فقال له مثل قوله الأول فأجابه أبو الحسن ببركتك إن شاء الله، فقال له: والله لتضربن إليك إباط الإبل من أقصى المغرب. فأيقن القابسي أنه لن يخرج من هذه الدنيا إلا بعد أن يكبر شأنه ويعظم ويصبح قبلة الناس وملجأهم في كل المسائل والنوائب. ألوان من عبادته وورعه: علم القابسي أن لا عز إلا في الذل لله ولا توفيق ولا فلاح إلى في الإقبال عليه بكليته فملأ كل وقته بالعبادة وتلاوة القرآن وتفهم آياته ومعانيه، كان شديد الخشية لله كبير الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وأتباعهم وكل الصالحين. يقول أبو عبد الله محمد بن عبد الله المالكي: كان أبو الحسن القابسي يحي ليلة الجمعة فلا ينام فيها البتة وربما أحيا غيرها من الليالي وأما شهر رمضان فكان يقوم ليله كله يتهجد فيه بالقرآن مع قطع نهاره بالتلاوة والذكر والصلاة وكان إذا مر بآية في تهجده ربما رددها باكيا إلى الصباح وقد صلى ليلة من الليالي بختمة من أول الليلة إلى آخرها فلما جلس لإلقاء المسائل إلى الظهر عندما تفرق الناس قال لي: يا بني: اعمل لو علمت أن هذا الضعف يدركني عند كبري لاغتنمت أيام شبيبتي (كان هذا قبل وفاته بنحو عامين) وكان يصوم ويفطر إلا في رجب وشعبان فما رؤي فيهما مفطرا قط وكان يصوم أيضا في شوال وذي القعدة وعشر ذي الحجة ولقد صام سنة كاملة وأراد التمادي في الصوم فضعف جسمه وضاق خلقه ولقد ختم القرآن بقصر أبي الجعد من الظهر إلى العصر ثم صار بعد ذلك لتفهمه.