عظم الأمانة وثقل المسؤولية
يقول الله تبارك وتعالى “إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما” صدق الله العظيم. للأمانة في الإسلام مفهوم واسع شامل يتجاوز المعنى الضيق والمحدود المتعارف بين الناس لكلمة الأمانة. فالأمانة هي المسؤولية بين يدي الله عن كل ما كسبت يد الإنسان وما يتحمله من أعباء ثقال. ولأجل ذلك ورد في القرآن الأمر بأداء الأمانات في صيغة الجمع وذلك في قوله جل من قائل (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا). فالأمانة أمانات والخيانة خيانات ولقد وسع الرسول صلى الله عليه وسلم معنى الأمانة فجعله الرعاية والمسؤولية صغيرة كانت أم كبيرة حيث يقول عليه الصلاة والسلام (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعايتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته) البخاري ومسلم. وعندما بين الله تبارك وتعالى أسباب الفلاح والصلاح الواردة في أول سورة المؤمنون قال جل من قائل (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) ويعظم الجزاء والثواب بعظم الأمانة كما أن العذاب والعقاب يضاعفان بأهمية المسؤولية. والمسؤولية في هذه الحياة الاجتماعية درجات لكل واحد منا منها نصيب. ولعل المقدار المشترك منها بيننا جميعا على مختلف مستوياتنا وإمكاناتنا هو مسؤولية كل واحد عن نفسه وعما أعطاه الله تبارك وتعالى من نعم وما استودعه من ملكات وقدرات: فأبداننا أمانة وعقولنا أمانة وألسنتنا أمانة وأبصارنا أمانة وأسماعنا أمانة وغرائزنا أمانة وما استودعه الله في قلوبنا من إيمان وفي عقولنا من علوم وما ساقه إلينا من خيرات وأرزاق كل ذلك أمانات سنسال عنها. فما من واحد منا إلا سيسال يوم القيامة عن عمره فيما أفناه ووقته فيما قضاه وأمواله فيما أنفقها وصحته فيما صرفها. إن الإنسان في شريعة الإسلام خليفة لله في الأرض ولابد للخليفة من المحاسبة من طرف من استخلفه. لقد جاء التأكيد من الرسول صلى الله عليه وسلم على أداء الأمانة والقيام عليها أحسن قيام، قياما يرضي الله ورسوله. ومن غدر وبغى وخان ما اؤتمن استحق من ربه أن يجعله من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار والذين عدد الرسول صلى الله عليه وسلم صفاتهم فقال (آية المنافقين ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا اؤتمن خان). والخائن هو الغادر ولك غادر لواء يوم القيامة يعرف به فيقال هذه غدرة فلان بن فلان ومن يغش المسلمين فليس منهم وان ادعى وتزيا بأزياء التدين. فالرسول صلى الله عليه وسلم ينفي الدين عن الذي لا أمانة له (ألا لا دين لمن لا أمانة له). فأداء الأمانة على أحسن وجه من علامة التوفيق وصلاح الحال والمآل الم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ الأمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة في طعمة) ونحن إذا نظرنا في هذه الشروط الأربعة فإننا نجدها جامعة لكل ما فيه خير المسلم فردا وجماعة وتوجه الإسلام الاجتماعي ومراعاته للمصالح العامة ومناداته الملحة باعتبارها في كل عمل وتقديم على كل باب من أبواب البر لا تحتاج إلى حجة ودليل. فإذا ما تعهد المسلمون أفرادا وجماعات بحفظ الأمانة وأدائها على أحسن الوجوه مهما كان الموقع الذي يوجد فيه المسلم وإذا ما استشعر المسلم انه على رباط ينبغي أن لا يؤتى المسلمون من قبله وإذا ما راقب كل مسلم الله تبارك وتعالى في نفسه وفيما بين يديه وفيما يتحمله من مسؤوليات ولا يوجد من لا يتحمل مسؤولية، فالأب والأم مسؤولان والمربي والموظف والعامل والتاجر والقاضي والحاكم كل هؤلاء يتحملون مسؤوليات وبين أيديهم أمانات فإذا هم خافوا الله وراقبوه واستشعروا عظمة المسؤولية وهول الموقف والسؤال بين يدي الله فستستقيم الأمور وستسير على أحسن ما يرام وسينتفي الظلم والجور والعدوان وسيصل كل ذي حق إلى حقه. أما إذا تهافتت الأنفس واشرأبت الأعناق وتاقت إلى الصعود والظهور وأخذها الغرور فقد فتحت على نفسها أبواب الشر والضرر والهلاك. ولأجل ذلك حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا ذر عندما تاقت نفسه إلى إمارة قال له: (يا أبا ذر انك امريء ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة). كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام منع رجلين طلبا منه الأمارة وقال (إنا لا نعطي هذا الأمر من طلبه). إن الفرد المسلم وأفراد المجتمع المسلم عندما يلتزمون بحفظ الأمانة فلا يخونونها ويصدقون في الحديث فلا يكذبون ويحسنون أخلاقهم ويطيب مطعمهم إذا التزم المسلمون بمضمون هذا الحديث وطبقوه فرادى وجماعات فلا عليهم بعد ذلك ما يفوتهم من متع الحياة الدنيا الزائلة لأن هذه الحياة الدنيا وضعها القرآن الكريم في موضعها حين يقول جل من قائل (وما الحياة الدنيا إلى تعب ولهو ولدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون). فالذين يعقلون لا يسمحون لهذه الدنيا وبهارجها بأن تغرهم وتغريهم فتطغيهم وتنسيهم ذكر ربهم ولقائه الذي هو حق وات لاشك فيه. فالناس في هذه الحياة الدنيا لم يخلقوا عبثا (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وإنكم إلينا لا ترجعون). وآداء الأمانة مثل صلة الرحم من القيم والمثل التي أولاها الإسلام عناية كبرى وأهمية عظمى وجعلهما مع النعمة من المتعلقات بالعرش حيث يقول جل من قائل في الحديث القدسي (الرحم تقول: (اللهم إني بك فلا اقطع والأمانة تقول: الله إني بك فلا أخاف والنعمة تقول: اللهم إني بك فلا اكفر). واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة رفع الأمانة حيث يقول (إن أول ما يرفع من هذه الأمة الأمانة) وفي الحديث الآخر الوارد في صحيحي البخاري ومسلم يقول عليه الصلاة والسلام (خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يكون بعدهم أقوام يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن). وإذا نحن رجعنا إلى تاريخ المسلمين من السلف الصالح فإننا نراهم يعتبرون ما يسند إليهم وما يوكل لهم امتحانا وعبئا ثقيلا يتهربون منه ويتملصون حتى إذا تعين فيهم يصعد الواحد منهم إلى المنبر حزينا كئيبا ذاكرا مستغفرا مستشعرا عظم المسؤولية وثقل الأمانة وعسر أدائها على أحسن الوجوه فيسأل من الله الثبات والإعانة ومن الرعية النصح والصدق وعدم المغالطة والخيانة ويدعوها إلى تقويم اعوجاجه وهذا هو ما قاله كل خليفة من الخلفاء الراشدين (إني قد وليت عليكم ولست بخيركم إن رأيتموني على حق فأعينوني وان رأيتموني على باطل فقوموني). لا خير فيكم أيها الرعية إن لم تقولوها: كلمة الحق ولا خير فينا معاشر الولاة إن لم نسمعها فالنصيحة في دين الإسلام واجبة على كل مسلم وتغيير المنكر واجب على كل مسلم كل حسب درجته وطاقته وقدرته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم). وما كان خليفة من خلفاء الإسلام يستنكف عن طلب النصيحة والإرشاد بل كان يفرح شديد الفرح لصدورها عن أي كلن طالما أن دافعها هو حب الخير للإسلام والمسلمين. فلا عجب أن يعبر عمر بن الخطاب عن رضاه عمن واجهه بقوله (والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا) عند ذلك حمد عمر ربه لزوال الخوف من القلوب لطالما استمع عمر وغيره من يقول (لا سمع لك ولا طاعة حتى إذا عرف الحق اقتنع وقال الآن السمع والطاعة). وما كان خليفة من هؤلاء الخلفاء رضوان الله عليهم تأخذه العزة والغرور والكبرياء فيقول للناس أنا ربكم الأعلى أنا منقذكم أنا باعثكم من العدم بل: أنا عمير بن الخطاب ذلك الراعي للغنم الذي أعلى من شأنه الإسلام. لقد كان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه عندما يخرج في المساء ليخلو بنفسه وربه بعد عمل شاق ومضن كان يبعد عنه كل من يخرج وراءه عن يمينه وشماله ويقول (اتركوني لنفسي ابعدوا عني خفقان نعالكم فإنها مجلبة للشيطان). وعمر بن الخطاب عندما تحضره الوفاة وهو يئن ويتألم لا من شدة الأمراض بل من المحاسبة الدقيقة لنفسه ومسيرته في تدبير شؤون المسلمين: لعل عمر غفل، لعل عمر تقاعس، لعل أحدا من المسلمين ظلم ولم يأخذ له عمر حقه لعل مسلما مات جوعا ولم يطعمه عمر، لعل بغلة عثرت في اليمن لأن عمر لم يسو لها الطريق، كل تلك التساؤلات كانت تخامر ذهنه وتزعجه وتخيفه فيصرخ ويحك يا ابن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين، ويحك يا ابن الخطاب كم أخطأت في حق الضعاف والفقراء والمحتاجين من المسلمين ومن غير المسلمين؟ ما كان يلتفت عمر إلى حالة، إلى أسماله البالية المرقعة، إلى بيته الفارغة، إلى أبنائه الفقراء الذين لم يميزهم بشيء عن بقية المسلمين وفيما هو يتأوه ويئن يسمع عند رأسه من يقول له (هدأ من روعك الست المبشر بالجنة؟ الست المحدث؟ الست الذي قال فيه الرسول لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر؟ الست الذي قال فيه الرسول: عمر مع الحق يميل حيث ما مال؟ الست الذي انزل القرآن يصدقه ويثبت رأيه عديد المرات؟ الست الذي وحد الجزيرة ونشر راية الإسلام واعز الله به المسلمين وأذل به الكافرين؟ لم يسمح عمر لهذا المعدد المشفق أن يواصل وهو الذي لم يقل إلا حقا بل نهره وقال له والله لو نادى مناد كل الناس يدخلون الجنة إلا رجلا لقلت انك أنت يا ابن الخطاب. والله إنه ليكفيني أن أكون بين يديه لا طالبا ولا مطلوبا.