الموقف من السنة
سماحة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله يفصل القول في كيفية التعامل الصحيح مع أحاديث الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام كانت السنة النبوية الطاهرة ولا تزال محل اخذ ورد وإفراط في الأخذ بها دون ترو وتثبت وبصيرة ورؤية عميقة والإنكار لها ورفض العمل بها وكل من الموقفين له من يقول به ويعمل بمقتضاه فيما يلقيه ويكتبه ويدعو إليه بل ويحكم به على الآخرين إما تكفيرا وتفسيقا وإخراجا من دائرة الإسلام أو اتهاما بالتعصب والتزمت والانغلاق والرجعية والسلفية. ولا سبيل إلى الخروج من هذه المتاهة إلا برأي عالم تحرير محقق مدقق عارف بالمقاصد والغايات يغوص في النص غوص الممتلك لآلياته وناصيته وهو الأمر غير المتأتي لأغلب من يدعونه ويوهمون به، وسماحة الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله هو من العلماء القلائل جدا على مستوى الساحة الإسلامية الذين جمع الله لهم وفيهم العلم بالمعقول والمنقول والإدراك العميق للواقع المتغير والمتبدل والمتطور والذي لا سبيل إلى أن تتجاهله أو تتغافل عنه تعاليم الإسلام المبينة على درء المفاسد وجلب المصالح. ولهذا الموضوع (الموقف من السنة) في كتاب مقاصد الشريعة فصل جدير بأن يعود إليه كل دارس وباحث فقد أتى فيه الشيخ بما يشفي الغليل ويقنع العقول ويوافق إن شاء الله الرشاد والصواب ولنترك سماحة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله يقدم هذا المبحث الهام حيث يقول تحت عنوان : انتصاب الشارع للتشريع (مما يهم الناظر في مقاصد الشريعة تمييز مقامات الأقوال والأفعال الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفرقة بين أنواع تصرفاته). وللرسول عليه الصلاة والسلام صفات كثيرة صالحة لأن تكون مصادر أقوال وأفعال منه فالناظر في مقاصد الشريعة بحاجة إلى تعيين الصفة التي عنها صدر منه قول أو فعل. وأول من اهتدى إلى النظر في هذا التمييز والتعيين العلامة شهاب الدين احمد بن إدريس القرافي في كتابه: “أنوار البروق في أنواء الفروق” فإنه جعل الفرق السادس والثلاثين بين قاعدة تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقضاء وقاعدة تصرفه بالفتوى -وهي التبليغ- وقاعدة تصرفه بالإمامة وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم فهو إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء [فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته وهو أعظم من كل من قد تولى منصبا منها في ذلك إلى يوم القيامة] فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة غير أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ لأن وصف الرسالة غالب عليه ثم تقع تصرفاته صلى الله عليه وسلم: منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء. ومنها ما يجمع الناس على انه بالإمامة، ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا فمنهم من يغلب عليه رتبة ومنهم يغلب عليه أخرى. ثم تصرفاته بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة فكل ما قاله أو فعله على سبيل التبليغ كان كذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة. فإن كان مأمورا به أقدم عليه كل أحد بنفسه وكذلك المباح. وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه. وكل ما تصرف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام [اقتداء به عليه السلام]، ولأن سبب تصرفه فيه عليه السلام بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك. وما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم، لأن السبب الذي لأجله تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القاضي يقتضي ذلك. ويقدم سماحة الشيخ الإمام التحقيقات لهذه الفروق بالمسائل التي دلل بها عليها القرافي ويعقب على ذلك بكلام نفيس حيث يقول سماحته (ومن ورائه (القرافي) نقول: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفات وأحوالا تكون باعثا على أقوال وأفعال تصدر عنه فحري بنا أن نفتح لها مشكاة تضيء في مشكلات كثيرة لم تزل تعنت الخلق وتشجي الحلق وقد كان الصحابة يفرقون بين ما كان من أوامر الرسول صادرا في مقام التشريع وما كان صادرا في غير مقام التشريع وإذا أشكل عليهم أمر سألوا عنه... ثم يمضي سماحته قائلا (على أن علماء أصول الفقه قد تعرضوا في مسائل السنة النبوية إلى ما كان من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم جبليا انه لا يدخل في التشريع. وما ذلك إلا لأنهم لم يهملوا ما كان من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم أثرا من آثار أصل الخلقة لا دخل للتشريع والإرشاد فيه.وترددوا في الفعل المحتمل كونه جبليا وتشريعيا كالحج على البعير. وقد يغلط بعض العلماء في بعض تصرفات رسول الله عليه الصلاة والسلام فيعمد إلى القياس عليها قبل التثبت في سبب صدورها. وينتهي سماحة الشيخ الإمام إلى القول (وقد عرض لي الآن أن اعد من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يصدر عنها قول منه أو فعل اثني عشر حالا. منها منا وقع في كلام القرافي ومنها ما لم يذكره وهي: التشريع، والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرد عن الإرشاد... ثم يمضي سماحة الشيخ الإمام مقدما الأمثلة على الحالات الإثني عشر من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاعلا لكل حالة أمثلة مأخوذة من كتب السنة الصحيحة المشهورة وهو لا يمضي إلى الحالة الموالية إلا بعد أن يقنع القارئ بالحجة والبرهان على سلامة التقسيم الذي ذهب إليه وارتضاه واعتباره هو الصواب في التعامل مع سنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. إن هذا الفصل دسم وثري وهو شيق لم يسبق إليه سماحة الشيخ الإمام بهذا التفصيل والتمثيل عليه بالصحيح من الأحاديث والآثار، وهو جدير بأن يطلع عليه ويتملاه كل باحث في الثقافة الإسلامية وكل دارس للسنة النبوية وكل مستدل بها حتى يعلم أبعاد الاستدلال بالسنة ومخاطر الوقوع في الأفهام الخاطئة التي تنجر عنها أحكام قد لا تحمد عقباها. إن هذا الفصل جدير بأن يعمم مضمونه وتبسط مفاهيمه ليتخذها نبراسا من يستدلون بالأحاديث وتجري على السنة الكثير منهم محرفة خارجة عن سياقها ويتلقاها العامة من أفواههم سواء مباشرة أو من خلال الإذاعات المسموعة والمرئية وينقلونها عن غير روية فيزيدون الطين بلة، فالاطلاع على هذا الفصل المتعلق بالسنة النبوية هو ما أردنا لفت الانتباه إليه نظرا لأهميته وقيمته الكبيرة والله الهادي إلى سواء السبيل.