الانصراف إلى العمل بتفان وإتقان هو سبيل تجاوز المصاعب والتحديات
يحتلّ العمل كقيمة حضارية منزلة متميّزة في الدين الإسلامي الحنيف وذلك لأنّ هذا الدين الذي جاء به سيّد الأنام محمّد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأديان وأتمها وأكملها وأشملها وهو الدين الذي لن يرضى الله من عباده بسواه (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران 85، فطبيعي إذا أن يجمع الله في هذا الدين الحنيف كلّ ما يحقق للمؤمنين مرضاة ربّهم في الآخرة وسعادة حياتهم في الدنيا. ولهذا دعا الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز المؤمنين إلى الاستجابة لداعية الخير والصلاح (يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) الأنفال الآية24 و الناظر في أصلي هذا الدين الحنيف من كتاب عزيز وسنّة نبوية طاهرة والمتمعن في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم المعطرة وسيرة أصحابه الكرام رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان ودعا بدعوتهم من بعدهم وكذلك المستقرئ لأمهات كتب الثقافة الإسلامية بمختلف فروعها يخرج المتتبع بتمعن لكل ما ذكرناه برؤية متكاملة ونظرية شاملة في العمل كقيمة حضارية يوليها الإسلام اكبر عناية واهتمام، وما ذلك إلا لأن الاسلام هو دين الحياتين: الدنيا والآخرة لا يسمح بطغيان إحداهما على الأخرى وذلك لالتزامه الشديد بالتعادلية والتوازن والوسطية تعبّر عن هذا التوجه آيات قرآنية عديدة منها قوله سبحانه وتعالى (وابتغ في ما آتاك الله الدّار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) القصص77 ، وقوله جلّ من قائل (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) الأعراف32،كما تعبرّ عن هذه التعادلية والوسطية والتوازن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة فهو الذي يقول (المؤمن القويّ خير من المؤمن الضعيف) و(اليد العليا خير من اليد السفلى) و(إن الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده) ويعبر عن كل ذلك بتلخيص بليغ الأثر الإسلامي القائل (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) فالدنيا ليست في منظار الإسلام ضرة للآخرة والعمل للدنيا ليس بالضرورة على حساب الآخرة. بل من روعة الإسلام وعظمته ذلك المزج العجيب والتداخل الغريب (وهو مقصود ولا شكّ) بين العمل الدنيوي والعمل الأخروي. وكلّ ما هو دنيويّ حياتيّ يمكن إذا اقترن بنية وقصد حسن أن ينقلب إلى عمل أخروي يؤجر عليه العبد يوم القيامة. فالعبادة في الإسلام تتجاوز الطقوس التي هي ضرورية وأساسية وأفضل ما يتقرّب به إلى الله سبحانه وتعالى (وما تقرّب إليّ عبدي بأفضل ما افترضته عليه) إلى سائر أوجه حياة الناس مصداقا لقول الله سبحانه وتعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين) الأنعام 162، وبذلك التوسع في معنى العبادة تفهم الآية الكريمة (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) الذاريات56، وقد بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم للإقناع بأن كلّ ما يمكن ان يأتيه المسلم في الحلال يمكن أن تكتب به الحسنات إذا اقترن بنيّة فقد قال لأصحابه رضي الله عنهم: إنّ في بضع أحدكم صدقة فعجب الصحابة وقالوا: أيأتي أحدنا شهوته وله أجر فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مستعملا القياس المقنع: كيف لو فعل ذلك في الحرام أعليه وزر؟ قال الصحابة: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك إذا فعله في الحلال فله أجر. وهذا الحديث واضرابه أبلغ حجة وبرهان على أن دين الإسلام لا يسمح بإقامة حاجز أو جدار بين عمل المسلم لدنياه وعمله لآخرته.فعمران هذا الكون وإصلاحه والاستفادة مما بثّ فيه الله وسخّر من تمام مراده سبحانه وتعالى من عباده الصالحين. فالانسان في نظر الاسلام هو خليفة الله في أرضه (إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة30 وهذا الانسان مؤهل عقليا وبدنيا لإصلاح هذه الأرض والاستفادة مما فيها من خيرات، إنه أقدر المخلوقات على الاستيعاب والإدراك لما بثّ الله في هذا الكون وفي هذه الحياة الدنيا من قوانين طبيعية ومادية ومعنوية والتي منها جريان الأمور وفق أسباب ومسببات هي القاعدة وما سواها هو الاستثناء فخوارق العادات والمعجزات وتأخّر القوانين عن سريانها ممّا استأثر به الله سبحانه وتعالى الذي إذا أراد شيئا إنّما يقول له كن فيكون أمّا الانسان فإنه مدعوّ إلى الأخذ بالأسباب والسعي في الأرض. (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) الجمعة10 وإذا كان المسلم مدعوا إلى أن يتوكّل على الله حقّ توكله فإنه منهي عن التواكل والتكاسل والقعود والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة وعديدة منها قوله عليه الصلاة والسلام (لو توكلتم على الله حقّ توكله لرزقتم كالطّير تغدو خماصا وتعود بطانا) وقوله عليه الصلاة والسلام لمن ترك ناقته مطلقة غير معقولة بدعوى التوكّل على الله ! قال له عليه الصلاة والسلام (اعقلها وتوكّل) وقد ضرب عمر بن الخطاب بالدرة أولئك الذين وجدهم في المسجد في غير وقت صلاة مفروضة يرفعون أيديهم إلى السماء طالبين الرزق وتاركين السعي (قد علمتم أن السّماء لا تمطر ذهبا ولا فضّة) وحتّى لا يذهب إلى ظنّ المسلم أن العمل البدنيّ والعقلي مما يتنافى مع قويم السلوك ورد الأمر في القرآن الكريم بالعمل ووردت الإشادة به ودعوة المسلم إلى التفاني فيه، وقد ورد الأمر بالعمل في القرآن على عمومه دون تخصيص له بالعمل للآخرة أو العمل للدّنيا. إلا أن العمل الذي أمر به المسلم طولب منه أن يكون عملا صالحا والصلاح يكون في العمل الدنيوي والعمل الأخروي ويكون في العمل المادي ويكون في العمل المعنوي والعقلي والفكري والروحي فقد قال تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) التوبة، وقال( إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا) الكهف30 . وقال تعالى (والعصر إن الانسان لفي خسر إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات) العصر 1-2-3 ولم يستثن الإسلام المرأة من العمل وحصولها على الأجر من جرّاء قيامها به فقال جلّ من قائل (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيّبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النّحل98 ولكي يحبب الله عباده المسلمين في العمل ولكي يرغّبهم في القيام به والتفاني فيه قصّ عليهم كتاب الله العزيز أخبار الأنبياء الذين مارسوا أعمالا مختلفة وبرعوا فيها ولو كان في ذلك ما ينقص من شأنهم أو ينزل من مرتبتهم عند ربّهم لما أورده في القرآن في ذلك السّياق المرغب والمثمن لذلك الصنيع الحميد منهم. فقد كان آدم حرّاثا وحائكا وكان ادريس خيّاطا وخطّاطا وكان نوح وزكريّاء تاجرين وكذلك كان هود وصالح وكان ابراهيم نجّارا وكان داود زرّادا (يصنع الدروع) وكان سيدنا محمّدا صلى الله عليه وسلم تاجرا وراعيا. وفي صحيح البخاري روى المقداد رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال (ما أكل عبد طعاما قطّ خيرا من أن يأكل من عمل يده وان نبيّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) وفي حديث آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه) وفي سبيل أن يرسّخ رسول صلى الله عليه وسلم معنى شرف العمل في انفس أصحابه ومن ورائهم أمته جمعاء كان حريصا عليه الصلاة والسلام على أن يشارك أصحابه في أي عمل جماعي يقومون به مبيّنا لهم أنه ليس في غنى عن تحصيل الأجر والثواب وكان يقول لهم (صاحب الحاجة أولى بحاجته) وذلك لما أرادوا أن يقوموا عوضا عنه بعمل يستطيع القيام به بنفسه، كما أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يستنكف من القيام بأي عمل يساعد به أهله أو يقضي به شأنا من شؤونه الشخصية وتحكي كتب السيرة أنه كان عليه الصلاة والسلام في أهله يخيط ثوبه ويرقّع نعله ويصلح شأنه. ولو كان مثل هذا الصنيع مما يشين أو يمسّ الكرامة لما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنّها دروس لأمته من بعده كي تقتدي به وتجعل من العمل همّا وهاجسا وراحة نفسيّة تتحقّق بممارسته غايات عدّة للقائم به وللمجموعة في عاجل حياتهم وآجلها. ويعتبر الإسلام العمل بابا من أبواب الإحراز على الأجر والثواب وبابا من أبواب تكفير الذنوب والخطايا والسيّئات وبابا من أبواب الجهاد في سبيل الله فقد وردت في هذه المعاني أحاديث نبوية عديدة منها تبشيره عليه الصلاة والسلام (بالغفران لمن بات كالا من كدّ يمينه) مؤكّدا (أن من الذنوب ذنوبا لا يمحوها إلا الكدّ على العيال). ولقد اعتبر عليه الصلاة والسلام اليد التي فيها خشونة من أثر عمل يد طيّبة وطيب ريحها وأنها يد يحبّها الله ورسوله. كما صحّح عليه الصلاة والسلام للصحابة أفهامهم عندما ظنّوا أنه لا جهاد في سبيل الله إلا القتال في ساحات الوغى وذلك عندما مرّ أمامهم شابّ فقالوا: ليت هذا في سبيل الله فقال لهم الرسول: إن كان هذا الشاب خرج في سبيل كسب قوته أو قوت عياله أو قوت والديه فهو في سبيل الله ولا شكّ أن العمل الذي يستحق كلّ هذا الثواب هو العمل المتقن المخلص الذي يتفانى في أدائه صاحبه ويراقب فيه الله تبارك وتعالى وهو العمل الذي يجتنب فيه القائم به كلّ مظاهر التسيّب والتفلّت واللامبالاة فضلا عن الغشّ والتزوير وتعمّد الإفساد، ولا يتصوّر من مؤمن صادق الإيمان يرجو الله ويخشاه أن يكون في عمله أي مأخذ مقصود فقد وردت احاديث عديدة تربط بين الإخلاص والإتقان والنصح وبين الإيمان والتقوى والطاعة لله تبارك وتعالى قال عليه الصلاة والسلام (الدين النصيحة) وقال (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) وأنه لسحت ونار وهلاك محقّق ذلك الذي يتعمّد نيل أجر كامل على عمل منقوص مغشوش غير متقن قال عليه الصلاة والسلام (من غش فليس منا) وقال (من اقتطع من حقّ أخيه وهو يعلم فإنما اقتطع لنفسه قطعة من النار)، وإنه لمغامر ذلك الذي يقدم على أن يضمّ لماله ما ليس من حقّه تحيّلا وزورا وبهتانا ويأكل ويلبس ويغذّي ولده من ذلك ثم يدعو ربّه يا ربّ يا ربّ يقول رسول الله (انى يستجاب له) وأجاب عليه الصلاة والسلام من سأله: أريد أن أكون مستجاب الدعوة؟ قال له عليه الصلاة والسلام: أطب مطعمك) والعامل المأجور على عمله في الآخرة وفي الدنيا بالبركة والسلامة هو لا شكّ صاحب حقّ في أجره المادي كاملا غير منقوص وأنه لخصم الله سبحانه وتعالى يوم القيامة ذلك الذي يأكل أجر أجيره ولا يعطيه حقّه وقد قال عليه الصلاة والسلام (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه) كما أوصى رسول الله أصحاب العمل بأن يحسنوا معاملة ومعاشرة العاملين وأن يكلّفوهم ما يطيقون وأن يوفّروا لهم كلّ ما يمكنهم من الانصراف إلى عملهم بهمة وإخلاص وإتقان من مسكن ومركب وسائر متطلبات الحياة الكريمة ولا شكّ أن مادة العمل في الثقافة الإسلامية والموروث الحضاري تحتاج إلى المزيد من البلورة والإبراز والتوضيح والتجلية وذلك قصد الاستفادة منها والاستعانة بها في هذا المعترك الرهيب الذي تخوضه المجتمعات الإسلامية ضد التخلّف والفاقة هذه السنوات وهي سنوات صعبة مليئة بالتحديات، فقد تعقدت متطلبات الحياة وازدادت وزالت كلّ مظاهر الحماية والانغلاق بدخول اتفاقيات التجارة الدولية حيّز التنفيذ وأصبح محتما على كل الشعوب النامية والتي منها الشعوب الإسلامية أن تتهيء لهذه المرحلة وذلك باعتماد برامج تأهيل شاملة تتمكّن بها البلدان العربية الإسلامية من الثبات في معركة الصراع من أجل البقاء وهي معركة لن يبقى ولن يصمد فيها إلا القوي والقويّ في هذه المرحلة هو القادر على الانتاج الأكثر والأجود والأثمن والأكثر تطوّرا والأقلّ كلفة ليقدر على المنافسة في الأسواق، وكلّ الأسواق ستصبح ذات صبغة دولية لا تغلق أمام أية بضاعة مهما كان منشأها ومأتاها ومهما يكن جنس أو لون أو دين منتجها فهل يا ترى يستطيع المسلمون أن يتغلّبوا على هذا التحدّي الجديد والخطير جدّا؟ لا نعتقد أن ذلك من المستحيلات إذا صدقت العزائم والهمم واجتنبت القضايا الجانبية والهامشية ووقع النفاذ إلى الجوهر وهو ما ينفع الناس.
