العبادات بدنية ومالية (الزكاة نموذجا) هي الحق الثاني لله على عباده

العبادات بدنية ومالية (الزكاة نموذجا) هي الحق الثاني لله على عباده


(خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي بجامع الإصلاح بمونتراي فرنسا بتاريخ 17-03-2017).     

     الحمد لله العظيم المنان الحليم السلطان ذو الجلال والإكرام، والصلاة والسلام على سيد ولد عدنان المبعوث رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا سيدنا محمد بن عبد الله صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين.

      أما بعد أيها المسلمون:

      لما أذن سبحانه وتعالى بختم الرسالات بدين الإسلام الذي هو دين كل الأنبياء والمرسلين عليهم السلام من آدم إلى عيسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم جعل هذا الدين أتم الأديان وأكملها وأشملها لكل ما فيه سعادة الإنسان في هذه الدنيا ونجاته وفوزه برضوان الله يوم القيامة في الدار الآخرة. فقد تلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحج الأكبر وجموع المسلمين من حجيج بيت الله الحرام تلى عليهم قول ربه جل من قائل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).

      لقد جاء هذا الدين الذي رضيه الله لعباده وقال في حقه: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). والدين الحق عند الله (إن الدين عند الله الإسلام) لم يترك خيرا عاجلا وآجلا إلا وأرشدهم إليه وما من ضرر ومفسدة عاجلة وآجلة إلا ونهاهم عنها وحذرهم منها، يبدو ذلك جليا وحيثما نظرنا في مختلف جوانب هذا الدين: في عقائده التي أساسها وحجر الزاوية فيها عقيدة التوحيد التي هي توجيه الوجه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا، سبحانه وتعالى، رب واحد وإله شاهد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له كفؤا أحد، الأول والآخر والظاهر والباطن، لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك، أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليخرجوا الناس من الضلالة إلى الهدى ومن الظلام إلى النور ومن الضيق إلى السعة فبلغوا الرسالة وأدوا الأمانة عليهم من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم، نؤمن بهم جميعا (لا نفرق بين أحد من رسله) رسل وأنبياء أطهار منزهون عن النقائص والرذائل: عصمهم الله الذي اصطفاهم واجتباهم، بلغوا رسالات ربهم، مشكاتهم واحدة هي مشكاة النبوة بما تقتضيه من وحي يوحيه إليهم من بعثهم لهداية العباد إلى الصراط المستقيم، فعقيدة الإسلام هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والإيمان بالقدر خيره وشره والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء وعقاب ذلك هو الحق الأول لله على عباده.

      أما الحق الثاني لله على عباده بعد الحق الأول الآنف الذكر فهو أن يعبدوه، لذلك خلقهم، خلق لهم كل شيء وخلقهم ليعبدوه، يقول جل من قائل: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون)، وهذه العبادة لها مظهران عبادة شعائرية وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج وعبادة تأمل وتفكر وتدبر واستحضار دائم لعظمة الله وكرمه وإحسانه ونعمه التي لا تحصى ولا تعد التي يراها المؤمن في نفسه التي بين جنبيه (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وفي كل ما يحيط به من الآيات الدالة على قدرة الله، وعظمة الله، ولطف الله، ورحمة الله بعباده، من آمن به وحتى من كفر، ومن أطاعه وكذلك من عصاه وقابل إحسان ربه ولطف ربه ورحمة ربه ومع كل ذلك أعرض ونأى وصدق فيه قول ربه: (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا).

      نعود إلى ما سميناه شعائر أعني الصلاة والزكاة والصيام والحج، وهي أركان الاسلام التي لا يقوم صرحه إلا بها فقد قال عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا)، وهي ما اشتمل عليها حديث جبريل الذي رواه سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد أجاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل الذي قال له أخبرني عن الإسلام؟ قال عليه الصلاة والسلام: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. هذه هي أركان الإسلام الخمسة التي لا تقدم عليهما أية طاعة من الطاعات أو قربة من القربات يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بأفضل مما أفترضه عليه).

      هذه الأركان الخمسة إذا أداها المسلم مستوفية لشروطها: شرط الصحة وهو الأول لأن الله لا يقبل من العمل إلا أصوبه وأصحه، والصواب والصحة يكونان بالاتباع لا بالابتداع، قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقال (خذوا عني مناسككم)، فهو عليه الصلاة والسلام الأسوة وهو عليه الصلاة والسلام القدوة وهو عليه الصلاة والسلام من أمره ربه أن يبلغ المؤمنين قوله جل من قائل: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله).

      أما الشرط الثاني وهو أساسي وجوهري وهو لب هذه الفرائض وهو الغاية منها، فهو الإخلاص في أداء هذه العبادات وجعلها متمحظة لله رب العالمين الذي لا يقبل الشريك في أي عمل يتقرب به العبد إليه يقول جل من قائل: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) فالنوايا التي تقترن بما يقدمه العبد من طاعات هي الأساس وهي حجر الزاوية يقول عليه الصلاة والسلام (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، وكم من طاعات ظاهرها الصحة شكلا وهي مردودة على أصحابها لأنها خالية من الإخلاص، ألم يقل عليه الصلاة والسلام: (من لم تنهه صلاته فلا صلاة له) أي من لم تنهه عن المنكر فكأنه لم يصل وذلك أن الصلاة كما قال جل من قائل: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وكذلك الأمر بالنسبة للصيام يقول عليه الصلاة والسلام: (كم من صائم ليس من صيامه إلا الجوع والعطش) و(من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله في تركه طعامه وشرابه)، وكذلك الأمر بالنسبة للحج فمن كان حجه من مال غير حلال عندما يقول: (لبيك اللهم لبيك) يجاب (لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك).

      وكذلك الأمر بالنسبة للزكاة هذا الركن العظيم الشأن من أركان الإسلام فقد قال عليه الصلاة والسلام عند رده على ثعلبة زكاته قال: (هلك ثعلبة)، لأن ثعلبة لم يعط إلا العجفاء وما ترك السبع غير مدرك أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وأن الله تبارك وتعالى يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).

      والعبادات في الإسلام بدنية: الصلاة والصيام وكل منهما شكر لله على نعمة العافية والسلامة التي هي تاج على رؤوس الأصحاء لا يبصره إلا المرضى وقد أمرنا أن نسأل الله العفو والعافية يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممتنا على عباده: (من أصبح منكم معافى في بدنه آمنا في سربه عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها)، وهل الدنيا في نهاية الأمر إلا الصحة والعافية وهل هي إلا الإطعام من جوع؟ وهل الدنيا إلا السلامة والأمن؟ وكل ذلك ذكر الله به عباده في كتابه العزيز حيث قال جل من قائل: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوفوالصلاة والصيام عبادتان بدنيتان يؤديهما المؤمن شكرا للمنعم بهما وهو الله سبحانه وتعالى.

      والزكاة عبادة مالية هي شكر لله على ما وهب وما تكرم به وجاد به على عباده. فالمؤمن لا ينبغي له أن يغفل أن كل ما بين يديه مصدره وماتاه هو من الله، فهو مالك الملك بيده الخير وهو على كل شيء قدير، إلى تلك الحقيقة يلفت ربه انتباهه (قل كل من عند الله) (ما بكم من نعمة فمن الله)، الجميع ينزلون إلى هذا العالم إلى هذه الحياة الدنيا وهم لا يملكون شيئا ولا يقدرون على شيء، فالمال مال الله، وهو المالك الحقيقي هو الواهب وهو الرزاق، والعبد هو مجرد مستخلف ولذلك قال جل من قائل: (أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)، ويقول سبحانه وتعالى: (خلق الإنسان هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم).

      فالأغنياء الذين أتاهم الله من فضله هم وكلاء على الأموال التي بين أيديهم إذ المال مال الله والأغنياء وكلاء الله، وغير الأغنياء من عباد الله الفقراء هم عيال الله وإذا بخل وكلاء الله على عيال الله أذاقهم الله وباله ولا يبالي، فالزكاة حق للفقراء في أموال الأغنياء يقول جل من قائل: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا)، وقال: (فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله)، الاسراء وما أكثرها الآيات التي تتوعد من يبخلون من ذلك قوله جل من قائل: (كلا بل تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين) وقوله: (أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين)، وقوله: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون)، وقوله: (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا: لم نكن من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين)، ويقول: (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة عرضها سبعون ذراعا فأسلكوه) لماذا؟ (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين).

      إن الأمر بالزكاة جاء في عديد الأيات مقترنا بإقامة الصلاة، فالزكاة تزكية وتطهير للمال مثلما أن الصلاة تطهير وتزكية للنفس (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) (قد أفلح من زكاها وخاب من دساها ).

      الصلاة والزكاة قرينان لا يفترقان بهما جاء الأمر في عديد الأيات القرآنية جاء في سورة النمل: (تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) وفي مطلع سورة لقمان يقول جل من قائل: ( هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة)، ويقول: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) واقتران الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هي الحجة التي اقنع بها سيدنا أبو بكر الصديق الصحابة بمحاربة مانعي الزكاة الذين قالوا: نقيم الصلاة ولا نؤدي الزكاة قال الصديق والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة وأقسم والله لو منعوني عناقا أو عقالا لقاتلتهم عليه.

      فالزكاة عبادة مالية يجب على المسلم ان يؤديها لمستحقيها إذا بلغ المال النصاب وحال عليه الحول وهي واجبة في كل أنواع المال من حرث وزرع ودواب: أغناما و إبلا وأبقارا وهي واجبة في الذهب والفضة وفي قيمتها من الأوراق والصكوك البنكية وانصبتها محددة في كل هذه الأنواع وما على المسلم إلا أن يسأل أهل الذكر ويبرئ ذمته مما هو حق لغيره بمجرد بلوغ ما له النصاب وحلول الحول وإلا فإنه يعرض نفسه لغضب الله وماله للتلف، فمثلما أن الزكاة تطهير للمال وهي قبل ذلك شكر لله على ما أنعم به حتى يزيد من فضله مصداقا لقوله جل من قائل: (لئن شكرتم لأزيدنكم) والزكاة تحصين للمال من التلف وهي بركة للمال وهي تأليف لقلوب المؤمنين وهي تجسيم حقيقي فعلي للأخوة التي تستوجب التضامن والتآزر والتراحم تقضي على كل مظاهر التحاسد والتباغض الزكاة تطهير لنفس المؤمن من الأنانية يقول جل من قائل: (خذ من أموالهم صدقة (زكاة) تطهرهم وتزكيهم بها) وقد وردت عديد الأحاديث النبوية المحذرة للمسلم من عدم آداء الزكاة يكفي أن نذكر ببعضها منها قوله عليه الصلاة والسلام: (ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين)، وقوله: (ما تلف مال في بر ولا حر إلا بحبس الزكاة) إلى غير ذلك من أحاديث الوعيد الشديد التي لا يتسع المجال لايرادها.



 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.