من مغازي وعبر العيد ومناسك الحجّ

من مغازي وعبر العيد ومناسك الحجّ


يتهيأ المسلمون للاحتفال بعيد الأضحى المبارك هذا العيد الذي يحييه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بأداء صلاة العيد وتقديم أضحياتهم اقتداء بنبيهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وإحياء لسنة إبراهيمية يبدو فيها جليا الترابط العضوي بين رسالات السماء وأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام فهم جميعهم يدعون إلى رسالة واحدة وهي رسالة التوحيد قال عليه الصلاة والسلام (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا اله إلا الله) وكل الأديان في جوهرها هي إسلام بالمعنى العميق للكلمة أي إسلام الوجه لله رب العالمين وقد أوصى بالإسلام كل الأنبياء أبناءهم ومن تبعهم. ويبدو الترابط وثيقا بين ما دعا إليه سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام وما دعا إليه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وهو ترابط حتى في المكان فإلى مكة المكرمة هاجر إبراهيم الخليل، وفي مكة ترك إبراهيم الخليل فلذة كبده إسماعيل وأمه هاجر في ذلك الوادي غير ذي الزرع لا أنيس لهما إلا الله والى مكة عاد إبراهيم الخليل حيث أمر بأن يقيما هو وابنه إسماعيل القواعد من البيت (وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهرا بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها واطعموا البائس والفقير) فبالحج الذي هو احد أركان الإسلام أذن إبراهيم الخليل عليه السلام ومر الزمان ليبعث بآخر الأديان سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ويكون الحج الذي أذن به إبراهيم أحد أركان الإسلام (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا) وقال عليه السلام (إن الله فرض عليكم الحج فحجوا...) وبقي الحج منذ أن أصبح ركنا من أركان الإسلام يؤدى هناك في مكة المكرمة (طواف بالكعبة المشرفة وصلاة في مقام إبراهيم وارتواء من ماء زمزم الذي فجره الله تكريما للطفل إسماعيل الذي كاد يهلك من العطش وحوله أمه هاجر التي كانت تهرول بين الصفا والمروة التي يسعى بينها حجيج بيت الله الحرام. وعلى عرفات يقف الحجيج شعثا غبرا في ثياب موحد ابيض غير مخيط ولا محيط ينتظرون الجائزة الكبرى التي وعدهم بها ربهم حيث بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى يتجلى على عباده من حجيج بيت اله الحرام فيباهي بهم ملائكته ويشهدهم بأنه غفر لهم فيخرج الحجيج كل عام من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، جائزة عظمى وهدية كبرى يهون معها كل ما يبذله الحجيج من تضحيات وركوب للصعاب و(السفر قطعة من عذاب) وليس بالهين بذل الأموال ومغادرة الأهل والوطن إذا لم يكن من اجل نيل مثل هذه الجائزة الكبرى. فمن من عباد الله في غنى عن أن تمحى خطاياه وسيئاته؟ ويبدأ بعد الحج حياة جديدة قوامها الإقبال على الله بالكلية وبكل وإخلاص في ما بقي من العمر. لهذه الغاية ولهذا الهدف ولنيل هذا الجزاء يشد الحجيج الرحال إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة وتشتد أشواقهم في سبيل أن يكونوا من ضيوف الرحمان (فالحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة). وينزل حجيج بيت الله الحرام بعد أن تغرب عليهم شمس يوم التاسع من ذي الحجة وهم على عرفات (والحج عرفة) ومن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج لأجل ذلك يتكرر الإلحاح توعية للحجيج بأن يتهيؤوا لهذا اليوم العظيم وان لا يستعجلوا بالنفرة من عرفة قبل أن تغرب عليهم شمس يوم التاسع فلا بد من البقاء جزءا من الليل على عرفات ثم يقع الانطلاق إلى مزدلفة في مشهد لا يمكن وصفه فالجميع في فرحة وسرور يسارعون الخطى لأداء صلاتي المغرب والعشاء والدعاء عند المشعر الحرام قبل الانطلاق يوم العيد إلى منى هناك في الوادي الضيق لرمي جمرة العقبة ثم ليقع التحلل الأصغر بعد ذلك ولتتم الفرحة. ففرحة الحجيج فرحتان فرحة العيد وفرحة بتمام الحج أو يكاد. فالحجيج يرمون جمرة العقبة ويستحضرون مرة أخرى مشهد إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام وهما يمتثلان لأمر الله جل وعلا هذا الأمر المتمثل في ذبح إبراهيم لابنه إسماعيل حيث قص الأب ما رآه في المنام و(رؤيا الأنبياء وحي) (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى) وكان الجواب من الابن البار الصابر المصابر (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) يا له من صبر من الأب وصبر من الابن هو درس وعبرة لمن يعتبر. فلولا قوة العزيمة وقوة الجأش ولولا صلابة الإيمان وقوته ورسوخه لما أقدم إبراهيم الأب على ذبح ابنه وفلذة كبده، انه امتحان واختبار وتمحيص وابتلاء “والأنبياء اشد الناس بلاء يثبتهم الله فيه فيصبرون ويصابرون ويرابطون”. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر (واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) وأولو العزم هم (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام) وخاتمهم هو سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الذي تحمل أذى شديدا من الأقارب والأباعد فما بدل ولا غير وما ذلك إلا لتثبيت الله له (اصبر وما صبرك إلا بالله). وعندما عزم الأب إبراهيم والابن إسماعيل على تنفيذ أمر الله تراءى لهما الشيطان واخذ يحاول الإغراء والإغواء بالتحنن والنصح والتأويل فما افلح، انحنى إبراهيم الخليل عليه السلام على حصيات التقطها من الأرض ورمى بها الشيطان اللعين رجمه إرضاء للرحمان وعندما صدق العزم من الأب وابنه فدى الله الابن إسماعيل بكبش ذبحه سنة إبراهيمية هي ماضية إلى اليوم يحييها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها اقتداء بنبيهم سيدنا محمد بن عبد الله الذي ضحى بكبشين أقرنين احدهما عليه وعلى آله وأهله والثاني على الفقراء من أمته عبر الزمان والمكان. فإذا كان الحجيج وهم يرمون الجمرات في منى أيام العيد (العيد واليومين الذين بعده) يستحضرون هذه المعاني فان إخوانهم من المسلمين وهم يحيون هذه السنة ويقدمون أضحياتهم عن طيب خاطر يشاركونهم في استحضار الصراع الذي دار بين إبراهيم الخليل وإسماعيل عليهما السلام من ناحية وبين الشيطان اللعين وانتصار إبراهيم وإسماعيل على الشيطان فان كل المسلمين يعيشون صراعا مريرا يوميا مع أنفسهم الأمارة بالسوء ومع الشيطان فكل منهما (النفس والشيطان) يحاولان جاهدين بان يحولا بين المسلم وكل فعل للخير ويعملان جاهدين لإغواء الإنسان ودفعه إلى فعل الشر وإغضاب الله بإتباع الهوى المهلك. وكثيرا ما يفلحان فيجعلان من المسلم عبدا لهواه وللشيطان وليس عبدا للرحمان. فالشيطان الذي يرجمه الحجيج ويستحضرون عداوته وإغواءه والمسلمون وهم يقدمون أضحياتهم يوم العيد، فهذا الشيطان هو العدو الألد لبني آدم، الصلاح والفلاح والنجاة من العذاب في طرده ولعنه والابتعاد عن كل ما يأمر به ويدعو إليه ذلك هو ما ينبغي أن لا يغيب عن أذهان الحجيج هناك وهم يؤدون المناسك حيث عليهم إن يعودوا من حجهم بعزم قوي على أن يظلوا أعداء الداء للشيطان لا يتبعون إغواءاته ولا يعودون إلى ما كانوا يأتونه من المعاصي والذنوب فذلك هو الحج المبرور الذي ليس له ثواب إلا الجنة وعلامته إن تكون حال الحاج مع ربه بعد الحج أصلح مما كانت عليه قبل الحج. هذا هو المقياس الصحيح للحج المبرور وليس الشكل والمظهر واللقب الذي سيحمله بعد الحج وعند العودة. وكذلك فان المسلمين وهم يحيون سنة الأضحى ينبغي أن يظل المغزى والموعظة والعبرة هو التضحية ليس بالكبش بل التضحية بالهوى والشهوة وما يأمر به الشيطان وما يدعو إليه من عداوة وبغضاء وحقد وحسد وكراهية وبخل وجبن وشر وضرر وكل ذلك وارد وقوعه من الإنسان



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.