من فقه الصيام في كتاب الموطأ للإمام مالك رضي الله عنه

من فقه الصيام في كتاب الموطأ للإمام مالك رضي الله عنه


من أدق ما ألف في فقه الحديث وبيان الأحكام الشرعية انطلاقا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة مالك بن انس رضي الله عنه، فالموطأ هو بحق كتاب فقه السنة الأقدم والأصح والأثبت بلا منازع ولا غرابة في الأمر فقد اجمع العلماء قديما وحديثا على الإشادة بعلم مالك وحفظه وتقواه وورعه وكذلك كان رأيهم في كتابه الجليل الموطأ الذي يعد أقدم كتاب دون حصصه إمام دار الهجرة واستخرجه من بين عشرات الآلاف من مروياته ونقوله عن العلماء الأعلام الذين عاصرهم والذين يعدون اقرب جيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لازمهم في مدينة رسولا الله صلى الله عليه وسلم وتلقى عليهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي روضته الطاهرة ما بين بيته ومنبره عليه الصلاة والسلام فنفعه الله بعلمهم وفضلهم جازاه جزاء حسن أدبه مع رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، فقد اثر عن مالك في هذا المجال أدب رفيع وخلق كريم لازمه طيلة حياته سواء كان ذلك في ما ينطق به لسانه أو ما تأتيه أركانه وأعضاؤه من سائر التصرفات، فقد كان رضي الله عنه يلازم الأدب الكامل والتام وهو في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مسجده يتعلم ثم يعلم ويبدو هذا الإجلال في ملبسه ومنطقه بل وفي ملامح وجهه إذا ذكر في مجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسيرة الإمام مالك رضي الله عنه اختصها العلماء بالتآليف العديدة التي توخوا فيها صحة النقل عن الثقة باعتبار أن الإمام مالكا رضي الله عنه اخذ نفسه بالأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع سنته الطاهرة وآثاره الزكية فهو بذلك قدوة وأسوة للأمة. منزلة الإمام مالك وأهمية الموطأ وللتدليل على إجلال كبار علماء الأمة للإمام مالك بن انس رضي الله عنه نورد في ما يلي بعضا من شهاداتهم التي لا تزيدنا إلا تقديرا للإمام مالك وتسليما بعلمه وفضله وتقواه وورعه وقد نال الموطأ من هؤلاء العلماء الأعلام العناية والتقدير. وقد الفت في روايات الموطأ وشروح ما ورد في الموطأ من علم غزير عشرات بل مئات الكتب التي تضم عشرات المجلدات ولا تزال المطابع تخرج لنا مثل هذه الذخائر المستخرجة مما ورد في الموطأ من علم وفقه وسنة. قال الإمام الشافعي: ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صوابا من موطأ مالك رحمه الله. وقال: ما كتاب بعد كتاب الله عز وجل انفع من موطأ مالك. وقال: ما نظرت في موطأ مالك إلا ازددت منه فهما وعلما وقال الإمام البخاري: اصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر وسماه سلسلة الذهب. وقال ابن مهدي: ما أقدم على مالك في صحة الحديث أحدا وقال أبو قدامة: كان مالك أحفظ أهل زمانه وقال ابن معين: كان مالك من حجج الله على خلقه وقال: إمام الأئمة وفقيه الأمة وشيخ الإسلام وعالم المدينة وأمير المؤمنين في الحديث. تلك بعض الشهادات المنصفة لمالك رضي الله عنه المعترفة بعلمه وفضله وأمانته في خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمانة التي خلدت ذكره وحفظت للأمة دينها من كل تحريف وتتريف. وكل أبواب وكتب الموطأ جديرة بالوقوف عندها وها نحن نورد بعض ما تضمنه الموطأ في كتاب الصيام. باب ما جاء في رؤية الهلال افتتح الإمام مالك كتاب الصيام باب ما جاء في رؤية الهلال للصوم والفطر في رمضان. عن يحيى عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك رمضان فقال “لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فان غم عليكم فاقدروا له” ويورد الإمام مالك حديثا آخر في نفس الباب فيه إضافة عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “الشهر تسعة وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فان غم عليكم فاقدروا له”. والإضافة في الحديث الثاني هي قوله عليه الصلاة والسلام “الشهر تسعة وعشرون”. ويورد الإمام مالك حديثا ثالثا فيه إضافة حيث قال “عن مالك عن ثور بن زيد الديلبي عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال ”لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فان غم عليكم فأكملوا العدد (العدة) ثلاثين" والإضافة في الحديث الثالث هي فأكملوا العدد ثلاثين. هكذا نرى من خلال هذا الباب الذي هو نموذج فقط مدى توخي مالك رضي الله عنه للدقة وتحريه لها وكيف لا يفعل ذلك والأمر يتعلق بالدين ثم انه يسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسناد إليه عليه الصلاة والسلام فيه إلزام للأمة لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى. ولا يكتفي الإمام مالك رضي الله عنه بإيراد ما صح لديه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يضيف لذلك ما صح لديه من الآثار الواردة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبارهم رضي الله عنهم خير القرون وباعتبارهم الأقرب والأشد التصاقا برسول الله صلى الله عليه وسلم. لهذا نجده رضي الله عنه يعقب بإيراد ما بلغه من صحيح الآثار فعن مالك انه بلغه أن الهلال رئي في زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه بعشي فلم يفطر عثمان حتى أمسى وغابت الشمس. ويورد يحيى بن يحيى الليثي (أشهر رواة الموطأ) انه سمع مالكا يقول في الذي يرى هلال رمضان وحده: انه يصوم لا ينبغي له أن يفطر وهو يعلم أن ذلك اليوم من رمضان قال: من رأى هلال شوال وحده فانه لا يفطر لان الناس يتهمون على أن يفطر منهم من ليس مأمونا ويقول أولئك إذا ظهر عليهم قد رأينا الهلال ومن رأى هلال شوال نهارا فلا يفطر ويتم صيام يومه ذلك فإنما هو هلال الليلة التي تأتي. ويضيف يحيى وسمعت مالكا يقول “إذا صام الناس يوم الفطر وهم يظنون انه من رمضان فجاءهم ثبت أن هلال رمضان قد رئي قبل أن يصوموا بيوم وان يومهم ذلك احد وثلاثون فإنهم يفطرون في ذلك اليوم أية ساعة جاءهم الخبر غير أنهم لا يصلون صلاة العيد إن كان ذلك جاءهم بعد زوال الشمس”. فمن هذا الباب من كتاب الصيام نلاحظ منهجية دقيقة واضحة يتبعها الإمام مالك في تحقيق المسائل وتدقيقها تتوضح بها للقارئ الرؤية تبدأ بإيراد نصوص الأحاديث الصحيحة والتي في كل واحد منها إضافة مفيدة ثم يعقب على ذلك بإيراد ما صح لديه من آثار الصحابة والسلف الصالح باعتبارهم رضي الله عنهم ثقاتا أثباتا وباعتبار تلقيهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اعرف من سواهم بمراد الله من عباده. ويورد بعد ذلك الإمام مالك رأيه الرصين والثبت والذي يدخل في تفاصيل الأمور وجزئياتها وتلك هي ميزة الموطأ على ما سواه من كتب السنة فهو كتاب سنة وحديث ولكنه أيضا كتاب آثار صحيحة محصها الإمام مالك وغربلها وأسندها إلى الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ثم يختم بإبداء رأيه واختياراته واجتهاداته التي تنطلق كلها من صحيح الآثار ومن الإحاطة بما في الكتاب والباب الذي هو بصدد التدوين فيه لذلك لم يجانب الصواب من قالوا إن: الموطأ هو كتاب حديث وهو أيضا كتاب فقه تبدو جليا فيه خاصيته الجانب العملي الفعلي التطبيقي الذي يحتاج إليه المسلم في كل زمان وفي كل مكان. باب من اجمع الصيام قبل الفجر. عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر انه كان يقول “لا يصوم إلا من اجمع الصيام قبل الفجر”. عن مالك عن ابن شهاب عن عائشة عن حفصة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. باب ما جاء في تعجيل الفطر عن مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر”. وعن عبد الرحمان بن حرملة الأسلمي عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر”. وعن مالك عن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمان بن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود قبل أن يفطرا ثم يفطران بعد الصلاة وذلك في رمضان. باب ما جاء في صيام الذي يصبح جنبا في رمضان عن مالك عن عبد الرحمان بن معمر الأنصاري عن أبي يونس مولى عائشة عن عائشة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الباب وأنا اسمع: يا رسول الله إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم” فقال له الرجل: يا رسول الله انك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال “والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي” وعن مالك عن عبد ربه بن سعيد عن أبي بكر عن عبد الرحمان بن الحارث بن هاشم عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قالتا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم. وعن مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام انه سمع أبا بكر بن عبد الرحمان ابن هشام يقول كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة فذكر أن أبا هريرة قال: من أصبح جنبا افطر ذلك اليوم فقال مروان أقسمت عليك يا عبد الرحمان لتذهبن إلى أم المؤمنين عائشة وأم سلمة فتسألنهما عن ذلك فذهب عبد الرحمان وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة فسلم عليها ثم قال: يا أم المؤمنين إنا كنا عند مروان بن الحكم فذكر أن أبا هريرة يقول: من أصبح جنبا افطر ذلك اليوم، قالت عائشة: ليس كما قال أبو هريرة يا عبد الرحمان، أترغب عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ فقال عبد الرحمان: لا والله قالت عائشة فاشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم انه كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم قال ثم خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة فسألها عن ذلك فقالت مثل ما قالت عائشة. قال: فخرجنا حتى جئنا مروان بن الحكم فذكر له عبد الرحمان ما قالتا: فقال مروان: أقسمت عليكم يا أبا عبد الرحمان لتركبن دابتي فإنها بالباب فلتذهبن إلى أبي هريرة فانه بأرضه بالعقيق فلتخبرنه ذلك فركب عبد الرحمان وركبت معه حتى أتينا أبا هريرة فتحدث معه عبد الرحمان ساعة ثم ذكر له ذلك فقال له أبو هريرة لا علم لي بذلك إنما اخبرنيه مخبر. وعن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي بكر بن عبد الرحمان عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قالتا: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم. هكذا بتدقيق وتحقيق يشبع الإمام مالك رضي الله عنه المسائل الواردة في أبواب الكتب من الموطأ بحيث ينتهي بقارئه إلى الرأي السديد والحكم الفصل المستند إلى صحيح المنقول والمعقول. وما أوردناه هو مجرد نموذج لدقة مالك وتحريه وما هو إلا صورة لمنهجية تأليفه للموطأ هذه المنهجية التي تترقى في كل مسألة من العام إلى الخاص ومن النص الواضح إلى التطبيق العملي والفعلي وهي خاصية للموطأ انه صورة حياة المجتمع الإسلامي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد أصحابه ومن تبعهم رضي الله عنهم ولذلك جاء الاحتجاج في الموطأ ولدى مالك بعمل أهل المدينة وتقديمه على خبر الآحاد باعتبار استحالة تواطؤ هذا العدد الكبير على الخطأ.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.