من عبر دروس غزوة بدر الكبرى وشهر رمضان المعظم

من عبر دروس غزوة بدر الكبرى وشهر رمضان المعظم


في بداية النصف الثاني من شهر رمضان المعظم يحي المسلمون ذكرى غزوة بدر الكبرى التي هي أول معركة خاضها المسلمون بعد الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وأحداث هذه الغزوة مبسوطة بدقة في كتب السيرة والتاريخ وهي في المتناول إذ يتكرر استعراض مراحلها كلما احتفل المسلمون بذكرى غزوة بدر الكبرى. وما نريد أن نقف عنده هي مجموعة من الخواطر المستخلصة من هذه المناسبة وذات الصلة بها مباشرة أو غير مباشرة. * وأولها أن هذا الشهر المبارك شهر رمضان المعظم هو شهر أداء شعيرة من أعظم شعائر الإسلام ألا وهي الصيام الذي كتبه الله على المسلمين كما كتبه على الذين من قبلهم من الأمم التي أرسل إليها أنبياء وأنزلت عليها كتب وصحف، هذا الشهر ليس شهر كسل وخمول وتواكل وضعف في مردود وعطاء المسلم العملي أو العلمي أو الاجتماعي. إن شهر رمضان هو شهر الجد والكد على مختلف الواجهات وهو شهر المجاهدة للنفس الأمارة بالسوء والهوى وهما العدوان اللدودان للمؤمن فالنفس هي كما قال الله تبارك وتعالى في حقها “إن النفس لأمارة بالسوء” والهوى هو ما قال الها تبارك وتعالى في حقه “افرأيت من اتخذ إلهه هواه” وهو ما اعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهلكات حيث قال “ثلاث مهلكات: هوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه وشح مطاع”. ورمضان مدرسة للصبر والتحكم في النفس وإلزامها بما هو في مستطاعها. وأصحاب الأعذار من المرضى والضعاف ومن هم على سفر لهم أحكامهم الخاصة التي تنزع نحو التيسير فليس عليهم حرج إذ أن الله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر. والأصحاء المعافون هم من ينبغي عليهم أن يستفيدوا من الصيام الذي هو راحة لأبدانهم وصحة لأجسامهم فقد قال عليه الصلاة والسلام “صوموا تصحوا” وذلك هو ما أثبته الطب والعلم (فالمعدة هي بيت الداء والحمية رأس الدواء). وقد ارشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاكتفاء بالقليل حين قال “بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فان كان ولابد فثلث للطعام وثلث للماء وثلث للنفس” وقال “نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا فلا نشبع” وكل هذا الهدي المحمدي يندرج تحت قوله تعالى “كلوا واشربوا ولا تسرفوا”. فصيام رمضان مع وضع في الاعتبار هذا الهدي المحمدي لا يمكن أن يكون مدعاة للضعف والتكاسل والتثاقل وجعل مردود العمل أو أي جهد يبذل من طرف الإنسان ينقص في شهر الصيام. إن أنفسنا البشرية جعل الله لها قدرة خارقة للعادة على التعود بسرعة على نمط الحياة الجديد إمساك عن الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. لذلك لم يكن شهر رمضان مانعا ولا تعلة للتملص من القيام بما ينبغي القيام به مما لا موجب لتأخيره أو انه لا يمكن أن يتأخر كلقاء عدو وهذا ما وقع فعلا في غزوة بدر فقد جرت في شهر رمضان وخرج لها المسلمون إلى خارج المدينة هناك في بدر حيث جرت أول معركة في الإسلام بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار وبين الكافرين من قريش الذين خرجوا أولا لنجدة قافلتهم المحملة بأموال التجارة ثم أصروا على لقاء المسلمين رغم نجاة قافلتهم. * الأمر الثاني الذي يستحق الوقوف عنده وتجليته هو أن هذه المعركة فرضت على المسلمين الذين لم يكونوا خرجوا من المدينة لأجل خوضها لقد خرج المسلمون لاعتراض قافلة محملة بأموال لقريش كانت مارة بالمدينة التي هي في طريق التجار القاصدين الشام أو العائدين منها. خرج عدد من المهاجرين والأنصار لم يتجاوزوا الثلاثمائة إلا بقليل إنهم خرجوا لاسترجاع بعض ما هو من حقهم على قريش التي وضعت أيديها على أموال المسلمين وكل ما يملكون وأخرجتهم من مكة بأيد فارغة فهذه القافلة المارة بالمدينة (بمقربة منها) هي لقريش بالذات ولو كانت لغير قريش لما اعترضها المسلمون ولما انتدبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فحاشاه وحاشا مبادئ الإسلام أن تبيح للمسلمين اغتصاب أموال غيرهم ظلما وعدوانا فقد حرم الإسلام الظلم والعدوان وقال جل من قائل في الحديث القدسي “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حراما فلا تظالموا”. خرج المسلمون من الأنصار والمهاجرين بنية اعتراض قافلة قريش التي كان يقودها أبو سفيان ولم يخرجوا للقاء قريش في معركة وحرب لا يعرف لمن ستكون الغلبة فيها. كبرياء قريش وعجبها ورغم أن أبا سفيان استطاع أن ينجي قافلته بعد أن أرسل من يعلم قريش باعتراض المسلمين لها إلا أن قريش المعاندة المكابرة أبت إلا إن ترد بدرا وتلقى المسلمين فقد صممت على الحرب واعدت لها العدة المادية والبشرية وخرجت من مكة مع من تحالف معها من القبائل العربية بخيلاء وكبرياء وعجب واعتقاد راسخ بأنها ستكون الغالبة والمنتصرة فلا بد أن تسمع العرب بخروج قريش! ولابد لقريش أن ترد بدرا! ولابد أن تضرب الدفوف وترقص القيان ويشرب الخمر وتسمع العرب فتظل بعد ذلك تحسب لقريش ألف حساب! لكن هذا الإصرار والعجب والكبرياء لم يكن الغالب على كل من كانوا خرجوا من قريش وتحالفوا معها إذ ما أن علم بعض هؤلاء بنجاة القافلة حتى رجعوا من حيث أتوا فهم لا يريدون حربا وتصرفوا بعقل وحكمة ورصانة. الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه أما المسلمون فإنهم لما علموا أن الأمر جد وان قريش عازمة على ملاقاتهم وان الحرب فرضت عليهم فرضا ورغم انه لا نسبة ولا مناسبة بين عدد وعدة المسلمين وعدد وعدة قريش الذي تجاوز الألف بينما كان عدد المسلمين ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا ليس لهم من السلاح إلا القليل. وهنالك عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس شورى وأراد أن يأخذ رأي أصحابه من المهاجرين والأنصار قائلا لهم: أشيروا عليّ أيها الناس وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل بمبدإ الشورى وتجسيم للآية الكريمة “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر” فالذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتراض القافلة هم من المهاجرين والأنصار، أما المهاجرون فهم من تركوا الأهل والمال (منعتهما عنهم قريش) فاستعدادهم لملاقاة عدوهم لا يشك فيها خصوصا قريش التي من حقهم أن يقتصوا لأنفسهم منها فقد سلطت عليهم شديد العقاب والعذاب فيكف لا يكونون على أتم الاستعداد لخوض هذه المعركة ضدها ومع ذلك فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى إلا أن يسمع رأيهم الذي جاء كما كان متوقعا من المهاجرين. قام المقداد بن عمرو خطيبا فقال “يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه”. لم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماع موقف المهاجرين من خوض هذه المعركة أو عدم خوضها وقد جاء هذا الموقف كما كان متوقعا منهم: إقدام واستعداد بملاقاة عدوهم مقبلين غير مدبرين. فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار وقال: أشيروا علي أيها الناس انه فعلا يعني الأنصار ويريد أن يعرف موقفهم من خوض المعركة خصوصا وهم قد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينصروه إن هو هاجر إليهم إلى المدينة ويحموه مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم وذل في المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند عهده لا يتجاوزه الله إلا إذا شاء من تعاهد معهم أي الأنصار. نهض سعد بن معاذ سيد الأنصار وقال “لكأنك تريدنا يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام اجل قال سعد قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقي بنا عدونا غدا وإنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله” هنالك اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبهة أصحابه صماء وأنهم على قلب رجل واحد. الاستعداد المادي والروحي ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد العدة للقاء العدو مستعملا كل وسيلة وطريقة وأسلوب من شانه أن يحقق النصر المبين الذي وعد الله به عباده المؤمنين حين قال جل من قائل “وكان حقا علينا نصر المؤمنين” اعد رسول الله صلى الله عليه وسلم العدد والعدة وفق ما هو متاح عملا بقوله جل من قائل “واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم” فاستطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم أن عدد من صفوف قريش حوالي الألف رجل بناء على أنهم ينحرون كل يوم عشرا من الإبل وأزال عليه الصلاة والسلام الأجراس من أعناق ما عنده من الخيل والإبل “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان” وانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكان اختاره إلى مكان آخر اختاره احد أصحابه عندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل اخترت هذا الموقع عن وحي أم هو الرأي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي فاقترح هذا الصحابي أن يقع الانتقال إلى مكان آخر بمقربة من موضع الماء وهذا إن دلنا على شيء فإنما يدلنا على أن الأخذ بالشورى مبدأ أصيل اخذ به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة والقدوة فقد انصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل بالجيش إلى الموضع الذي اقترحه الصحابي وفي ذلك كان الخير كله ولا تأتي الشورى إلا بخير “وأمرهم شورى بينهم” وما خاب من استشار. وتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك (أي بعد إعداد ما في إمكانه) إلى الله بالدعاء والضراعة فناجى ربه واستغاثه وقال “انه إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد فوق الأرض أبدا”. نصر الله لعباده المؤمنين وما هي إلا جولة أو بعض الجولة حتى تساقط رؤوس الكفر الواحد تلو الآخر ونصر الله عباده المتقين (ولقد نصركم الله ببدر وانتم أذلة) وكانت بدر أولى معارك الإسلام التي نصر الله فيها عباده المؤمنين نصرا موزرا رغم قلة عددهم وعدتهم وكانت بدر فيصلا بين عهدين حيث أنجز الله وعده لرسوله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في شهر رمضان المعظم شهر التجليات والرحمات وكانت للمسلمين مع هذا الشهر انتصارات عديدة في مواقع عديدة التزم فيها المسلمون بما ارشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر من هدي قويم أساسه ما جاء في كتاب الله العزيز المتنزل في هذا الشهر المبارك “شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى الفرقان”.وما يمكن استخلاصه من إحياء هذه الذكرى غزوة بدر الكبرى هو أن الإسلام وهو الدين عند الله الذي لا إكراه فيه، إذ الهداية بيد الله “انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء” فانه لا يستعمل القوة إلا في وجه من صد عن سبيل الله ووقف في وجه بلوغ دين الله للناس أجمعين أما من سالم المسلمين واختار أن يبقى على دينه فانه لا يناله مكروه ولا يعتدي عليه احد، فالظلم في دين الإسلام حرام وقد حرمه الله على نفسه وجعله بين عباده حراما، والجهاد في الإسلام ليس هو إكراه وظلم للأمم والشعوب ولا هو ابتزاز لأرزاقهم واستعباد لرقابهم واستعمار لبلدانهم، الجهاد في الإسلام هو لإعلاء كلمة الله ونشر دين الله ودعوة له بالكيفية التي رسمها كتاب الله “ادع إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.