مع رمضان في حكمه وأسراره

مع رمضان في حكمه وأسراره


يقول الله تبارك وتعالى (يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون أيّاما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشّهر فليصمه ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدّة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلّكم تشكرون وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الدّاعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون أحلّ لكم ليلة الصّيام الرفث إلى نسائكم هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ علم الله أنّكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهنّ وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى اللّيل ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبيّن الله آياته للنّاس لعلّهم يتّقون) سورة البقرة صدق الله العظيم تتفاوت عند الله في الفضل الأشهر والأيّام فشهر رمضان المعظّم يأتي في أعلى قوائم هذا التّرتيب وذلك لما خصّ الله به المسلمين فيه من فريضة الصّيام الذي هو ركن من أركان الإسلام وعمود من أعمدته أوجبه الله على كلّ مسلم بالغ عاقل قادر كما أوجبه من قبل على غير المسلمين من أهل الكتاب وقد أبرز الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز المغزى من فرضه لصيام رمضان وهو تحقيق التّقوى أي سلوك الطّريق المستقيم الّذي لا إعوجاج فيه ولا انحراف فيه ولا ظلم فيه ولا عدوان على النفس وعلى الناس وواضح جلي ما في أداء فريضة الصيام على المسلم من تأثير على سلوكه فالمسلم بأدائه لفريضة الصّوم يتحرّر من أهوائه وشهواته الجامحة ويتحكّم في نفسه الأمارة بالسّوء ففي الإنسان ثنائية هي الرّوح والجسد وكثيرا ما يطغى الجسد بغرائزه وأهوائه الضارية على الروح فيطفىء نورانيتها ويورد نفسه موارد الشرّ ويأتي ما تأتيه السوائم والوحوش الضارية والإنسان إنسان بروحه لا بجسمه ولن تتحقّق إنسانيته الكاملة إلا إذا استكمل الفضائل الروحية. (أقبل على النّفس واستكمل فضائلهـا * أفأنـت بالنّفـس لا بالجسـم إنسان) والصّيام عبادة إلى جانب الصلاة والزكاة والحجّ تحقّق للمسلم متضافرة ما يتوق إليه من مرضاة الله سبحانه وتعلى وهذه العبادات المفروضة على المسلم يحرز مؤديها على أصحّ الوجوه وأتمها السعادة العاجلة والآجلة إنّها جميعها تهدف إلى جلب المصلحة ودفع المفسدة سواء كان ذلك في جسم الإنسان المادي المتكوّن من لحم ودم وعظم وأجهزة أو كان ذلك في عقله وروحه بما ينعم به من أدى ما فرض عليه ربّه من عبادات من السكينة والأمن والطّمأنينة والرّاحة والسعادة التي لا تساويها أية سعادة مادية زائلة فانية والصّوم الّذي هو امساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس عبادة لا يعتريها التّظاهر والرياء إذ لا فرق يلاحظ ظاهرا بين مفطر وصائم، الذي يعلم المفطر من الصّائم هو الله الّذي لا تخفى عليه خافية لأجل ذلك استحقّ الصّوم أن ينسبه الله إليه حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله قال الله عزّ وجلّ (كلّ عمل ابن آدم له إلا الصّوم فإنّه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل أني صائم إني صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربّه فرح بصومه) رواه البخاري ومسلم. والصّيام الذي يستحقّ هذه النّسبة لله تبارك وتعالى وينال عليه العبد الجزاء مباشرة من ربّه هو لاشكّ الصّوم الكامل لا مجرّد الامتناع عن شهوتي البطن والفرج وترك الطّعام والشّراب بل إنّ الصّيام إذا اقتصر على ذلك ليس للعبد أن يطمع منه في نوال عظيم الأجر وجزيله فقد روى البيهقي والبزار عن رسول الله قوله (كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش وكم من قائم ليس له من قيامه إلاّ السهر) فلا بدّ للصّائم لكي يتقبّل الله صيامه وقيامه من ترك كل ما يغضب الله من الخبائث والرّذائل وعليه أن يتجنّب كلّ محرم من قول أو فعل فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيء أنّه قال (من لم يدع قول الزّور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) البخاري وأبو داود والترمّذي والنّسائي وابن ماجة وعن ابن عبيدة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول (الصّيام جنّة ما لم يخرقها) رواه أبو هريرة فزاد قيل وبما يخرقها قال بكذب أو غيبة ويروي أبو هريرة في حديث آخر أنّ رسول الله قال (ليس الصّيام من الأكل والشّرب وإنّما الصّيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إنّي صائم) رواه ابن خزيمة وابن حبان وقد روى الإمام أحمد عن عبيد مولي رسول الله أن امرأتين صامتا وأنّ رجلا قال يا رسول الله إن ههنا امرأتين قد صامتا وأنّهما قد كادتا أن تموتا من العطش فأعرض عنه أو سكت ثم عاد وأراه قال بالهاجرة قال يانبيّ الله إنهما والله ما ماتتا أو كادتا أن تموتا قال أدعهما قال فجاءتا قال فجيء بقدح أو عس فقال لاحداهما قييء فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما حتى ملأت نصف القدح ثم قال للأخرى قييء فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح ثم قال إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرّم الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان من لحوم الناس) أحمد وغيره فالصّوم الحقيقي الّذي هو جنّة ووقاية من النّار هو الصّوم الكامل عما يغضب الله وهو الّذي عناه بعضهم بقوله: إذا لـم يكن فـي السّمـع منـي تصامـم * وفي مقلتي غض وفي منطقي صمت فليس لي إذن من صومي إلا الجوع والظّمأ وان قلـت صمت يومـا فمـا صمت والإسلام في كل ما فرض من الفرائض والواجبات يركّز على الجانب الاجتماعي السلوكي، جانب المعاملة والمخالطة والعلاقة ببقية الناس ومقياس التديّن وعلامة صدقه يتجلّى في ما تتركه هذه العبادات والفرائض في سلوك من يؤدّيها من آثار فإذا أمرته بالعدل ونهته عن الفحشاء والمنكر والبغي وإذا دفعته إلى فعل الخير وأداء المعروف ونشر الفضيلة فعند ذلك نستطيع أن نقول إنّها قد أديت على أحسن الوجوه أمّا إذا كانت مجرّد طقوس ورسوم ومواسم ومناسبات هي أقرب ما تكون إلى الأعياد الشّعبيّة والمهرجانات والعادات والتّقاليد فقد حادت عن الغرض الأصلي الذي من أجله فرضها الله على عباده لقد فرض الله على عباده أداء فريضة الصّيام من أجل أن تتحقّق لهم به مصالح عاجلة وأخرى آجلة في الدّنيا وفي الدّار الآخرة ومن أجل أن تتحقّق لهم به فوائد جسمية وروحية وفرديّة واجتماعيّة فإذا لم تتحقّق بالصّوم هذه الفوائد فهو صوم منقوص مهما ادعى صاحبه وتظاهر به فكيف يعقل أن يجتمع أداء فريضة الصّيام على أحسن الوجوه والإصابة يأي مرض من الأمراض؟ فالرّسول يقول لنا (صوموا تصحوا) ويحذرنا من الاسراف والتّبذير والنّهم والشّراهة حيث يقول (المعدة بيت الدّاء والحمية رأس الدّواء) ويقول (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه فإن كان ولابدّ فثلث للماء وثلث للطّعام وثلث للنفس) فإذا صام المسلم وهو يستحضر هذه المعاني فلن يسرف ولن يكثر من الأطعمة والأشربة بل سيتناول منها بمقدار ما يسدّ رمقه ينبغي على الصّائم وهو يجلس إلى مائدته عند الإفطار أن لا يعتقد أنّ عليه أن يتزوّد من ليله لنهاره حتى لا يشعر اطلاقا بالجوع في النّهار! فبمثل هذا التصرّف ستنجرّ التّخمة والبطنة التي تذهب الفطنة. إنّ الشّعور بألم الجوع مقصد من المقاصد التي جعلها الله في الصّوم فبهذا الجوع تتحقّق فوائد عدّة أوّلها أنّ الجوع يعتبر أنجع أنواع العلاج الطبّي لأمراض المعدة المنجرّة عن تكاثر الأطعمة والأشربة وقد توصل إلى هذه الحقيقة الصحية كبار الأطبّاء من غير المسلمين وفتح بعضهم عيادات لا تقدم لمرضاها من الأدوية إلا الحمية وهي نوع من الصّوم يشبه الذي فرضه الله على عباده المسلمين واستطاعت في السنوات الأخيرة عيادات في ألمانيا وسويسرا أن تشفي ثمانين في المائة من مرضاها بالاعتماد على الصّوم والحمية ونشر أطبّاء هذه العيادات تقاريرهم في كبريات المجلات الأوروبية. أمّا المقصد الثّاني من مقاصد الصّوم فهو الشّعور بالجوع المتحقّق من جرّاء الصّيام إنّه الدّرس العملي الذي يخرج به كل صائم فالجوع الشديد والفاقة والحرمان بلاء عظيم يتعرّض إليه عشرات الآلاف من بني البشر يتضورون جوعا قد لا تؤثّر الصّورة والأشباح التي نراها على صفحات المجلات وعلى شاشات التّلفزة مثلما يؤثّر فيهم الصيام إذ لا يعرف الإنسان حقائق الأشياء إلا عندما يعيشها بنفسه، تحدث ما طاب لك عن الجوع والحرمان فلن يتجاوز تأثيرك أذان سامعيك وجوّعهم وجوبا وامنع عنهم الطّعام والشّراب فترة من الزّمن ثم اسألهم عن الجوع، هذا هو ما فعله الإسلام مع المسلمين أمرهم بالصّوم ليشعروا بآلام بعضهم البعض ويعرفوا حقيقة الفاقة والمسغية والحرمان وذلك من أجل أن تنشأ بين قلوبهم عاطفة التألّم لآلام بعضهم البعض، والصّوم يحقّق التّواصل بين المسلمين على مختلف طبقاتهم لقد شبّه رسول الله المؤمنين بالجسد الواحد حيث يقول عليه الصلاة والسّلام (مثل المؤمنين في تواددهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحمى) والمؤمنون رحماء بينهم فقد كان رسول الله في هذا الشّهر كريما وكان أكرم ما يكون في رمضان حيث يكون كالرّيح المرسل ينال كرمه القريب والبعيد وأخبر عليه الصّلاة والسّلام عما أعدّه الله من عظيم الأجر وجزيل الثّواب للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ويطعمون الطّعام فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبيء قال (من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنّه لا ينقص من أجر الصّائم شيء) رواه الترمّذي والنّسائي وابن ماجة وعن أم عمارة الأنصارية رضي الله عنها أن النبيء (دخل عليها فقدّمت إليه طعاما فقال كلي فقالت إني صائمة فقال رسول الله إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا وربّما قال حتى يشبعوا) رواه الترمّذي وقد كان رسول الله (يحتفي بشهر رمضان أيّما احتفاء ويستعدّ إليه استعدادا كبيرا وكان ينبّه أصحابه وأمّته إلى ما أعدّ الله لهم فيه من الخيرات فعن سلمان رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله في آخر يوم من شعبان قال (يا أيّها النّاس قد أظلكم شهر عظيم مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوّعا من تقرّب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدّى فريضة فيه ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصّبر والصّبر ثوابه الجنة وشهر المواساة وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النّار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قالوا يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصّائم فقال رسول الله يعطي الله هذا الثّواب من فطر صائما على تمرة أو على شربة ماء أو مذقّة لبن وهو شهر أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار من خفّف عن مملوكه فيه غفر الله له واعتقه من النّار واستكثروا فيه من أربع خصال خصلتين ترضون بهما ربّكم فشهادة أن لا إله إلاّ الله وتستغفرونه وأمّا الخصلتان اللتان لا غناء لكم عنهما فتسألون الله الجنّة وتعوذون من النار من سقا صائما سقاه الله من حوضه شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة) رواه ابن خزيمة وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّ رسول الله قال (أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا لم يعطن نبي قبلي أما واحدة فإنّه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله عزّ وجلّ إليهم ومن نظر إليه لم يعذّبه أبدا وأمّا الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك وأمّا الثالثة فإنّ الملائكة تستغفر لهم في كلّ يوم وليلة وأما الرّابعة فإنّ الله عزّ وجلّ يأمر جنته فيقول لها استعدي وتزيّني لعبادي أوشك أن يستريحوا من تعب الدّنيا إلى داري وكرامتي وأمّا الخامسة فإنّه إذا كان آخر ليلة غفر الله لهم جميعا فقال رجل من القوم أهي ليلة القدر فقال لا ألم تر إلى العمال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم) رواه البهيقي ورمضان هو شهر التّوبة والغفران لمن يريد أن يتوب ويستغفر ذلك أن الله تبارك وتعالى يفتح أبواب رحمته وقبوله وعفوه عن عباده المذنبين ومن بفوته شهر رمضان فلا يتوب فهو محروم فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال رسول الله (احضروا المنبر فحضرنا فلما ارتقى درجة قال آمين فلما ارتقى الدرجة الثانية قال أمين فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال آمين فلما نزل قلنا يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه قال انّ جبريل عليه السلام عرض لي فقال بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له قلت آمين فلما رقيت الثانية قال بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين فلما رقيت الثالثة قال بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلانه الجنّة فقلت آمين) رواه الحاكم وقال عليه السلام (ثلاث حقّ على الله أن لا يرد لهم دعوة الصّائم حتى يفطر والمظلوم حتى ينصر والمسافر حتى يرجع).



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.