مع القرآن الكريم في آيات الصيام... الأسرار والأحكام

مع القرآن الكريم في آيات الصيام... الأسرار والأحكام


يقول الله تبارك و تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فديه طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وان تصوموا خير لكم ان كنتم تعلمون شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وانتم لباس لهن علم الله إنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون) صدق الله العظيم الآيات 187-186-185-184-183 من سورة البقرة. تطرقت هذه الآيات البينات من سورة البقرة إلى صيام شهر رمضان الذي هو ركن من أركان الإسلام كما جاء في صدر هذه الآيات (كتب عليكم الصيام...) وكما صح في أحاديث نبوية عديدة منها قوله عليه الصلاة والسلام (بني الإسلام على خمس شهادة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع...) والمخاطبون بصيام شهر رمضان هم المؤمنون المكلفون ولذلك افتتحت هذه الآيات بقوله جل من قائل (يا أيها الذين آمنوا...) ذلك انه من موجبات الإيمان ومن مقتضياته وعلاماته ان يؤدي المؤمن ما فرض الله عليه من فرائض هي أفضل ما يتقرب به إلى الله (وما تقرب إلي عبدي بأفضل مما افترضته عليه) وفي آداء هذه الفرائض على وجهها الصحيح الموافق للسنة والخالص لوجه الله الصلاح والفلاح على حد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الذي اقسم ان لا يزيد على المفروضات قال عليه السلام (أفلح صاحبكم إن صدق). والصدق في آداء الأركان والإخلاص فيها أكدت وألحت عليه عديد الأحاديث النبوية سواء كان ذلك في الصلاة أو في الحج أو في الزكاة وفي الصيام حيث يقول عليه الصلاة والسلام (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) وقوله عليه الصلاة والسلام (من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله في تركه طعامه وشرابه). فليس الصيام هو مجرد الامتناع عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، انه ذلك ومعه وإضافة إليه إمساك عن كل ما يغضب الله وما لا يرضيه من قول أو فعل أو حتى الهم والخطرة والإرادة وإن كانت هذه لا تفسد ظاهر الصيام ولكنها تجعله صوما شكليا لا يتحقق المبتغي والمراد منه والذي هو التقوى والخشية لله تبارك وتعالى. والذين كتب الله عليهم الصيام هو المكلفون وهم البالغون العقلاء المعافون المقيمون. فقد فرض الله صيام شهر رمضان على هؤلاء كما فرضه الله وكتبه على الذين من قبلهم من أتباع سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام من اليهود والنصاري وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على وحدة الأديان السماوية من حيث المصدر ومن حيث الغاية والهدف إنها كلها من عند الله الواحد الأحد الفرد الصمد رب الجميع والذي سيقف الجميع بين يديه للحساب. ومباشرة بعد التأكيد على وجوب الصيام وأمر الله به للمؤمنين من المسلمين أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يأتي التفصيل والبيان لهذا الحكم العام مراعيا ظروف المكلفين وأوضاعهم وحالاتهم فقال جل من قائل (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر...) فإباحة الإفطار وإسقاط الصيام على المرضى والمسافرين وقضائهم بعد حصول الشفاء والفراغ من السفر لما فاتهم من صيام هو التجسيم الفعلي للخصوصية الإسلامية المتمثلة في عدم التكليف بما لا يطاق وقد عبرت عن ذلك عديد الآيات القرآنية التي تنطبق على الصيام وعلى غير الصيام من بقية التكاليف والتي تضمنت البعض منها آيات الصيام (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فإضافة إلى هذا التنصيص في ثنايا آيات الصيام قال جل من قائل (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقال في سياق الدعاء (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به). وبين هذه الخاصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله من ذلك قوله (إن الله يحب ان تؤتي رخصة كما يحب ان تؤتي عزائمه) وكان صلى الله عليه وسلم سباقا يعطي المثل من نفسه بإتيان هذه الرخص. أما الذين لا يطيقون الصيام لمرض مزمن أو تقدم سن وهرم فإن على هؤلاء ان يطعموا مسكينا ومن يتطوع فإنه يقدم لنفسه خيرا يجده عند ربه. وينبهنا المولى سبحانه وتعالى إلى ان الصوم خير لنا، هو خير عاجل وخير آجل أما العاجل ففي تلك الراحة البدنية والنفسية التي يلمسها كل صائم ويجد أثرها من جراء الصيام وأماّ الآجل فما أعدّه الله للصائمين من أجر عظيم وثواب كبير عبر عنهما الحديث القدسي أبلغ تعبير حيث يقول المولى سبحانه وتعالى (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به...) ثم يبيّن المولى سبحانه وتعالى ما خص به هذا الشهر المبارك، شهر رمضان المعظم، لقد انزل الله تبارك وتعالى فيه القرآن الذي فيه الرشاد وفيه الصلاح والفلاح وفيه الآيات البيّنات من الهدي والفرقان، ففي ليلة مباركة من هذا الشهر المبارك أنزل الله كتابه العزيز على نبيه الكريم سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام (إنّا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر...) إن رمضان هو شهر الصيام، وهو شهر القرآن هذا الكتاب الخالد والمعجزة الباقية والنور المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي تعهد المولى سبحانه وتعالى بحفظه من كل تحريف وزيادة ونقصان فقال جل من قائل (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون..). فمن شهد من المؤمنين شهر رمضان فكان مقيما غير مسافر ومعافى غير عليل فينبغي عليه أن يبادر بالصيام لا يعذر ولا يقبل منه صرف ولا عدل إن هو انتهك لغير عذر حرمة الصيام. ويبادر المولى سبحانه إلى التعقيب على وجوب الصيام بقوله جل من قائل (ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) حتى تنقطع كل الحجج الواهية والتعلات الكاذبة، فالله تبارك وتعالى هو الأرحم بعباده وهو الأرأف والأشفق فإذا انتفت الأعذار وجب الانضباط والالتزام والمبادرة إلى الفعل والإتيان والامتثال (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) فإذا زال العذر وجب على المؤمن أن يقضي ما فاته ويكمل العدة (عدة الأيام التي أفطرها) وليذكر الله عقب ذلك كما يذكره عقب آدائه لكل طاعة من الطاعات ففي ذلك شيء من الشكر الواجب من العبد لربّه المنعم عليه بالنعم التي لا تحصى ولا تعد. ثم يقول جل من قائل (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون...). لقد جاء التأكيد على هذه الحقيقة العقدية وهي (قرب الله من عباده) والتي علامتها أن يدعو العبد ربه ليستجيب له. ورد ذلك في سياق آيات الصيام وكأن في ذلك إشارة هي أبلغ من صريح العبارة بأن هذا الشهر المبارك شهر الصيام والقيام بالصلاة وبالقرآن هو شهر الدعاء والضراعة إلى الله والطلب منه والمناجاة له، رمضان هو شهر الدعاء الخالص الخاشع الذي ليس بينه وبين الله حجاب، أليس ربنا هو القائل (وقال ربكم أدعوني أستجب لكم)؟ أليس هو القائل (أمن يجيب المضطر إذا دعاه)؟ فرمضان موسم الدعاء والدعاء مخ العبادة، والدعاء سلاح المؤمن، ولا يلهم الله عبدا من عباده الدعاء إلا وقد أعدّ له الإجابة ولا تخرج الإجابة عن التعجيل بها في هذه الدنيا أو صرف البلاء النازل أو ادخار الإجابة إلى يوم القيامة، والدعاء يغلب القضاء فلا يزالان يتصارعان حتى يبلغا عنان السماء فيغلب الدعاء القضاء. وإذا كان الداعي، الواقف بين يدي الله صائما فبخ على بخ، فقد ورد في الحديث الشريف (إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد) وقوله عليه الصلاة السلام (ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة تفتح لها أبواب السماء ويقول بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) رواه الترمذي والنسائي وأحمد و ابن ماجة. ثم تفصل الآيات يعد ذلك ما أحله الله للمؤمنين مما فيه تخفيف عليهم ومراعاة لضعفهم مثل مباشرة نسائهم في الليل وذلك على عكس النهار حيث يحرم على الصائم إتيان زوجته مثلما يحرم عليه الأكل والشرب و ذلك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ومراعاة لضعف الإنسان وعفوا وصفحا وتخفيفا على المؤمنين مع إعلامهم بأنه لا يخفي على الله من أمرهم شيء (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم). ثم أذن الله للمؤمنين بأن يباشروا زوجاتهم إن شاؤوا وان يأكلوا ويشربوا حتى مطلع الفجر (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود). وبطلوع الفجر يجب على الصائم ان يمسك عن الأكل والشرب والمباشرة إلى الليل كما يحرّم الله تبارك وتعالى على الصائمين مباشرة زوجاتهم حال اعتكافهم في المساجد. إن تلك هي حدود الله التي ينبغي الوقوف عندها وعدم تجاوزها وذلك هو ما يبينه الله من آيات للناس لعلهم يتقون ربهم ويخشونه فلا يخالفون أوامره ولا يأتون ما يغضبه مما حرّمه الله عليهم. تلك بعض المعاني التي تضمنتها آيات الصيام والتي لم تشتمل إلا على الأحكام الكلية العامة لهذا الركن العظيم الشأن من أركان الإسلام وقد تكفلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان كل ما جاء مجملا غير مفصل في هذه الآيات.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.