مراحل توثيق النصّ القرآني واجتماع الأمة على مصحف واحد

مراحل توثيق النصّ القرآني واجتماع الأمة على مصحف واحد


يسعد المسلمون في كل ديار الإسلام وخارجها كل عام بعشرة تستمر لشهر كامل مع القرآن الكريم (وذلك في رمضان) فالقرآن الكريم كلام الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بيد يديه ولا من خلفه بعهد من الله سابق حين قال (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقد يسّر الله لهذا الحفظ أسبابه حين قال جل من قائل (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟) فكان هذا القرآن منذ أن نزل به الروح الأمين عليه السلام على قلب سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام والى اليوم والى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين هو، هو، لم يتغيّر ولم يتبدّل: احرفا وكلمات وآيات وسورا وهي خاصية تميز بها القرآن عن كلّ ما سواه من الكتب والصحف المنزلة. ولقد اصطفى الله تبارك وتعالى من شاء من عباده عبر الزمان الطويل والمكان الممتد الأرجاء من تشرفوا بتجسيد هذا الحفظ لكتاب الله العزيز، الحفظ عن ظهر قلب والتحفيظ لمن يريد أن يحفظ كلام الله العزيز، والمحافظة بالجمع والتوثيق وواكب ذلك الكتابة على أيدي من تمحّضوا للقيام بهذه المهمة الجليلة من الصحابة الكرام الذين انتدبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للقيام بهذه المهمة فقاموا بها على أحسن الوجوه وأتمها رضي الله عنهم وأرضاهم. وأمر الحفظ للقرآن عن ظهر قلب لا تزال الشواهد دالة عليه قائمة في كل عصر ومصر والى أيام الناس الحاضرة وذلك دليل قاطع على أن هذا القرآن الكريم هو بحقّ المعجزة الخالدة الدالة على نبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فأعداد الحفاظ لكتاب الله العزيز من العرب الذين نزل القرآن بلغتهم وغير العرب من أبناء الشعوب الإسلامية، هذه الأعداد في تكاثر وهم بالآلاف بل بعشرات الآلاف (وليس في ذلك أدنى مبالغة) الأمر الذي لا نجد له نظيرا ولا شبيها بالنسبة لأي كتاب من الكتب السماوية الأخرى فضلا عما هو دونها من الكتب في النثر والشعر وغيرهما من فنون الأدب. يحفظ القرآن الكريم: الذكور والإناث ويحفظ القرآن الكريم من يحسنون القراءة والكتابة ومن هم أميون، ويحفظ القرآن الكريم الكبار ويحفظه الصغار ممن هم دون العاشرة من أعمارهم وصدق اله العظيم الذي يقول (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحقّ). موثوقية النص القرآني وما نريد أن نتوقف عنده هو موثوقية النص القرآني من ناحية كتابته زمن تنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك جمعه في صحف ثم في مصحف وما مرّ به هذا العمل من مراحل من زمن البعثة المحمدية في فترتيها المكية والمدنية إلى المرحلة التي تلتها في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأجزل مثوبتهم. وإذا كان المؤمن يسلم بأن القرآن الكريم هو كلام الله المنزل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الموجود بين دفتي المصحف فإن تقديم الحجج والبراهين المركزة لهذا الإيمان لا مانع منه بل هو مطلوب ومرغوب فيه اقتداء بنبي الله إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام الذي قال لربه (رب ارني كيف تحي الموتى قال أو لم تؤمن قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي). لا خشية على القرآن من النظر العقلي * فمن هذا المنطلق وإقامة للحجة والبرهان على موثوقية النصّ القرآني خصوصا في زمننا هذا الذي أصبح كل شيء يعاد فيه النظر ويخضع للتحقيق والتمحيص باسم الروح العلمية وباسم المنهجية وتقدم في ذلك دراسات وأبحاث وأطروحات وتعقد من أجل ذلك ندوات وحلقات دراسية حول توثيق النص القرآني وإعادة النظر فيما اعتبر انه ظل لا يمسّ!! * والإسلام كدين ارتضاه الله لعباده وأكمله لهم، والقرآن الكريم كنصّ ديني موحى به من الله لا يخشيان مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل فحجتهما ودليلهما قويان وإذا ما ضعفا فالضعف ليس منهما (من الإسلام ومن القرآن) وإنما هو من أتباعهما الذين لم يتسلحوا بسلاح العلم ولم يستفيدوا مما خص به الله عباده وجعله سبب تكريمهم واستخلافهم وتكليفهم وجعله سببا لتفاضلهم ألا وهو العقل الذي تعددت في القرآن الدعوات الملحة للنظر به ومن خلاله في النفس وفي الآفاق وفي كل ما يحيط بالإنسان بل وفيما نزل عليه من وحي الهي. * ينبغي على المسلمين أن لا يخشوا من دعوات الحوار والجدال إذا كانت بالتي هي أحسن وإذا كانت الغاية منها الاقتناع والوصول إلى الحقيقة ذلك هو قدر المسلمين اليوم وأكثر من أي وقت مضى إذ للعواطف مكانتها ومنزلتها في كل الأديان ولكنها ليست دائما هي سبيل نصرة الحق والإقناع به. * روى النسائي وأبو داود والترمذي عن ابن عباس وعثمان رضي الله عنهم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا انزل عليه شيء منه دعا من كان يكتب فيقول “ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا” وإذا نزلت عليه الآية يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا”. * وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه “كنت اكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يملي عليّ فإذا فرغت قال: اقرأ فاقرأه فإذا كان فيه سقط أقامه ثم أخرج به إلى الناس” رواه الطبراني. كتاب الوحي من الصحابة * وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ كتابا للوحي كانت تتوفر فيهم كل صفات الدقة والثقة والأمانة والكفاءة نذكر منهم "أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد ابن ثابت وأبي ابن كعب ومعاوية بن أبي سفيان وخالد بن الوليد وابان بن سعيد وثابت بن قيس رضي الله عنهم. الصحابة الحفاظ * وكان هنالك حفاظ للقرآن الكريم من المهاجرين ومن الأنصار ومن النساء نذكر منهم الخلفاء الأربعة وطلحة وسعدا وابن مسعود وحذيفة وسالما وأبا هريرة وعبد الله بن السائب وعائشة وحفصة وأم سلمة. * وجاء في فتح الباري أن الخزرج وهم من الأنصار افتخروا بأن منهم أربعة جمعوا القرآن هم أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد“* وفي كتاب”المصاحف" للإمام أبي بكر بن أبي داود عدّ عشرة مصاحف (مصحف عمر بن الخطاب، ومصحف علي بن أبي طالب ومصحف عبد الله بن عباس ومصحف عبد الله بن مسعود ومصحف عبد الله بن الزبير ومصحف عبد الله بن عمرو ومصحف عائشة ومصحف حفصة ومصحف أمّ سلمة). عمر يشير على أبي بكر بجمع الصحف وعندما قتل في محاربة المرتدين زمن خلافة الصديق عدد كبير من الحفاظ منهم (سالم بن معقل وزيد بن الخطاب وثابت بن قيس وحزن بن أبي وهب وأبو دجانه) فزع المسلمون لهذا الخطب الجلل فأشار عمر بن الخطاب على الخليفة أبي بكر بجمع القرآن. * جاء في صحيح البخاري“باب جمع القرآن أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلي أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد اسْتَحَرَّ يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خيْرٌ فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شابٌ عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما امرني به من جمع القرآن. قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله فتتبعتُ القرآن أجمعه من العُسُبِ واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري”لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم“ حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما” * فأبو بكر رضي الله عنه هو أعظم الناس أجرا وهو أول من جمع كتاب الله كما قال الإمام علي رضي الله عنه جاء ذلك في كتاب المصاحف. زيد بن ثابت يجمع القرآن في مصحف واحد في عهد عثمان * وعندما اتسعت الأمصار بانتشار الإسلام أخذ كل بلد القرآن عن من جاءهم من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم فكان أهل الشام يقرؤون بقراءة المقداد بن الأسود وكانت بين هذه القراءات فروق في وجوه القراءة على الأحرف السبعة التي رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة بها. وخشية من اختلاف المسلمين في كتابهم العزيز رفع الأمر إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه. جاء في صحيح البخاري (أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى) وفعلا فقد جاوز الاختلاف المتعلمين إلى المعلمين مما لفت نظر عثمان فقال “انتم لدي تختلفون فمن نأى عني من الأمصار أشدّ خلافا” فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف (قد كانت عندها كما تقدم بيانه) ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد ابن العاص وعبد الرحمان ابن الحارث بن هاشم فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق" رواه البخاري في صحيحه. وقد استمر العمل في نسخ المصاحف مدة خمس سنين من سنة 25 إلى سنة 30 للهجرة. * جاء في كتاب المصاحف قال الإمام أبو بكر بن أبي داود سمعت أبا حاتم السجستاني قال: “لما كتب عثمان المصاحف حين جمع القرآن كتب سبع مصاحف فبعث واحدا إلى مكة وآخر إلى الشام وآخر إلى اليمن وآخر إلى البحرين وآخر إلى البصرة وآخر إلى الكوفة وحبس بالمدينة واحدا” كتاب المصاحف ص43. قال الإمام علي بن أبي طالب: “يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرا في المصاحف وإحراق المصاحف فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإ منا جميعا”. وقال مصعب بن سعد: “أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك ولم ينكر ذلك منهم أحد”.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.