في سبيل تكامل جهود المسلمين في خدمة القرآن الكريم

في سبيل تكامل جهود المسلمين في خدمة القرآن الكريم


القرآن الكريم معجزة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الخالدة كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي تعهد الله بحفظه فقال في محكم التنزيل (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) يقيظ الله له في كل زمان وفي كل مكان من يخدمه ويتحقق به وبمن هو على نهجه العهد الإلهي فيدفع عنه الشبهات ويسفه الافتراءات فينشره بين الناس ويقربهم إليه ويجعلهم يقبلون عليه فينهلون من معينه العذب، قام بهذا الدور عبر العصور وفي كل الأمصار علماء الأمة الأعلام آملين أن يكونوا ممن عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ومظاهر هذا التعلم والتعليم تكون بالتحفيظ وقد يسر الله القرآن للذكر وقال (فهل من مذكر؟) وكان هنالك دائما هذا الصنف من عباد الله المؤمنين الذين انصرفوا إلى حفظ كتاب الله العزيز وذلك داخل ولا شك ضمن معاني المعجزة الخالدة. فحفاظ القرآن هم من كل الفئات ومن كل الأجناس ومن كل الأعمار، إنهم صغار دون سن العاشرة، وأميون لا يحسنون القراءة والكتابة، وهم عرب وأعاجم لا يكادون يفهمون معنى كلمة باللغة العربية حتى إذا طلبت من الواحد منهم أن يقرأ عليك من حفظه ما تيسر انطلق قارئا بلسان عربي فصيح كل القرآن من أوله إلى آخره، أليس في ذلك الدليل القاطع والبرهان الساطع أن هذا القرآن معجزة؟ وانه سيظل محفوظا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ومع كل ذلك فانه هنالك من يحاول أن ينكر هذه الحقائق ويأبى بدعوى المنهجية العلمية والموضوعية والبحث التاريخي البعيد عن الأحكام المسبقة والمسلمات هنالك يخرج من علينا بدراسات وأبحاث وأطروحات في علوم القرآن المختلفة لا هدف لها إلا زعزعة الثوابت وإنكار الحقائق وخلخلتها في الأذهان واحداث البلبلة. وهكذا نشطت في الآونة الأخيرة حركة النشر والإصدار في جزئيات علوم القرآن انطلاقا من تدوين القرآن الذي لم تقبل عقولهم انه كان دقيقا ومحققا ومضبوطا مستبعدين من الاعتبار أي تدخل الهي بتهيئة الأسباب من حيث يسر حفظ النص القرآني بالنسبة لغيره من النصوص بنفس اللغة العربية (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) ومن حيث البيئة التي نزل فيها القرآن باللسان العربي المبين وهي بيئة يحفظ فيها الناس من سماع واحد والى عهد قريب بل والى الآن وسيظل هناك حوالينا من يحفظون من سماع واحد. كذلك لا ينبغي الاستهانة والتهوين من الجهد الكبير الذي بذل في جمع القرآن وتدوينه وهو لا يزال ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوسائل المتاحة وهي لا بأس بها ونهيه عليه الصلاة والسلام عن كتابة غير القرآن حتى لا يختلط به سواه (من كتب عني غير القرآن فليمحه). ولم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وكل القرآن مكتوب فضلا عن انه محفوظ عن ظهر قلب من طرف العديد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمشتغلون الجدد بالقرآن وعلومه لا يكتفون بإلقاء شبهاتهم في مسألة التدوين والتشكيك في سلامتها بل يتجاوزون إلى الكتابة في أسباب النزول وفي المكي والمدني وفي المحكم والمتشابه وفي الناسخ والمنسوخ وفي القراءات والأحرف السبعة فضلا عن إجرائهم للمقارنات بين القرآن والكتب المقدسة السابقة بعهديها القديم والجديد لينتهوا إلى أن القرآن لا يستبعد أن يكون منقولا عنها مأخوذا منها فتراهم يبحثون عن الأصول التوراتية والكتابية للقرآن الكريم إذ أنهم لا يسلمون بأمية سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ولا يستبعد أن لا يكونوا يسلمون بنبوته ورسالته عليه الصلاة والسلام! فالإسلام في نظر هؤلاء شركة هكذا! بين (محمد وخديجة وورقة بن نوفل) وهم في أبحاثهم هذه التي تستغرق مئات الصفحات تتكامل في القيام بها وإنجازها فرق عمل متواصلة عبر البلدان والقارات وتجد الدعم السخي لانجاز أطروحاتها وتنظيم ملتقياتها الدولية في ديار الإسلام وخارجها، وإصدارات هذه الفرق باللغات الإنقليزية والفرنسية وغيرها بما فيها العربية يتوالى نشرها وهي في شكل موسوعات قرآنية ومعاجم للقرآن ومقدمات ضافية لترجمات القرآن فضلا عن إعادة إصدار أعمال مستشرقين كبار كتبوا في تاريخ القرآن وعلومه من أمثال نولدكه صاحب كتاب “تاريخ القرآن” وبلاشير صاحب مقدمة عن القرآن أعدها لترجمته الشهيرة لمعاني القرآن باللغة الفرنسية والتي كرس فيها نشر القرآن حسب ترتيب نزوله لا حسب الترتيب التوقيفي المعروف بالرسم والجمع العثماني نسبة إلى الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه. لا أريد بما ذكرت أن أهول بقدر ما أردت أن أنبه إلى مخاطر هذه الحركة غير البريئة في التأليف والكتابة ممن هب ودب في علوم القرآن وإخراج هذه الكتابات على أنها مسلّمات علمية في منهجية متجردة وموضوعية!! في حين إنها ليس لها من تلك الأوصاف إلا المسميات فهي تنطلق من جزئيات وروايات شاذة وغريبة وفي كثير من الأحيان موضوعة مكذوبة مبثوثة في كتب غير معتمدة هي إلى الأدب والأقاصيص والأخبار اقرب، كما أن هذه الكتابات التي تدعي الأوصاف الآنفة الذكر تعود إلى كتب التاريخ والمغازي والسير وحتى كتب التفسير وشروح الحديث وتخرج ما تريد الانطلاق منه وتضخيمه عن سياقه فتجتثه اجتثاثا ثم تدخله في بحثها العلمي في علوم القرآن!! فتحدث البلبلة والحيرة ويحدث شيئ من الشك والارتياب لدى المسلم في كتابه العزيز القرآن الكريم وهذا هو المقصود والمراد، لقد صرحت بعض هذه الجهات بنواياها وأعلنتها، فإلى متى حسب رأيها تظل هذه الثقة لدى الجمهور العريض من المسلمين في القرآن الكريم؟! والى متى يظل المسلمون مجمعين على قرآن واحد عربا وعجما سنة وشيعة؟! إحداث هذه الزعزعة جاء وقته ففي الساحة العلمية الإسلامية فراغ لا ينكر فقد قل بين المسلمين العلماء الأعلام على الأقل على مستوى العدد وحتى إذا ما رأيت في ديار الإسلام يقظة وعودة إلى الدين وذلك واقع فإنها تفتقر إلى من يرشد خطاها من العلماء الأعلام فقد غلب المظهر على اللب والجوهر وهما العلم والفقه في الدين بالمعنى الشامل الكامل (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) وهو ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فقال رضي الله عنه معددا فضل الله عليه (ما من آية من كتاب الله إلا أنا اعلم متى نزلت؟ وأين نزلت؟ وفيمن نزلت؟) وقد عد ابن عباس رضي الله عنهما وتفسيره العمدة والمرجع الذي يعود إليه كل من يروم العلم بكتاب الله ومراد الله من كلامه. إن هذه الحركة المتنامية في الكتابة في علوم القرآن تحتاج إلى مواكبة ومتابعة واطلاع على مضامينها والنتائج التي تنتهي إليها وهي في كثير من الأحيان خطيرة جدا لأنها تستهدف مقدسا عزيزا على كل مؤمن هو ركيزة الدين وحجر زاويته والضامن لبقائه ففي الحديث الشريف (أن القرآن بمعنى حفظه والعلم الصحيح به (يرفع قبل قيام الساعة). وهذه المتابعة لما يكتب في علوم القرآن لا ينبغي الاقتصار فيها على ما يكتب باللغة العربية بل لا بد أن يتابع ما يكتب في علوم القرآن باللغات الأجنبية الإنقليزية والفرنسية والألمانية وغيرها وهو كثير جدا عميق جدا في مضامينه تعده فرق مختصة وتسهر على انجازه مراكز بحثية وجامعية عتيدة وتنفق عليه الأموال الطائلة ويأخذ هذا العمل وقته الكافي فلا سبيل إلى التسرع والعجلة لأن المراد والمطلوب كبير!! السؤال الذي يفرض نفسه هو ماذا فعلنا معاشر المسلمين علماء وهيئات وجامعات ومراكز بحث وهيئات؟! لا أقول إننا لم نفعل شيئا لكننا عملنا في هذا المجال وفي غيره يحتاج إلى التكثيف والزيادة ويحتاج إلى المزيد من التنسيق فيما بيننا في مختلف بلداننا وعلى مختلف مذاهبنا ونحتاج إلى المزيد من التكامل والاستفادة من خبراتنا وطاقاتنا المادية والبشرية وهي كبيرة وكبيرة جدا. والحمد لله نحن اليوم في زمان وسائل التواصل فيه متاحة وميسورة جدا إذا ما استفدنا منها فسنأتي بالعجب العجاب لأننا بذلك نكون قد جمعنا بين الحسنيين فالموروث كبير وعظيم بكل المقاييس كما وكيفا ونوعية والتقبل والحمد لله كبير جدا لأن الحق -والقرآن حق من عند الحق- هيّأ له الله كل أسباب الترسخ وهي بادية جلية تتمثل في هذه العناية بالقرآن في كل ديار الإسلام: تحفيظا وتسابقا بين الحفاظ لنيل ارفع المكارم والجوائز ففي تونس مسابقة دولية للقرآن الكريم وفي مكة مثلها وكذلك في طرابلس وفي الجزائر وفي الرباط وفي عمان وفي دمشق وفي طهران وفي جاكرتا وفي كوالمبور وفي دبي وفي غيرها وغيرها من العواصم العربية والإسلامية، والقرآن الكريم يقرأ على مدار الساعة في جامع الزيتونة وفي جامع عقبة وهناك في مهبط الوحي بجوار بيت الله الحرام وفي المسجد النبوي في المدينة المنورة حيث شيّد مجمع لطباعة المصحف الشريف يصدر ملايين النسخ من القرآن الكريم وعشرات الترجمات لمعانيه بمختلف اللغات الأجنبية ولغات الشعوب الإسلامية في طبعات محققة مدققة أنيقة توزع على المسلمين أينما كانوا وللمجمع أنشطة أخرى منها الندوات العلمية التي عقدها في السنوات الماضية حول القرآن وترجماته وحول أعمال المستشرقين في هذا المجال وكل ذلك أصدره المجمع في طبعات أنيقة وقد وضعت بعض هذه الأعمال على موقع المجمع في الأنترنات تعميما للفائدة، وللمجمع مجلة هي مجلة البحوث والدراسات القرآنية وهي مجلة محكمة متخصصة في القرآن الكريم وعلومه تصدر مرتين سنويا. ومن الأعمال الهامة التي أصدرها المجمع أخيرا كتاب (الإتقان في علوم القرآن) للحافظ أبي الفضل جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة 911هـ وهو كتاب جليل في بابه جاء في سبعة أجزاء جمعت بين التحقيق والتدقيق والفهرسة ليكون حجة بين يدي من يردون على شبهات المتقولين على القرآن الكريم الذين ازدادت أعدادهم في الآونة الأخيرة. يقول معالي الدكتور صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد المشرف العام على المجمع (وتوجهت أنظار الإدارة (المجمع) إلى اختيار كتاب الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ وهو “الإتقان في علوم القرآن” الذي أفاد من الحركة العلمية التي سبقته وصار مرجعا رئيسيا لكل من أراد البحث في أنواع علوم القرآن إذ بلغت فيه ثمانون نوعا ولم يحظ بطبعة علمية متقنة نهض المركز للقيام بهذه المهمة وشرع في جمع نسخه المخطوطة المتفرقة في المكتبات العالمية ووضع خطة علمية جادة لتحقيقه وخدمة نصه وتخريج شواهده وأفاد من منهج المحدثين في الحكم على الأحاديث والآثار الواردة فيه). وقدمت الأمانة العامة للمجمع العمل بقلم أمينه العام الأستاذ الدكتور محمد سالم بن شديد العوفي وقد جاء هذا الكتاب الموسوعة في علوم القرآن في نشرته هذه المحققة المدققة ليسد فراغا كبيرا وييسر على الباحثين الوصول إلى المعلومة الصحيحة المحققة. وهو عمل يذكر فيشكر فجزى الله القائمين على المجمع والمشرفين عليه خير الجزاء وفي مثل هذه الأعمال الصالحة النافعة فليتنافس المتنافسون خدمة لكتاب الله العزيز وحفاظا عليه وردا قويا مقنعا على من يحاولون النيل منه.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.