في رحاب القرآن: تفسير سورة “البينة”: الجزاء من جنس العمل
بسم الله الرحمان الرحيم يقول الله تعالى “لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة، إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه”. صدق الله العظيم سورة “لم يكن” من السور المكية على قول يحي بن سلام وهي سورة مدنية في قول ابن عباس رضي الله عنهما والجمهور. روى انس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كعب أن الله أمرني أن اقرأ عليك “لم يكن الذين كفروا” قال: وسماني لك؟ قال نعم فبكى. وفي هذا الحديث عبر ومواعظ عدة منها تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليمه لأصحابه لهذه القيمة الأخلاقية النبيلة حتى لا يترفع احد بعد ذلك عن اخذ العلم وطلبه ممن هو دونه. وفي هذا الحديث تنويه بما لهذا الصحابي الجليل (أبيّ بن كعب) من منزلة رفيعة فالله تبارك وتعالى أمر رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام أن يقرأ على أبيّ سورة “لم يكن” ولا يخفى ما في ذلك من الخصوصية لهذا الصحابي الجليل يقول القرطبي في تفسيره لهذه السورة (لأن أبيا كان أسرع أخذا لألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ويقرا كما سمع منه ويعلم غيره). وفي هذا الحديث بيان لما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزلة عالية رفيعة فأبيّ بن كعب يذكره الله لنبيه وياله من شرف أثيل، ومن شدة فرحة أبيّ لهذا الشرف الذي ناله (سماه الله لرسوله) بكى سرورا بهذه المنة الإلهية وهذه الخصوصية التي ليس فوقها خصوصية، الله الله في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم نجوم في سماء الأمة ينيرون السبيل ويخلفون في الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير خلافة، لقد اختارهم الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ولا يطمع احد من الأمة أن يبلغ درجتهم العالية (الله الله في أصحابي لو انفق أحدكم ملأ الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) لم يكن النصارى واليهود ولم يكن المشركون من أهل مكة لينتهوا عن كفرهم وضلالهم حتى تأتيهم البينة وهي الهداية برسول الله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ببعثته بدين الإسلام، وأهل الكتاب (يهودا ونصارى) لم يبقوا على ما جاءهم به سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام بل كفرت اليهود والنصارى فالنصارى قالوا بالتثليث واليهود قالوا بالتشبيه وكفروا بنبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. والبينة هنا هي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تلا عليهم صحفا مطهرة قال ابن عباس رضي الله عنهما: مطهرة من الكذب والشبهات والكفر. * (فيها كتب قيمة) أي مستقيمة مستوية محكمة. * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة)، فأهل الكتاب من يهود ونصارى رغم أنهم على علم ببعثة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في كتبهم ومع ذلك فقد جحدوا وأنكروا نبوته عليه الصلاة والسلام عندما بعث بالدين الخاتم دين الإسلام. وهل أمرهم ربهم في ما جاء به سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بغير عبادة الله وحده؟ فهو مستحق العبادة وحده إذ هو الخالق البارئ لقد خلق عباده لعبادته (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) يعبدوه بإخلاص لأنه سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم. حنفاء على الملة الإبراهمية أي على دين إبراهيم وان يقيموا الصلاة كما أمر بها الله مستوفية لشروط صحتها في حدودها وأوقاتها وخالصة لوجه الله ويعطوا زكاة أموالهم فذلك هو الدين المستقيم (دين القيّمة). * (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية) إن من كفر بالله من أهل الكتاب وإن المشركين هم شر الناس لقد تنكروا لما منّ به الله عليهم وما وهبهم فكفروا وحادوا عن الطريق القويم والصراط المستقيم والمحجة البيضاء التي هي التوحيد لله وعبادته فهؤلاء لا يظلمهم ربهم عندما يسلط عليهم في الآخرة شديد العقاب والعذاب فحجته عليهم بالغة (لله الحجة البالغة) لقد أرسل إليهم الرسل وانزل عليهم الكتب وختم الأديان والرسالات بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الذي بلغهم ما أرسل به من دين حنيف ومع ذلك أبوا إلا أن يكفروا بالله فهؤلاء جزاؤهم جهنم وبئس المصير يخلدون في النار. * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه). انه العدل الإلهي فالذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات على إطلاقها دون تقييد من عبادات ومعاملات وأخلاق وسائر التصرفات الحسنة هؤلاء هم خير البرية خير الناس وأفضلهم إنهم أفضل ممن كفر وتنكب الجادة جزاء هؤلاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن يدخلهم ربهم بوم القيامة جنات عدن (في وسط الجنة) أن هذه الجنة تجري من تحتها أنهار يخلد فيها المؤمنون أبدا، رضي الله عنهم أي رضي أعمالهم كما قال ابن عباس رضي الله عنهم ورضوا عنه هم بثواب الله عز وجل. ذلك أي الجنة (لمن خشي ربه) لمن خاف الله وانتهى عن معصيته.
