فتح أبواب التوبة والإنابة من علامات حب الله لعباده

فتح أبواب التوبة والإنابة من علامات حب الله لعباده


تحبيب الله لعباده إنما يتحقق بتعريفهم بنعمه الظاهرة والباطنة وما يُحيطهم به من عناية ورعاية وما يبدو لكلّ ذي بصيرة من تسخير لما في الكون من أجل إسعاد الانسان وجعل حياته تكون على أحسن الأحوال، كما يتحقق هذا التحبيب وإبداء المزيد من التعلق من العباد بربهم بتبشيرهم بما أكده لهم من جزيل الثواب والتنعيم وما وعدهم به – وهو الذي لا يُخلف الميعاد- من رحمة واسعة وفتح لأبواب التوبة والإنابة على مصراعيها والغفران للذنوب والسيّئات ومحاربة اليأس والقنوط اللذين لا يجتمعان مع الايمان وصدق الله العظيم الذي يقول في كتابه العزيز (انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون) سورة يوسف87 فكل الذنوب والخطايا ما لم تصل الى درجة الكُفر بالله والشرك به سُبحانه وتعالى – قابلة للعفو والصفح والغفران وحتى الكفر والشرك إذا حلّ محلّهما الايمان بالله فإن الاسلام يجب ما قبله والعبرة بالخاتمة فإذا كانت حسنة فمآل من غادر عليها الدنيا هو الجنّة ونعيمها. وقد صوّر أجلى تصوير هذا التركيز من الاسلام على حسن الخاتمة أو سوئها الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يُصبح بينها وبينه إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة وان أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يُصبح بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار) ومثل هذا الحديث يجعل المسلم دائم العمل متواصل الحذر لا ييأس ولا يقنط ولكنه ايضا لا يأمن فيتواكل وما دمنا نريد أن نركّز على سعة رحمة الله ولطفه بعباده فلا بدّ أن نقف عند العديد من الآيات والأحاديث التي تواترت وتلاحقت مبشرة بهذه الرحمة يقول جل من قائل (قُل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) الزمر ويقول (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء116، ويقول (ورحمتي وسعت كل شيء) الأعراف 156. وهنالك آيات قرآنية أخرى دخلت عمليا في مجال التجسيم الفعلي للرحمة الإلهية وذلك بالتطرق الى موضوع التوبة والإنابة منها قوله جل من قائل (ان الله يُحب التوابين ويُحبّ المتطهّرين) البقرة، ولا شكّ ان التعبير عن التوبة في هذه الآية بصيغة المبالغة يوحي بأن الله تبارك وتعالى يُحبّ من عبده أن يُجدد التوبة والإنابة الى الله كُلّما اقترف ذنبا أو ارتكب معصية، فالتوبة في الاسلام توبات متلاحقة دون ان يعني ذلك تلاعُبًا بهذه القيمة العظيمة أو تساهُلا فيها. وهي نظرة واقعية للانسان من خالقه تقدر في الانسان ضعفه وامكانية ورود الخطأ منه إذ الكمال لله وحده والعصمة للأنبياء والرسل الذين يصطفيهم الله تبارك وتعالى ويختارهم لهداية عباده الى الصراط المستقيم ويجعلهم في أعلى مراتب الكمال الانساني ليكونوا قدوة وأسوة لغيرهم من الناس، في مأمن من غواية الشيطان وجنوده وفي أرقى درجات السموّ الأخلاقي والسلوكيّ، لا تصدر عنهم ومنهم نقيصة مُشينة ومن هم دون النبوّة والرسالة فامكانية الخطأ واردة منهم في كلّ لحظة، والمطلوب منهم أن لا يُصروا على ما فعلوا وأن يُنيبوا الى ربّهم وأن يستغفروه ليغفر لهم وهو القائل (وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى) طه82، وحتى في هذه الآية ورد الغُفران الإلهي بصيغة المبالغة الموحية باتساع غفران الله ليشمل الكبائر والصغائر من الذنوب والمعاصي والاستغفار هو طلب المغفرة والتجاوز من الله سُبحانه وتعالى هو السمة المميزة لعباد الله المُتقين وعلى رأسهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام الذين لا يستغفرون الله من ذنوب أو معاص ارتكبوها وإنما يستغفرونه طلبا للحضور الدائم مع الله تبارك وتعالى وعدم الاشتغال بسواه وذلك هو ما يتناسب مع رُتبهم الرفيعة ومكانتهم المتميّزة والقريبة من الله الذي اصطفاهم من بين عباده ومخلوقاته. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) وفي ذلك دعوة للمُسلم كي لا يغفل عن طلب الغُفران باستمرار من ربه الغفور الرحيم الذي ينتظر من عبده أن يتوجّه إليه ليكون توجه المولى سبحانه وتعالى إليه أسرع، ألم يقل في الحديث القدسي (إذا تقرّب إليّ عبدي شبرا تقرّبت اليه ذراعا وإذا تقرّب إلي ذراعا تقربت منه باعا وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) واستعمال الشبر والذراع والباع والمشي والهرولة إنما هو لتقريب الأفهام وليبين به المولى سبحانه وتعالى مدى إقباله الكبير على عبده التائب المُنيب ويُعبّر الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفس المعنى بحديث آخر يصوّر به شدّة فرحة المولى سُبحانه وتعالى بتوبة عبده المؤمن حيث يشبه فرحته بفرحة عبد كان في صحراء وفقد راحلته التي كان عليها زاده وماؤه فأخذ في البحث عنها ولكن دون جدوى وعندما يئس جاء الى المكان الذي فقدها فيه ونام فلما استيقظ وجد راحلته وعليها ماؤه وزاده وكانت فرحته لا تُوصف الى درجة أنه قال: اللهم لك الحمد أنت عبدي وأنا ربّك ! (قال ذلك خطأ من شدة الفرحة) يُخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام ان المولى سُبحانه وتعالى أشدّ فرحة بتوبة عبده المؤمن من فرحة صاحب هذه الراحلة براحلته. ولا ينبغي أن يتطرق إلى أذهاننا أن هذه الفرحة من الله بتوبة عبده المُؤمن تعود إلى حاجة أو افتقار فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فهو الذي لا تزيد في مُلكه طاعات المُطيعين ولا تُنقص من ملكه معاصي العُصاة ولكنه سبحانه وتعالى يحب لعباده الطاعة ويكره لهم المعصية والظلم لأنفسهم. فالظلم في الإسلام حرام وهو ظُلمات، وهو درجات، أعلاها الشرك بالله يقول جلّ من قائل (إن الشرك لظلم عظيم) العنكبوت، وهو الذنب الذي لا يُغفر (إن الله لا يُغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء48. وهناك الظلم للغير وهو حرام وغير قابل للغفران إلا أن يعفُو المظلوم يقول الله في الحديث القُدسي (يا عبادي إني حرّمت الظُلم على نفسي وجعلته بينكم حرام فلا تظالموا) وقد توعد المولى سُبحانه وتعالى الظالمين حيث يقول يوم القيامة (أين الظلمة وأعوان الظلمة فيُحشرون كالذرّ) والركون إلى الظلمة وإعانتهم منهيٌ عنه وهو مُسبّبٌ لمسّ النار (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) هود113. ولأجل ذلك فإن الظلم لعباد الله سبيل غفرانه ومحوه إنما يكون بإرجاع الحقوق لأصحابها المظلومين أو طلب العفو أو الصفح منهم فإذا لم يقع ذلك في الدنيا وقبل الرحيل عنها فإن الله سبحانه وتعالى يُمكّن كل مظلوم من الاقتصاص من ظالمه وهو سبحانه وتعالى يقتصّ من الشاة القرناء للشاة التي لا قرنان لها. أما النوع الثالث من الظلم فهو ظلم الانسان لنفسه بدفعها إلى التقصير في القيام بواجبات أو ارتكاب معاص وذنوب. فالتقصير في أداء الواجبات هو ظلم للنفس التي ألهمها الله فُجورها وتقواها والتي خلقها الله على الفطرة والطهارة والنقاوة والاستقامة (يولد الولد على الفطرة)، (فطرة الله التي فطر الناس عليها) الروم30، وأي انحراف عن هذه الفطرة هو ظُلم للنفس فإذا بلغ إلى درجة الشرك فهو لا يُغفر أما إذا كان دون ذلك، فعلاجه إن كان في مجال التقصير في أداء الواجبات نحو الخالق سبحانه وتعالى فيكون بالمبادرة إلى القيام بتلك الواجبات التي سماها الله تبارك وتعالى بالعبادة حيث يقول جلّ من قائل (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون) الذاريات56، وهذه العبادات هي حقّ الله على عباده ولا بُدّ لهم أن يُؤدوا هذه الواجبات وقضاء ما فات منها حسب الطاقة والإمكان. أما إذا كان الظلم للنفس بارتكاب المعاصي والذنوب وإتيان الخبائث فإن التوبة إنما تكون بالإقلاع عن ارتكاب هذه المعاصي والابتعاد عنها والندم على ما ارتكبه العاصي من ذُنوب. ولقد أرسل الله نبيّه سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلم بدين الرحمة حيث قال جل من قائل (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء 107، وخص الله سُبحانه وتعالى المؤمنين بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم رحمة اختصّهم بها حيث يقول جلّ من قائل (لقد جاءكم رسول من أنفُسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة 127، ومن مظاهر هذه الرحمة والرأفة هذا الإمهال وعدم التعجيل بالعقاب في الدنيا لمن يكفر بالله أو يعصيه وقد كان في الأمم السابقة من يُمسخون ويُزلزلون وتُكتب معاصيهم على جدران بُيوتهم ولا تُقبل توبة التائب منهم إلا أن يقتص من العُضو الذي عصا به ربّه، وكل ذلك ببعثه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد زال وأمهل العصاة لعلهم يتوبون وينيبون فإذا تابوا وهمّوا بالحسنة تكتب لهم حسنة فإذا فعلوها تُكتب لهم عشر حسنات وبعد التوبة النصوح التي لا عزم معها على العودة إلى المعصية تبدّل سيّئات ما قبل التوبة إلى حسنات. أما إذا همّ المُؤمن بالمعصية فإنه لا تُكتب له إلا إذا فعلها فإذا فعلها تكتب سيئة واحدة فإذا أتبعها العبد بحسنة تذهب السيّئة في حين ان السيّئة لا تمحو الحسنة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبشّرًا أمته بهذه المكرمة الإلهية في وصيّة يوصي بها أبا ذر رضي الله عنه (اتق الله حيثما كُنت وأتبع السيّئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخُلُق حسن) والمادة في هذا المجال غزيرة لا يُمكن الإتيان عليها ، وقد أردنا أن نتحدّث عن التوبة والغُفران . فقد هيّأ الله سبحانه وتعالى لعباده –رحمة بهم- فرصا متعدّدة ومتلاحقة للتوبة والإنابة: فجعل الصلاة إلى الصلاة كفّارة لما بينهما والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحجّ إلى الحجّ كفارة لما بينهما ،ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما، جعل الله سُبحانه وتعالى شهر رمضان شهر توبة وغفران ففيه تُصفد الشياطين وتطلق الملائكة لتحفّ المؤمنين وتغمرهم السكينة، ويفتح الله تبارك وتعالى فيه أبواب الجنة ويغلق أبواب جهنّم وقد أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على دعاء جبريل عليه السلام الذي قال (بُعدا عن الجنة لمن أحياه الله إلى رمضان ولم يُغفر له) ولا شكّ أن رمضان موسم يتهيّأ كل عام لعباد الله حتى يتزوّدوا بخير زاد ويُقلعوا عن الذنوب والمعاصي كل ذلك فضلا عما يُتيحه الله لمُذنب النهار كي يتوب في الليل ومُذنب الليل كي يتوب في النهار، وتجليه سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من كلّ ليلة وندائه لعباده (هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مُستغفر فأغفر له؟ هل من طالب إلى حاجة فأعطيه؟) فاللهم اننا لم نأت الذنوب جرأة منا عليك ولكن غلبتنا انفسنا فعصيناك أغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ويا من أمرتنا بالاستغفار ها نحن نستغفرك وننيب إليك مُتمثّلين بقول عبدك الصالح لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين،لا تحرمنا يا ربّنا عفوك وغفرانك وتجاوزك وما فتحته لعبادك المتقين من فرص التوبة والإنابة إنك سميع مُجيب رؤوف رحيم وصلّ اللهم على نبيك وحبيبك وصفيّك من خلقك سيّدنا محمّد وسلّم تسليمًا كثيرًا.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.