رسالة الإسلام كما عرضها جعفر بن أبي طالب بين يدي النجاشي (ملك الحبشة)

رسالة الإسلام كما عرضها جعفر بن أبي طالب بين يدي النجاشي (ملك الحبشة)


مهما كانت طاقة التحمل للأذى الذي سلطه كفار قريش على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرة فإنها تبقى دائما محدودة ولا بد من البحث لهؤلاء المضطهدين عن مخرج ولن يكون المفكر فيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤلمه شديد الألم ما يرى عليه أصحابه. وكيف لا تكون مشاعره عليه الصلاة والسلام كذلك وهو الموصوف في القرآن الكريم بالرأفة والرحمة بالمؤمنين حيث قال جل من قائل (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم وبالمؤمنين رؤوف رحيم). وكان لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التخطيط وإحكام اختيار المكان الذي سيهاجر إليه أصحابه حتى يجعلهم في مأمن من أذى قريش وملاحقتها. * قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه وانه لا يقدر أن يمنعهم من البلاء قال لهم “لو خرجتم إلى الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده احد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما انتم فيه”. والذي يستوقفنا في هذا النص أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلك يختلف عن أصحابه في الصبر والتحمل وفي المكانة من المجتمع. فقريش مهما تطاولت ومهما حاولت إلحاق الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها لن تصل إلى مرادها وذلك باعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعصمه من الناس ربه سبحانه وتعالى (والله يعصمك من الناس) ثم إن في قريش بقية من عرف وتقاليد تمنعها “وأبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد من سادة قريش موجود” من أن تصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن هذه الحماية والرعاية لا تتجاوزانه عليه الصلاة والسلام إلى المؤمنين به وهذا ما وقع فعلا فقد آذتهم قريش وعذبتهم وهذا ما رآه الخاص والعام وما لا يمكن أن يتحمل استمراره رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هنا جاء قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه “لو خرجتم إلى الحبشة...” فقد اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المكان الذي سيهاجرون إليه ألا هو الحبشة من أرض إفريقيا. وبذلك حصل الوصل المبكر بين أرض الجزيرة مهبط الوحي وأرض إفريقيا وبلاد الحبشة بالخصوص وعلل رسول الله صلى الله عليه وسلم للإقناع وحصول الاطمئنان لدى أصحابه لهذا الاختيار بان (في بلاد الحبشة ملكا لا يظلم عنده احد) وهي شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ملك من ملوك زمانه وقد كانوا كثرا على اليمين وعلى الشمال ولكن الذي استحق من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الشهادة والتزكية إنما هو ملك الحبشة فقط دون سواه من الملوك. * فلملك الحبشة خصلة ألا وهي رفضه للظلم وهو بهذه الخصلة يلتقي مع الإسلام الذي اعتبر الظلم ظلمات يوم القيامة وهو درجات. وسنتبين فيما يأتي أن هذا الملك كان حقيقة عند حسن ظن رسول الله به. * ثم أضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم تزكية أخرى تجاوزت شخص هذا الملك العادل إلى بلاده الحبشة ومن ورائها إفريقيا حيث قال عليه الصلاة والسلام (وهي أرض صدق). * وهذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ارض الحبشة من إفريقيا هي بمثابة التوصية التي لا مبرر لتقييدها بزمانه هو عليه الصلاة والسلام ما دام لم يرد ما يوجب تقييدها. * فالتواصل ينبغي أن يظل قائما بين إتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأهل إفريقيا وقارتهم إذ المسلمون أهل صدق وأفريقيا (الحبشة) أرض صدق. * قال موسى بن عقبة: وخرج جعفر بن أبي طالب وأصحابه فرارا بدينهم إلى الحبشة فبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة وأمرتهما أن يسرعا ففعلا واهديا للنجاشي (ملك الحبشة) فرسا وجبة ديباج وأهديا لعظماء الحبشة هدايا، فقبل النجاشي واجلس عمرو على سريره فقال: إن بأرضك رجالا منا سفهاء ليسوا على دينك ولا ديننا فادفعهم إلينا. فقال (النجاشي) حتى أكلمهم وأعلم على أي شيء هم. فقال عمرو: هم أصحاب الرجل الذي خرج فينا وإنهم لا يشهدون أن عيسى ابن الله ولا يسجدون لك إذا دخلوا. فأرسل النجاشي إلى جعفر وأصحابه فلم يسجد له جعفر ولا أصحابه وحيوه بالسلام. قال عمرو: ألم نخبرك بخبر القوم. فقال النجاشي : حدثوني أيها الرهط ما لكم لا تحيونني كما يحييني من أتاني من قومكم واخبروني ما تقولون في عيسى وما دينكم؟ * أنصارى انتم؟ قالوا: لا قال: أفيهود انتم؟ قالوا: لا قال: فعلى دين قومكم؟ قالوا: لا قال: فما دينكم؟ قالوا: الإسلام قال: وما الإسلام؟ قالوا: نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا قال: ومن جاءكم بهذا؟ قالوا: جاءنا به رجل منا قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله كما بعث الرسل إلى من كان قبلنا فامرنا بالبر والصدقة والوفاء والأمانة ونهانا أن نعبد الأوثان وأمرنا أن نعبد الله فصدقناه وعرفنا كلام الله فعادانا قومنا وعادوه وكذبوه وارادونا على عبادة الأصنام ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا. قال النجاشي: والله إن خرج هذا الأمر إلا من المشكاة التي خرج منها أمر عيسى. قالوا: وأما التحية فرسولنا اخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام فحييناك بها وأما عيسى فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم روح منه وابن العذراء البتول. خفض النجاشي يده إلى الأرض وأخذ عودا فقال: والله ما حاد ابن مريم عن هذا وزن هذا العود. فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت هذا الحبشة لتخلعنك. فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا، وما أطاع الله الناس في حين رد إلى ملكي فأنا أطيع الناس في دين الله! معاذ الله من ذلك! وفي رواية أخرى قال النجاشي: وهل معك مما جاء به من عند الله من شيء؟ قال جعفر: نعم وقرأ عليه صدرا من “كهيعص” فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما ولا يكاد. وقد أوردت هنا النص الذي توجد له روايات أخرى نظرا لما يحتويه من معان وقيم ودروس وعبر نذكر منها: * أن الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون أميرا على المهاجرين إلى الحبشة هو جعفر بن أبي طالب الملقب بجعفر الطيار وهو رجل من خيرة أبناء أبي طالب: شجاعة واقداما وفدائية وعمق إيمان كما انه أحد فرسان البلاغة والخطابة مما يتناسب مع ما يمكن أن يعترض سبيل هذه الهجرة من صعوبات وعراقيل. وهذا ما وقع فعلا إذ أرسلت قريش ممن يرد هؤلاء (الهاربين) واختارت لهذه المهمة عمرو ابن العاص وهو من هو دهاء وقدرة على المناورة. وقد بدأت المناورة فعلا بالهدايا التي قدمت للنجاشي وحاشيته حتى بلغ بذلك إلى درجة أن قربه النجاشي وأجلسه على سريره. وبدأ عمرو بإيغار صدر النجاشي فقال في هؤلاء المهاجرين بأنهم سفهاء وأنهم ليسوا على دين النجاشي ولا على دين قومهم ولكن النجاشي هذا الملك الذي لا يظلم عنده أحد أبى إلا أن يسمع منهم ومع ذلك فإن عمرو أوغل في الإيغار، فقال: إن هؤلاء الفارين لا يؤمنون بأن عيسى هو ابن الله ولا يسجدون لك إذا دخلوا. وفعلا فإن إتباع محمد صلى الله عليه وسلم يعتقدون أن عيسى هو عبد الله ورسوله وأنهم لا يسجدون إلا لله. ودخل جعفر وصحبه على النجاشي وكان أول ما سألهم عنه هو لماذا لم يسجدوا مثلما يفعل الداخلون عليه وماذا يقولون في عيسى وما هو دينهم؟ فأجاب جعفر وأحسن الجواب بدون تلكؤ أو تردد أو تلعثم ودون زيادة أو نقصان وعرض معالم الدين الذي آمن به هو وأصحابه فأحسن العرض ثم تلا للنجاشي من القرآن الكريم حول عيسى وأمه عليهما السلام مما جعل النجاشي يعلن التطابق الكامل بين ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به عيسى وأن ما اخبر به محمد عليه الصلاة والسلام هو الحق الذي به يؤمن النجاشي ويلاقي عليه ربه غير آبه بتحذير من حوله مؤثرا الحق ورضا الله عن رضا الناس. ثم رد النجاشي مبعوثي قريش بيد فارغة واخرى لا شيء فيها وأحسن وفادة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واكرمهم أحسن إكرام. * وبذلك يكون النجاشي كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ملكا عادلا لا يظلم عنده أحد وتكون الحبشة من إفريقيا أرض صدق إلى يوم القيامة. * وتتجلى مرة أخرى مدى حكمة وحنكة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدرته على التخطيط والاختيار للرجال والمواقع سنده في ذلك طبيعة الحال عظمة الدين الذي بعثه به الله تبارك وتعالى للناس أجمعين: دين عدل وإنسانية مع الحق والخير والأخيار مهما نأت بهم الديار.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.