دور الخطاب الديني في نشر قيم الخير والحوار والتسامح (1)

دور الخطاب الديني في نشر قيم الخير والحوار والتسامح (1)


ازداد في الآونة الأخيرة الاهتمام بالخطاب الديني وتعددت في هذا المجال البحوث والدراسات التي كتبها مختصون وغير مختصين ومسلمون وأجانب، كما انعقدت مؤتمرات وندوات كان محورها الخطاب الديني هنا وهناك شارك فيها مختصون وساسة ورجال فكر واعلام، وليس أمر الاهتمام بالخطاب الديني مستغربا ولا هو من باب الترف الفكري والعمل الثانوي ذلك أن الدين الذي ظن في منتصف القرن الماضي أن شمسه قد غربت وانه أفيون ومخدر تنامى حضوره ليبلغ أوجه في التسعينات من القرن الماضي وأوائل القرن الحادي والعشرين. وليست هذه الظاهرة بالخاصة بدين دون بقية الأديان بل هي ظاهرة عامة شملت كل الأديان تقريبا السماوية وحتى الوضعية وما ذلك إلا لان الإنسان بفطرته فيه ما لا يسده إلا عطاء الدين ولا يغذيه إلا هو فإذا إنخرم التوازن بدت الحاجة بل اشتدت واستحال أن يغني عنها سواها مما ظن انه يمكن أن يحل محل الدين، وقد صدقت الأيام والوقائع المقولة التي تنسب للمفكر الفرنسي أندري مالرو (إن القرن الحادي والعشرين اما أن يكون غيبيا أو لا يكون) وعوض أن تكون العودة إلى الدين عودة طبيعية متوازنة عقلانية وبناءة فإن أخلالا عديدة بدت جلية واضحة في هذه العودة إلى الدين ترتبت عنها في كثير من الأحيان تصرفات لا تمت إلى الدين -أي دين كان- بصلة، لان الدين في جوهره ومقصده وغايته لا يمكن إلا أن يكون رحمة وإسعادا لمعتنقه والمؤمن به ولمن يحيطون به سواء من يقاسمونه الدين أم أولئك الذين هم إتباع أديان أخرى. ولا نريد أن نستعرض ما عاشته اغلب المجتمعات المتقدمة أو التي دونها في مستوى العيش من أحداث فلقد اكتوت جميعها بنار التعصب والتزمت والتطرف والإرهاب، نعم بتفاوت ولكن لم يبق من هو بمنأى من هذا الخطر الذي لم يفرق بين البريء والمذنب ولا بين الصغير والكبير ولا بين الذكر والأنثى وذهب ضحيته المئات بل الآلاف من الأنفس البشرية البريئة وسالت أودية من الدماء ودمعت أعين النساء الثكالى حزنا وحسرة على فلذات أكبادهن الرضع وأبنائهن الذين هم في ريعان الشباب. لقد دمر الإرهاب المقيت المباني الفخمة العتيدة ولم تسلم منه حتى أماكن العبادة التي يأوي إليها المؤمنون طلبا للأمن والطمأنينة والسكينة. واستلزم استفحال هذه الظاهرة أن يتنادى الجميع لدراسة الأمر عن كثب والتعرف على أسبابه ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه وتلافي ما يمكن تلافيه ولم يتأخر عن التفكير في هذا الأمر كل من له به صلة من قريب أو من بعيد وتفاوتت في العمق وموافقة الصواب الرؤى وذهب البعض في تحجر وانغلاق آفاق إلى أن السبب في بروز ظواهر التطرف والتعصب والإرهاب هو الدين نفسه ونادى هؤلاء بما أسموه تجفيف المنابع وحشروا الجميع في صعيد واحد ولم يتنبهوا أن صنيعهم هذا لن يزيد الطين إلا بلة والوضع إلا تدهورا-والحمد أن هؤلاء الذين يخلطون خلطا مقصودا ومتعمدا بين الدين كدين والتدين كتدين وبين الإرهاب والتعصب والتزمت والتطرف، إن هؤلاء عددهم قليل وأن القاعدة العامة والأغلبية العظمى من الناس في كل الأديان وفي كل المجتمعات هم أولئك الذين لا يحملون الأديان جريرة من يسيؤون إليها من أتباعها والذين هم في الأغلب ليسو بالأسوياء ولا هم من ذوي المعرفة والعلم الكافي والضروري بالدين واحكامه وهديه وغاياته ومقاصده البعيدة والقريبة ولعل الجهل بحقائق هو السبب الأبرز والفاعل الأكبر والمؤثر الأشد في ظهور ظاهرة الغلو في الدين والتعصب فيه والتطرف وبث الإرهاب وممارسته فعليا باسم الدين، نعم هنالك عوامل أخرى لا نهون من شانها ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية وعرقية ولكنها كلها تأتي في مرتبة تالية وتابعة للجهل بالدين –والجاهل يفعل بنفسه وبالناس ما لا يفعله العدو بعدوه- ولا شك أيضا أن المعالجة بعد التشخيص لا يمكن أن تكون إلا شاملة عامة متكاملة آخذة ما تحتاج إليه من الوقت حتى تؤتي ثمرتها المرجوة والتي هي أن تعود للأنفس طمأنيتها وللمجتمعات استقرارها وأمنها وانصرافها إلى مشاكلها وقضاياها الفعلية التي تكاد لا تختلف من مجتمع إلى آخر: قضايا توفير الحاجات التي تقتضيها حياة الناس اليومية المعيشية. * فالخطاب الديني الذي نريده أن يسود وينتشر وتتظافر كل الجهود على إشاعته وإذاعته بكل الوسائل والأساليب ليس هو مهمة الإمام والواعظ والكاتب في مواضيع الدين المختلفة فقط بل مهمة الجميع في تكامل وانسجام واتفاق على المرامي والأهداف التي لا يمكن أن تكون إلا واحدة: وهي أن نعيش معا في انسجام واحترام متبادل واعتراف بحقوق بعضنا البعض وأن نسعى متكاملين متعاونين من أجل الحفاظ على ما نعتبره –ويعتبره التفكير السليم القويم- مكاسب لا سبيل إلى التفريط فيها فلا نترك أحدا (فردا أو جماعة) يتهددها. ومن الأهداف والمرامي التي هي محل اتفاق الجميع هي أن لا نسير إلى الوراء وأن لا نتقهقر وان لا نتخلف لان ذلك يأباه الأسوياء، ويأباه المخلصون، فالتقدم بالشعب الذي إليه ننتمي والبلاد التي على أرضها نعيش هدف وغاية، وهما أمل ورجاء الجميع إلا من شذ –والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه-. * إن الخطاب الديني الذي نروم نشره والتوعية به هو انعكاس صحيح وتطابق كامل لمقاصد الدين وغاياته وأهدافه النبيلة والتي هي خير كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها. وكل فهم للدين يجانب هذه الخصائص هو رد على صاحبه وغير ملزم لأحد من الناس. فالدين إنما يمثله أجلى وأوضح وأكمل وأجمل تمثيل وتجسيم وتطبيق من جاء به من عند الله فهو الموعظة المجسمة، وهو حجة الله على عباده، وهو الأسوة والقدوة وهو الذي في أتباعه مرضاة لله (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ومن قرأ سيرة رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بتدبر وروية وبصيرة بعيدا عن النظرة الجزئية المبسطة الحرفية التي لا تعتبر الواقع ولا المقاصد ولا تراعي النوايا. من يقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم –الإنسان الكامل- فسيرى رحمة ورفقا ولينا وسماحة وسعة صدر وعفوا ودفعا بالتي هي أحسن وكل تلك السمات ينبغي أن يعتمد عليها وينطلق منها الخطاب الديني ويعمل جاهدا من أجل التطابق معها والوفاء لها: * الخطاب الديني بهذا المعنى وبهذه الخصائص هو خطاب التحرير والتنوير، وهو خطاب التبصير والتذكير، وهو خطاب جمع الكلمة ووحدة الصف، انه خطاب السماحة والرفق والرحمة واللين والدفع بالتي هي أحسن، وهو خطاب التسامح والتعايش والسلام والتعاون على البر والتقوى، وهو خطاب التوكل الصحيح والأخذ بالأسباب وتغيير ما بالنفس، إنه خطاب الأمل والعمل وهو خطاب الرقي والتقدم والتمدن والتحضر. * الخطاب الديني المنشود والذي هو وفي لنصوص الشرع ومقاصده خطاب ينبذ التعصب والتزمت والإنغلاق والتحجر، يقاوم الفرقة والفتنة ويحارب كل ما يمكن أن ينال من كرامة الإنسان ويتصادم مع حقوقه الأساسية، إن الخطاب الديني يأبى على المؤمن أن يظل في تخلف وتقهقر وضعف ومهانة ومذلة، إنه خطاب يدفع إلى تحقيق الخيرية الفعلية لأمة الإسلام (كنتم خير امة أخرجت للناس) والعزة الفعلية (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ولن تتحقق الخيرية بالشعارات والأماني (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي) ولن تتحقق الخيرية بالمظاهر والصور (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى وجوهكم) ولن تتحقق المباهاة يوم القيامة من طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمة ضعيفة متهالكة متصارعة ترزح تحت نير الجهالة والتخلف والفقر والأمية. * إن الخطاب الديني الصحيح والايجابي البناء الذي يرضى الله ورسوله والمؤمنين هو خطاب الدفع إلى الأمام ومعاضدة كل الجهود الخيرة التي تبذل من أجل إسعاد المسلمين السعادة الحقيقية الشاملة الكاملة. * الخطاب الديني بكل قنواته ووسائله وفي طليعتها الخطبة الجمعية والدرس والمحاضرة والمقال والدراسة هو خطاب المعاضدة لكل عمل بناء ولكل مبادرة خيرة تنفع العباد والبلاد. * الخطاب الديني هو الدافع إلى الانخراط بصفة كلية وتلقائية -رغبة في الحصول الأجر والثواب- في كل ما من شأنه أن ينفع الناس إذ (أحب العباد إلى الله انفعهم لعباده) ومجالات الإيمان وشعبه تتعدى العقائد والعبادات إلى المعاملات، إذ (الإيمان بضع وستون شعبه أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى من الطريق والحياء شعبة من الإيمان). وليس فيما ننسبه للخطاب الديني من مساهمة فعالة في حياة الناس في مختلف مجالاتها ادني تعسف أو تمحل، ذلك أن تعاليم الإسلام في عمقها وفي أبعادها وفي مقاصدها وفي نصوصها المحكمة العامة تجعل من الخطاب الديني حاملا لهذه الرسالة عن جدارة واستحقاق. وللأسف الشديد فإن الكثير مما يعرض على أسماع الناس هنا وهناك وفي الفضائيات والانترنات وعلى صفحات الجرائد والمجلات يحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر وحصحصة وغربلة فليس بالحماسة الفياضة ولا بالمشاعر الجياشة ولا بالتحريض والإثارة نحقق للأمة ودينها ما يرضي الله ورسوله إنها مسؤولية قليل وقليل جدا من هو مستوعب لأبعادها ومدرك لحدة مخاطرها.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.