دروس مستفادة من مدرسة الصيام

دروس مستفادة من مدرسة الصيام


يحق للمسلمين أن يفرحوا الفرح المشروع بما وفقهم الله للقيام به من طاعة تتمثل في الصيام الذي هو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس طيلة شهر رمضان المعظم فهم يشعرون بسعادة لا توصف وراحة وطمأنينة لا يعرفهما إلا من عاشها فعليا وما ينتظرهم عند الله إن شاء الله أعظم وأكبر وفد أخبر بذلك النبي الكريم عليه الصلاة والسلام حين قال (للصائم فرحتان حين إفطاره ويوم يلاقي ربه يفرح بصومه) فالصيام كما ورد في الحديث القدسي هو الوحيد دون سائر أعمال المسلم الأخرى هو الذي يقوم به العبد وينسبه المولى سبحانه وتعالى إليه (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به) فالله وحده هو الذي يعلم قدر الجزاء على صيام عبده المؤمن ولذلك فإنه لا يوكل أمر المجازاة إلى سواه من ملائكته المقربين. فكيف لا يفرح المسلم بتوفيق المولى سبحانه وتعالى وإعانته له على نفسه الأمارة بالسوء حتى تقبل على طاعة الله وتمتثل لأوامره؟ يفرح العبد المسلم على ذلك لأنه ليس في مستطاع كل الناس إذ الكثير من الناس من يضعفون أمام أنفسهم الأمارة وأهوائهم وشهواتهم فينهارون وينهزمون ويغلبون رغم قوة أبدانهم. فأول ما ينبغي أن يعتبر به المسلم ويخرج به عند أداء هذه الشعيرة (صيام شهر رمضان) هذا الركن الهام من أركان الإسلام هو ضرورة استشعار منة الله عليه وتوفيقه وعونه له حتى يسلك الصراط المستقيم وهذا الاستشعار ينبغي أن يتبعه حمد لله سبحانه وتعالى وشكر لا يتوقف عند حد اللسان بل يتجاوزه ليصبح حالا وسلوكا وذلك تأمينا لدوام النعمة والزيادة فيها مصداقا لقوله جل من قائل (لئن شكرتم لأزيدنكم). فالنفس كالطفل قابلة للانقياد. الأمر الثاني الذي ينبغي على المسلم أن يتيقنه هو أن عزيمة وإرادة المسلم لا تقهر ولا تغلب ولا يصعب عليها أي أمر أو نهي مهما شق وبدا في الأول صعبا فإرادة المؤمن هي من إرادة الله سبحانه وتعالى وأن نفس الإنسان قابلة للانقياد والطاعة والامتثال بمجهود يبذله الإنسان ولا ينتظره فيه سعي من الإنسان مجهود يكون الإنسان هو من يبدأ به ثم لا يلبث أن يجد من الله عونا وتوفيقا وتثبيتا وذلك مصداقا لقوله جل من قائل ض(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد الآية وسبحان الله فإننا نرى من أنفسنا في شهر رمضان المعظم العجب العجاب، نرى منها في أول الشهر تهيبا وتخوفا ما يلبث أن يحل محلهما استعداد وتأقلم وفي النهاية راحة تامة ونسيان لكل ما كان من العادات سواء ما كان منها جائزا مباحا أو ما كان منها مكروها لا فائدة من ورائه مثل عادة التدخين فأنفسنا هي أشبه ما تكون بأطفالنا الصغار حيثما وجهناها تتوجه صوب الخير أو صوب الشر صوب الفعل أو صوب الترك وصدق الإمام البوصيري رحمه الله عليه (والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم). الأمر الثالث الذي نستفيده من مدرسة الصيام هي الفوائد الكبيرة والكثيرة جدا التي يجنيها الصابرون من صبرهم والصّوم مدرسة للصبر والمصابرة فقد ورد في الحديث الشّريف إن (الصّوم نصف الصبر وإن الصبر نصف الإيمان) وقد وعد الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين الصابرين بأن يوفيهم أجرهم بغير حساب، إنه أجر لا حد له ولا حصر جزاء تصديقهم لوعد ربهم وامتثالهم لأمره ومغالبتهم لأهوائهم وأنفسهم وقد ورد في الحديث القدسي سبب نسبة صيام العبد لربه بقوله سبحانه وتعالى (يدع طعامه وشرابه) والصبر والمصابرة هو خلق ومسلك الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام الذين امتحنوا وابتلوا وفتنوا ولكنهم لم يبدلوا ولم يغيروا بالصبر والمصابرة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) الأحقاف الآية (واصبر وما صبرك إلا بالله) النّحل الآية وقد أمر المؤمنون بما أمر به المرسلون (اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) آل عمران الآية والقرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة يزخران بالدعوات الملحة للمؤمنين بالصبر ويعدان بعظيم الأجر وجزيل الثواب لمن يصبرون ويصابرون يقول جل من قائل (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) العصر الآيات وو وقد أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا يجعلون آخر كلامهم عند افتراقهم تلاوة سورة والعصر وهي سورة عظيمة الشأن قال أحد العلماء عنها (لو لم ينزل الله للمؤمنين من القرآن إلا سورة العصر لكفتهم) لأنها جمعت لهم كل الخير وفي بيان عظيم الأجر وجزيل الثواب على الصبر والبلاء يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أشدكم بلاء الرّسل ثم الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى المرء على قدر دينه فإن وجد فيه صلابة زيد له). الصوم هو صورة من صور الجهاد الذي هو سنام وذروة إن الصبر مكابدة ومجاهدة وسالكه مهتد في النهاية إلى السبيل القويم يقول جل من قائل (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت الآية وقد اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاد النفس الأمارة بالسوء ومعالجتها خصوصا عند إقبال الدنيا بملذاتها وشهواتها ومغرياتها جهادا اكبر حيث قال عليه الصلاة والسلام (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) وصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام فما أقل من يثبتون أمام المغريات والأهواء لأجل ذلك تعدد في القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة التحذير من فتنة الحياة الدنيا ومباهجها فإن حب الدنيا وزينتها والتنافس فيها ينسى ذكر الله وينسى حقيقة هذه الحياة الفانية وحتمية الرحيل عنها فكثيرا ما تصبح الدنيا أكبر الهم ومبلغ العلم وبقدر ما دعا الإسلام المسلم إلى عدم تحريم زينة الحياة الدنيا وبقدر ما دعاه إلى أخذ نصيبه من الدنيا وبقدر ما دعا الإسلام المسلم إلى عدم تحريم زينة الحياة الدنيا وبقدر ما دعاه إلى أخذ نصيبه من الدنيا بقدر ما حذره أيضاً من الركون إليها ونسيان حقيقتها داعيا له إلى أن يكون فيها عابر سبيل إذ هو كذلك فالمصير هو إلى الله (إن إلى ربّك الرّجعى) العلق الآية فالذين يريدون العلو في الأرض والإفساد فيها ليس لهم نصيب في الدار الآخرة د(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) القصص الآية نعم للصبر والتحمل وليس تعذيب النفس وقهرها. فالصيام مدرسة للتدرب على الصبر والتحمل وهو تعويد للمسلم على التحكم في النفس إذ ليس من غرض الإسلام ولا من هدفه وحاشا لله تبارك وتعالى أن يعذب عباده إنه بهم لطيف رحيم والدين الذي رضيه لهم وأكمله وأتمه وأرسل به سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام هو دين الرحمة والرأفة والتيسير يقول جل من قائل (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء الآية ويقول م(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) البقرة الآية ويقول (ما جعل عليكم في الدين من حرج) ويقول في الصوم الذي نحن بصدد استخلاص بعض دروسه (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) البقرة الآية ويزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى تجلية وتوضيحا حين تصفه كتب السيرة بأنه (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن حراما) يقول عليه الصلاة والسلام (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) ويقول (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتي عزائمه) فكل هذه النصوص وغيرها كثير تبين أن تعذيب النفس وتكليفها بما لا تطيق حرام في دين الإسلام إنما الذي يقصده الإسلام ويدعو إليه المسلمين هو التحكم في النفس وعدم الانقياد للأهواء والشهوات وأن لا يكون المسلم عبدا إلا لربه ومولاه إذ كثيرا ويا للأسف الشديد ما ينقلب الإنسان عبدا لنفسه مصداقا لقوله جل من قائل (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) الجاثية الآية ومن هذه حاله هو لا شك هالك يقول عليه الصلاة والسلام (ثلاث مهلكات هوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه) ولاشك أن الصيام يقاوم الأهواء ويهذب الأنفس ويدفع القائم به إلى أن يكون دائم الاحتراس من نفسه عملا بالحديث الشريف (الكيس من دان نفسه) وسعيا لبلوغ مقام الإخلاص لله في القول والعمل فقد ورد في الحديث الشريف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الناس هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلاّ المخلصون والمخلصون على وجل) والصيام مدرسة للإخلاص والتجرد فلا يعلم الصائم من غير الصائم إلا الله إذ لا تظاهر ولا رياء في الصيام ولذلك استحق الصيام أن ينسب إلى الله رغم أن القائم به هو العبد المسلم وقد ورد في الحديث أن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيام عباده (أنا أغنى الشركاء اذهب إلى من أشركته بي فليجازيك اليوم). ومما يستفيده الصائمون من مدرسة الصوم ذلك الشعور الذي يعيشونه فعليا بآلام الآخرين وحاجاتهم فالصيام مدرسة يدخلها الأغنياء والفقراء على حد السواء فيتساوون في الشعور بآلام الجوع والحرمان وبعد معرفتهم الفعلية للجوع والحرمان فإن نداءات واستعطافات الجياع والمحتاجين تجد ولا شك صداها والتفاعل الايجابي معها خصوصا من طرف القادرين على أن يعودوا على إخوانهم المحتاجين ببعض مما أفاء الله به عليهم لذلك ينشط في شهر رمضان البذل والعطاء والإنفاق والصدقات ويقع التنافس في ذلك ابتغاء للأجر والثواب واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي (كان كريما سخيا وكان أسخى ما يكون في شهر رمضان المعظم فهو كالريح المرسلة) وتعويدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين على البذل والعطاء والإنفاق في سبيل الله بلغ لهم آيات الكتاب العزيز المبشرة بمضاعفة الأجر والثواب والإخلاف من الله سبحانه وتعالى على المنفق وأنه سبحانه وتعالى (لا يضيع أجر المحسنين) وزادهم عليه الصلاة والسلام تبشيرا وتحبيبا في البذل والعطاء والجود والكرم بأن وعدهم بأن (من يفطر صائما على مذقة لبن أو جرعة ماء أو شق تمرة) وذلك في المستطاع بالنسبة للجميع (له أجر ذلك الصائم الذي فطره دون أن ينقص من أجر الصائم شيئا) نرى ذلك بأعيننا ونعيشه ذلك في كل ديار الإسلام وكل مدنها وقراها وفي كل أحيائها وبين الأقارب والأجوار وبين كل المتساكنين نرى حرصا على أن يتقاسموا ما عندهم مما أفاء الله به عليهم بالسوية وإنها لمشاهد منعشة يباهي بها الله ملائكته كما يفعل ذلك يوم عرفات وليلة القدر ويوم العيد إنه تنافس في الخير وعلى الخير، انه التراحم والتضامن والتآزر، انه التجسيم للتشابيه التي شبه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم فعلا في رمضان كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص إنهم يحبون لبعضهم البعض الخير وتلك هي علامة الإيمان الحقيقي والتدين الصادق ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يكون أحدكم مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)؟ ألم يقل عليه الصلاة والسلام (أحب العباد إلى الله انفعهم لعباده) وما أكثر دروس الصوم وما أكثر فوائده البدنية والروحية الفردية والاجتماعية العاجلة والآجلة فكيف لا يتمنى المؤمن أن تكون كل أيامه رمضانا غير أن ما ينبغي على المسلم أن يستصحبه بعد رمضان هو الحد الأدنى من الامتثال والطاعة لربه بفعل ما أوجب والانتهاء عما حرم ثم اتخاذ عمل صالح وإن قل يداوم عليه إلى أن يلاقي رمضان في عام قادم إذا كان في الحياة متسع فقد ورد في الحديث الشريف (خير الأعمال أدومها وإن قل).



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.