خصائص الحضارة الإسلامية ومفعول الدفعة الإيمانية الأولى

خصائص الحضارة الإسلامية ومفعول الدفعة الإيمانية الأولى


إن الدارس للعلاقة بين الدين والحضارة يجد نفسه أمام مجموعة من الآراء تختلف باختلاف مشارب قائليها واختلاف انتماءاتهم الفكرية والمذهبية ويبلغ هذا الاختلاف حدة عندما يفصل بين هذين العنصرين (الدين والحضارة) فينظر إلى الدين على انه مجموعة من الطقوس والاعتقادات الغيبية وينظر إلى الحضارة على أنها كل ما تبلغه مجموعة من البشر من رقي مادي وعلمي وحتى حربي. وهذا الفصل لئن وجد له مبرر ينبع من طبيعة الأديان السابقة للإسلام فان طبيعة الدين الإسلامي ومبادئه وتشريعاته تأبى هذا الفصل المشين والتفرقة المنفردة وترد على الآية الواردة في الإنجيل: اترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله بان العبد وما ملكت يداه لسيده ومولاه وان لا فصل بين الدين والدنيا أو بعبارة أخرى لا فصل بين الدين والحضارة. فالدين كما يقول المرحوم الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رحمه الله لا يقابل الدنيا إنما الآخرة هي التي تقابل الدنيا والدين انزل لتنظيم حياة البشر وقيادتهم وإصلاح حالهم في الدنيا قبل الآخرة. وبهذه النظرة الشاملة إلى الحياة بكل وجوهها يأخذ بحث العلاقة بين الدين والحضارة اتجاها غير معهود بالنسبة لبقية الأديان الأخرى فالعرب قبل الإسلام لم تكن لهم حضارة ولم يجمعهم مبدأ فكان أول عمل قام به الإسلام هو تغيير المفاهيم وطمس القيم الجاهلية منشئا على أنقاضها رسالة ثم حضارة كانت فريدة ومتميزة عن بقية الحضارات. جاء الإسلام فحرر الإنسان من كل أنواع العبودية والعقد النفسية وغرس في نفوس أتباعه الجدد العزة بقوله الفصل (إن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين) فصاروا أعزة وآخى بينهم: صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي وعمر بن الخطاب القرشي في صرح مجتمع متآلف كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. جاءهم الإسلام ليحملهم رسالة السماء كي يبلغوها إلى البشرية. قال تعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ثم دعاهم إلى الأخذ بكل أسباب القوة والمناعة (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة). وشحن نفوسهم بعقيدة راسخة قوية وصقل أرواحهم بإيمان هو منطلق حضارتهم الجديدة وقوة دفعها التي بهرت البشرية بفتوحاتها العلمية والمادية والعسكرية ففي فترة لم تتجاوز القرن كانت رسالة الإسلام ممتدة من الصين شرقا إلى حدود فرنسا غربا. فالإسلام أولى حياة الفرد والمجتمع المادية اهتمامه فقال صراحة: (قل من حرم زينة اللخخ التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا). بل دعا المسلم إلى أن يولي حياته الدنيوية ما تستحق من الاهتمام قال تعالى: (وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا). بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل المسلم القوي على المسلم الضعيف وآيات الكتاب العزيز وأحاديث الرسول الكريم المحرضة على طلب العلم والحكمة أكثر من أن تحصى وتعد. * فالصلة متينة بين الدين الإسلامي والحضارة بل يمكن القول أن الحضارة التي برزت من بعد في بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وفاس وقرطبة كانت نتيجة وصدى لتلك الدفعة الروحية الأولى التي يحددها كل من الشيخ محمد الفاضل بن عاشور والمفكر الجزائري مالك بن نبي بالفترة القصيرة التي سبقت صيرورة الخلافة إلى ملك عضوض. * فمن خلال الإسلام فكر المسلم ومن خلاله تعلم ومن اجله جاهد واستشهد وبه اتصل بالحضارات الأخرى فاقتبس ما اقتبس وترجم ما ترجم وبقيت شخصيته عزيزة. * وعندما أنتجت هذه الحضارة الإسلامية (والملفت للانتباه أن ذلك وقع في مدة وجيزة جدا) أنتجت ما على أسسه اليوم وصل الإنسان إلى القمر وتغلب على الكثير من الأدواء والأمراض، أنتجت الخير العميم، أنتجت ما يفيد الإنسان لا ما يقضي على اخص خصائصه وسبب ذلك يعود إلى سمو المبادئ التي امن بها الإنسان المسلم وتشربها فتفاعلت مع الصالح مما أنتجته الأمم. * فلا نبالغ إذا قلنا أن الحضارة الإسلامية تختلف وتتميز عن كل الحضارات السابقة واللاحقة فهي حضارة لا يمكن فيها الفصل بين أي جانب من جوانب الإبداع والسمو فما قدمه الفرابي وابن سينا والخوارزمي والرازي والكندي والغزالي وابن رشد والجاحظ، وابن تميمة وغير هؤلاء يمثل كلا لا يتجزأ أو مجموعا متكاملا يصور في تناسقه وتآلفه روح الحضارة الإسلامية. * فليست الحضارة الإسلامية وتلك مظاهرها إلا صدى لمبادئ الإسلام الخالدة نتيجة للدفعة الروحية القوية التي شحنت بها الأنفس التي هداها الله للإيمان في مكة المكرمة والمدينة المنورة عندما كان للوحي المنزل على الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم مفعولا عجيبا في تغيير اتجاه الفرد ودفعه إلى العمل المجدي لفائدة نفسه أولا والمجموعة ثانيا. * فكان الواحد منهم يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أبيني وبين الجنة شق ثمرة؟ فيجيبه الرسول: نعم فيقذف بها ويندفع إلى قلب المعركة لينال الشهادة بل كانوا يتدافعون يوم حفر الخندق أيهم الذي يقدم اكبر جهد منهم بأنهم يقومون بالدفاع عن مبادئ سامية وأسس حضارة قوية تعتمد مبادئ السماء الخالدة. * إن الدارس للعلاقة بين الدين والحضارة بالنسبة للإسلام يجد نفسه مضطرا لربطهما ربطا قويا فالحضارة الإسلامية تجد جذورها ومقوماتها في الإسلام بما احتواه من قيم روحية وفكرية لذلك فالحضارة الإسلامية خالدة دائمة بدوام الإسلام فهو ركيزتها وعلة وجودها وفي إطاره قدمت ما قدمت من عطاء جم بهرت به الدنيا ولا تزال العقول تنظر إليه بعجب كبير غير مدركة أن مفعول رسالات السماء مفعول عظيم. * وطبيعي أن تكون الحضارة الإسلامية عظيمة وفريدة قادرة دوما على الانبعاث بل إن أفولها وركودها ما هو إلا لحين تنتظر فيه عودة أصحابها إلى سبب عزتهم وقوتهم: رسالة الإسلام العظيمة. * فالذي يقف اليوم بين المسلمين وبناء حضارة جديدة تحاكي حضارتهم الأولى هو فقدانهم لتلك الدفعة الإيمانية وذلك الشعور الداخلي لدى كل مسلم بأنه حامل رسالة عظيمة.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.