تداعيات الاستفتاء حول المآذن في سويسرا على مسلمي فرنسا

تداعيات الاستفتاء حول المآذن في سويسرا على مسلمي فرنسا


شغلت مسألة الاستفتاء حول المآذن في سويسرا الرأي العام بمختلف مستوياته سواء كان ذلك على مستوى العالم الإسلامي: قادة ومنظمات وهيئات وعلماء ورجال إعلام أو على مستوى أوروبا والغرب، وإذا كانت ردود الفعل على الاستفتاء حول المآذن على مستوى العالم الإسلامي غير ملفتة للانتباه وغير مستغرب منها تلك الفورة العاطفية التي ليس بالضرورة أن تكون نتائجها ايجابية وتخدم في الحقيقة والواقع قضية الحال أو ما يشبهها مما لا يتوقف مدد بروز بالوناتها (من قضية سلمان رشدي إلى قضية الصور الكاريكاتورية إلى قضية البرقع إلى ما لا يتوقع توقف بروزه..) فإن ما يلفت الانتباه حقا وما يمكن اعتباره ايجابيا والاستفادة منه يعد تقدما لا باس به في موضوع علاقة الإسلام بالغرب، هو تلك الردود الغربية التي اتسمت بالرصانة والموضوعية والعقلانية فدافعت عن حق المسلمين في ممارسة شعائر دينهم بكل حرية في الفضاء الأوروبي والغربي الذي يعتبر الحرية الشخصية من الحقوق الأساسية للإنسان أيا كان دينه وعرقه ولونه ولغته والفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها. * ينبغي التنويه بالأصوات الحرة والجريئة التي ارتفعت معلنة الرفض لنتائج الاستفتاء حول المآذن في سويسرا أو محملة الأحزاب اليمينية العنصرية مسؤولية اخذ هذا الموضوع لهذا المنعرج بالاستفتاء حول هذا الحق الأساسي من حقوق الإنسان. وان كان هذا الاستفتاء أبان بوضوح وجلاء كيف أن الإسلام وشعائره يحملان في غالب الأحيان ما يأتيه المسلمون من مواقف وتصرفات ليست بالضرورة تتطابق دائما مع الإسلام في حقيقته ومقاصده. * ينبغي أن يوجه التنويه أولا إلى حاضرة الفاتيكان التي برهنت عن مستوى رفيع من الموضوعية والعقلانية والإيمان الحقيقي والفعلي بضرورة التعايش بين أتباع الديانات في كنف الاحترام المتبادل لخصوصيات كل طرف وهذا موقف ينبغي أن يحسب للفاتيكان الذي سمعنا منه في الآونة الأخيرة في أكثر من مناسبة وفي أكثر من قضية تشغل الرأي العام الإنساني مواقف رصينة تشجع على مواصلة الحوار والتعاون من اجل تحقيق مصالح جميع الأطراف. * ينبغي أن يوجه التنويه في قضية الاستفتاء حول المآذن والمواقف المعلنة تجاهها إلى رجال سياسة كبار في سويسرا بلد الاستفتاء حول المآذن والى أعضاء البرلمان الأوروبي وهيئات الاتحاد الأوروبي ومنظمات حقوق الإنسان وكل هؤلاء تعالت أصواتهم باعتبار أن نتائج الاستفتاء تعبر عن عنصرية وتطرف. ونظرا لثقل فرنسا وحضورها البارز على المستوى الأوروبي والعالمي ونظرا لما لها مع الإسلام والمسلمين ماضيا وحاضرا وبالطبع مستقبلا من تواصل يصل إلى درجة التلاحم غير القابل للانفكاك والذي يشهد عليه عدد المسلمين الفرنسيين (الذين حصلوا على الجنسية فأصبحوا مواطنين وذلك منذ عقود طويلة وأولئك الذين اعتنقوا الإسلام وعدد هؤلاء كبير وفي تنام)، فضلا عن ما هو واقع معيش من متانة للعلاقات الاقتصادية والثقافية وحتى الإستراتيجية بين فرنسا والعالم الإسلامي وبالخصوص القسم الأقرب إلى فرنسا اعني به بلدان الحوض المتوسطي والتي هي في اغلبها بلدان عربية وإسلامية. طبيعي إذن أن تتفاعل فرنسا بساستها ووسائل إعلامها ومنظماتها وجمعياتها وكذلك مسلميها مع قضية الاستفتاء حول المآذن الذي جرى في سويسرا البلد الصغير المجاور لفرنسا والذي لا يتجاوز المسلمون فيه بضعة آلاف وتعد المساجد فيه على الأصابع. الذي يلفت الانتباه -وإن كان ذلك غير ملفت بالنسبة للمتابعين في فرنسا وخارجها لملف الإسلام والمسلمين على الأقل في السنوات الأخيرة الماضية- هو موقف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي من مسألة الاستفتاء حول المآذن فقد بدت في هذا الموقف موضوعية كبيرة وواقعية ناتجة عن خبرة اكتسبها ولعله تفوق بها عن زملائه ومنافسيه من السياسيين في فرنسا وفي أوروبا: فنيكولا ساركوزي لا نبالغ إذا اعتبرناه احد خبراء ملف الإسلام والمسلمين في فرنسا فقد باشره عن قرب وتعامل معه بذكاء كبير وبُعد نظر سلمت له بهما جميع الأطراف من مواطنيه الفرنسيين ومن القائمين على الهيئات والمنظمات المشرفة على المساجد والمصليات وأماكن ممارسة الشعائر الدينية. إن مرور الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بوزارة الداخلية التي هي في فرنسا الوزارة المسؤولة عن الديانات وكل ما يتصل بها من معالم وطقوس وشعائر. وقد ظل ملف الدين الإسلامي والاعتراف به -وهو الدين الثاني في فرنسا من حيث عدد أتباعه بعد الكاثوليكية- بين مدّ وجزر وفي النهاية كل وزير يمرّ بهذه الوزارة (الداخلية الفرنسية) يطوي هذا الملف ويضعه على الرفّ إلى أن جاء الرئيس نيكولا ساركوزي فانكبّ عليه واتخذ فيه من المبادرات والإجراءات ما دفع أغلبية الأطراف ذات الصلة به من جانب المسلمين لا تملك إلا أن تمدّ له الأيدي وفي عهد الرئيس نيكولا ساركوزي برز إلى الوجود الفعلي بواسطة انتخابات سلمت بنتائجها جميع الأطراف المجلس الفرنسي الممثل للإسلام C.F.C.M والمهيكل على مستوى كامل التراب الفرنسي -وهو اعتراف تأخر كثيرا- وتمثل ذلك في الحركة الحثيثة في بناء المساجد والجوامع التي يصح أن يطلق عليها اسم مساجد وجوامع فقد أصدرت التعليمات للبلديات والمجالس الجهوية لتسهيل الحصول على رخص بناء المساجد والجوامع كلما كانت ملفاتها مستوفية للشروط والمواصفات وهكذا لم تعد تتوفر فرنسا الكبيرة الواسعة الأرجاء إلا على مسجد المنطقة الخامسة وهو الأقدم أو مسجد مدينة ليون أو مسجد منطقة ايفري أو مسجد مونتلاجولي بل أصبحت اليوم في كل المدن الفرنسية مساجد فخمة وضخمة ومبنية من الأساس لتكون مساجد وجوامع متكاملة المرافق وحضائر الأشغال هي اليوم في كليرمون فرون، وفي نيس، وفي ارجنتاءي وسان دني، وأخيرا وليس آخرا سلم عمدة مرسيليا للهيئة الإسلامية ترخيص بناء جامع مرسيليا الكبير وهو جامع ينتظر أن يكون في حجم مدينة مرسيليا البوابة البحرية الجنوبية لفرنسا وكل أوروبا وهي مدينة يقال عنها أن سكانها من المسلمين من أصول مغاربية وافريقية أكثر من الفرنسيين. إن الرئيس نيكولا ساركوزي هو بحق كما جاء في افتتاحية جريدة لوفيغارو بتاريخ 9 ديسمبر 2009 (هو من اخرج هذا الدين (أي الإسلام) من السريّة التي كان يعيش فيها منذ سنوات طويلة..) كانت المساجد والجوامع في فرنسا في الغالب عبارة عن مستودعات وفي أقبية العمارات وفي محلات سكنية في بعض الأحيان في أكثر من طابق وظل هذا الوضع على تلك الحال غير اللائقة وغير المعلوم ما يدور بداخلها -وينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا أن السلطات في الداخلية مما يساعدها على القيام بالمهام الموكولة إليها أن تكون هذه المساجد مرئية غير مخفية- ومما ساعدها على ذلك أن طبيعة الإسلام تتجاوب كل التجاوب مع الشفافية والوضوح واحترام التعهدات والالتزامات، والمسلمون هم عند عهودهم وبذلك تأمرهم تعاليم دينهم فعندما يتدخل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في قضية الاستفتاء حول بناء المآذن في البلد المجاور لبلاده فتدخله له مشروعية ولأكثر من سبب وقد جاء موقفه موضوعيا إلى أبعد الحدود وجاء في مقال كتبه في أكبر وأشهر صحيفة فرنسية لوموند وتناقلت هذا الموقف بقية وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية من ذلك أن جريدة لوفيغارو كتبت على صفحتها الأولى التي حلتها بصورة لجامع المنطقة الخامسة ما يلي (ساركوزي يذكر مسلمي فرنسا بحقوقهم وواجباتهم) (Sarkozy rappelle aux musulmans de France leurs droits et leurs devoirs) وفي عنوان آخر في الصفحة الثالثة نقرأ ما يلي الرسالة الجديدة من ساركوزي إلى إسلام فرنسا (Le nouveau message de Sarkozy à l’Islam de France) لقد شدّ الرئيس ساركوزي العصا من الوسط وأعطى لكل ذي حق حقه معتبرا أن اللوم على سويسرا في الاستفتاء يناقض الديمقراطية والعودة إلى الشعب، فالجواب في نظره في مثل هذه الاستفتاءات بنعم أو لا معقد جدا ولذلك فالأفضل هو التعامل في مثل هذه القضية (بناء المآذن) كل حالة على حدة كما هو الحال في فرنسا وما هو جار به العمل (احترام القادمين وتمكينهم من الصلاة في أماكن لائقة ولكن ساركوزي لا يتأخر عن تحميل الجالية المسلمة مسؤولياتها بأن تحترم من يستقبلونها في بلد الإقامة وعدم النيل منها أو مصادمة مشاعرها وقيمها والتي منها المساواة بين الرجل والمرأة، واللائكية، والفصل بين الزمني والروحي، وذهب ساركوزي إلى ابعد من ذلك مذكرا مواطنيه المسلمين “انه في بلدنا حيث تركت الحضارة المسيحية آثارها المتجذرة، وحيث القيم الجمهورية تمثل مكونا أساسيا للهوية الوطنية.. فإن كل ما يمكن أن يبدو فيه التحدّي لهذا الإرث فانه مقوّض لما نشيّده ونبنيه في إسلام فرنسا” ودعا الرئيس ساركوزي المؤمنين بكل الديانات إلى ممارسة شعائرهم في كنف نبيل وذاتي. ذلك هو موقف الرئيس الفرنسي من قضية المآذن ذلت الصلة بالدين ولا أخال مسلمي فرنسا إلا متفاعلين معه ايجابيا مثلما وقع ذلك في السابق.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.