بالصيام يتعود المسلم على الإخلاص والصبر والكرم والإحسان

بالصيام يتعود المسلم على الإخلاص والصبر والكرم والإحسان


يصوم المسلمون شهر رمضان ذكورا وإناثا أغنياء وفقراء ورعاة ورعية يمسكون في وقت واحد ويفطرون في وقت واحد وذلك في كل يوم من أيام شهر رمضان المعظّم ويشعرون جميعا بصفة عملية بالجوع والعطش وذلك بالتحكم في ما تهواه النفس وتدعو إليه الغرائز والشهوات يقومون بذلك إيمانا واحتسابا وشعورا يقينيا أنّه لا تخفى منهم خافية على ربّ العالمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور والذي يرى دبيب النمل في الحجرة الصماء في اللّيلة الظّلماء ولا شيء في ظاهرنا يفرق بين الصائم وغير الصائم الله وحده يعلم الصائم من غير الصائم وبذلك تتأكد للمسلمين القائمين بهذه الشعيرة حكمة نسبة الصيام دون سائر العبادات إلى الله سبحانه وتعالى فالصّيام هو عبادة الإخلاص وعبادة التشبه بالملائكة الذين لا يأكلون ولا يشربون والذين غذاؤهم الطاعة والعبادة إنّ الصيام يركز في المسلم صفة الإخلاص ليكون جديرا وأهلا بمجازاة الله سبحانه وتعالى الذي لا يقبل الشريك (أنا أغنى الشركاء اذهب إلى من أشركته بي فليجازيك اليوم) كما أخبر عليه الصلاة والسلام أنّ كلّ الناس هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلى المخلصون والمخلصون عن وجل، والمؤمن الحق هو الذي لا ييأس (إنّه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) يوسف. (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنّه هو الغفور الرّحيم) الزمر. كما أنّ المؤمن لا يأمن ولا يطمئن إنّه بين يوم انقضى لا يدري ما الله قد حكم فيه أهو يوم مقبول أم غير مقبول وبين يوم آت لا يدري ما الله قد قضى فيه على عبده وما بين أمس المؤمن وغده فإنّ اليوم الذي هو فيه ينبغي أن يكون فيه كيسا فطنا بالمرصاد لنفسه الأمارة بالسوء وهواه فكل منهما مهلك وعدو للإنسان المؤمن (إن النفس لأمارة بالسوء) يوسف وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن من المهلكات فقال (ثلاث مهلكات هوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه) ولأجل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت). نماذج عملية للإخلاص وفي هذا المسلك القويم والطريق المستقيم كان سلف الأمة الصالح من أمثال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كثيرا ما عاتب نفسه العتاب الشديد على مرأى ومسمع من الناس همه الوحيد إرضاء ربه والفوز بعفوه وتجاوزه لذلك نجده يقول وهو المبشر بالجنّة وهو من هو (لو نادى مناد كل الناس يدخلون الجنّة إلا رجلا واحدا لقلت انّك أنت يا ابن الخطاب) (ليت عمر لم تلده أمه ليته كان تبنة) (أتعلمون من يخطبكم إنّه عمير بن الخطاب الذي أعلى من شأنه الإسلام) وغير ذلك من المواقف الدالة على الإخلاص لله ربّ العالمين والخشية له وحده سبحانه وتعالى وكذلك كان يفعل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي نزل في حقه وفي حق فاطمة الزهراء رضي الله عنها (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) الإنسان. وقد كان رضي الله عنه كثيرا ما يطلب ممن يخرجون وراءه ومعه من أصحابه ومساعديه أن يتركوه قائلا لهم (اذهبوا عني خفقان نعالكم فإنّها مجلبة للشيطان) يخاطب الدنيا بقوله (غري غيري يا غرارة أما أنا فقد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها) فالصيام يأخذ بيد المسلم في السبيل المؤدّي إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى الذي يقول (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) القصص. كتب الله على المسلمين صيام أيام معدودات لعلهم يتقون والتقوى زاد المؤمن في رحلته في هذه الحياة الدنيا وكدحه ومصيره إلى ربه للوقوف بين يديه في الدار الآخرة، التقوى هي الخشية لله والمراقبة له في الصغيرة والكبيرة وفي كل ما يأتيه المسلم من تصرفات (قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين) الأنعام. عملا بالوصية المحمدية لأبي ذر رضي الله عنه (اتق الله حيث ما كنت) والتّقوى في دين الإسلام وفي هدي سيد الأنام عليه الصلاة والسلام ليست بالتمني ولا بالتحلّي بل هي ما وقر في القلب وصدقه العمل وليست بالظواهر والشكليات (إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى وجوهكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم محل التقوى مشيرا إلى قلبه أو صدره (التقوى ههنا التقوى ههنا) الصيام يقوّي التلاحم والتضامن بين المسلمين والصيام فيه جانب اجتماعي لابدّ أن يترك أثاره في سلوك المسلم وعلاقته بمحيطه ولأجل ذلك ارتبط الصيام بمعاني الكرم والجود والإحسان والرحمة والعطف وتفريج كروب المكروبين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أكرم الناس وكان أكرم ما يكون في شهر رمضان المعظم إذ يصبح كالريح المرسلة وأرشد عليه الصلاة والسلام المسلمين الصائمين إلى هذا الباب من أبواب الطاعة والتقرّب إلى الله والذي ألحت عليه الآيات القرآنية العديدة واعدة بالجزاء الأوفى والأوفر من ذلك قوله جلّ من قائل (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) البقرة الآية وقوله جل من قائل (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران الآية وزاد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى تأكيدا عندما نفى الإيمان عمن يبيت شبعانا وحوله من هو جائع حيث قال (لا يؤمن بي من بات شبعانا وجاره إلى جانبه جائع) وقال (من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس منهم) وقال (من لا يرحم لا يرحم) وفي مقابل ذلك بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يندفعون صوب فعل الخير وبذل المعروف بالأجر العظيم حيث قال عليه الصلاة والسلام (والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) وقال (الراحمون يرحمهم الرحمان) وقال (من فرج على مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عليه كربة من كرب يوم القيامة) وأخبر عليه الصلاة والسلام أن (من فطر صائما كان له أجر ذلك الصائم دون أن ينقـص من أجر الصائم شيئا) وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّته بأنّ الله تبارك وتعالى (يعطي هذا الأجر لمن فطر صائما على تمرة أو مذقة لبن أو جرعة ماء) ذلك أن القصد والنية الحسنة يكفيان في دين الإسلام للحصول على الأجر والثواب ولو كان العمل قليلا ولذلك يقال عليه الصلاة والسلام (إتقوا النار ولو بشق تمرة) وقال (يبلغ المرء بنيته ما لا يبلغه بعمله) كل هذه المعاني الدافعة إلى البذل والعطاء والإنفاق في سبيل الله هي التي تتوطن عليها أنفس الصائمين فيرون كيف أنّهم يندفعون يبذلون بسخاء وكرم ويعودون على من حولهم من المحتاجين والفقراء من المسلمين وكذلك يريدهم ربهم أن يكونوا دائما وأبدا وبذلك يبرهنون على أنّ ما فرضه عليهم ربهم من صيام لم يكن مجرّد امتناع عن شهوتي البطن والفرج بل تجاوز ذلك إلى ترك كل ما يغضب الله والاندفاع النّشيط صوب الخير للتنافس فيه ابتغاء لمرضاة الله وطمعا في الحصول على ثوابه وجزائه الأوفى في الدّنيا والآخرة. ومن أجل أن تعم الفرحة كل المسلمين فرض الله زكاة الفطر. هذه المعاني من التضامن والتآزر بين المسلمين يأبى الله تبارك وتعالى إلا أن يجعل الصائمين يستصحبونها في أيام العيد المقبلة عليهم بكل خير ورضوان ولأجل ذلك شرعت زكاة الفطر التي (هي طهرة للصائم وطعمة للسائل المحتاج) وليتم التقبل من الله لصيام الصائمين وجب عليهم أن يخرجوا هذه الزكاة التي لا نصاب فيها قبل خروجهم لصلاة العيد حتى يكفوا المحتاجين هم السؤال والطلب في أيام العيد التي هي أيام فرحة وحبور لا ينبغي أن يعكّرها ذل المسألة فتعم الفرحة المشروعة كل المسلمين ولا يبقى بينهم محتاج لما يكفيه في قوته وقوت أهله في أيام الفرحة والشكر لله رب العالمين على ما وفق إليه عباده من أداء لعبادة الصيام. الصيام يربي المسلم على الصبر والثبات ولا شكّ أن مما ينبغي أن يتركه الصيام في أنفس من يؤدونه ويقومون به على أحسن الوجوه هو تلك العزيمة وذلك الصبر وتلك القدرة على التحكم في النفس امتثالا لأمر الله تبارك وتعالى أولا ثم تحسبا واستعدادا لكل ما يمكن أن يواجه المسلم في هذه الحياة من صعوبات وشدائد فيترك الصّيام في القائم به من الصّبر ما يستطيع أن يثبت به فلا ينهار أمام أبسط امتحان فالصّبر مما وعد الله عليه بالأجر والثواب حيث قال جل من قائل (إنّما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزّمر الآية وقد أمر المسلمون بالصّبر والمصابرة (اصبروا وصابروا ورابطوا) آل عمران وبذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (واصبروا ما صبرك إلا بالله( (واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل). الأحقاف كما أخبر المولى سبحانه وتعالى عن صفات من هم في مأمن من الخسران فقال (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصّبر) العصر الآيات. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن (الصّبر نصف الصوم والصوم نصف الإيمان) وصيام شهر رمضان المعظم تدريب على الصبر والتحمل والثبات لنيل عظيم الأجر والثواب من المولى سبحانه وتعالى، والصبر والمصابرة سبيل الأنبياء والمرسلين والخلص من عباد الله الصالحين الذين يشكرون ربهم عندما يعطيهم ولهم بذلك أجر ويصبرون عندما يصابون ولهم بذلك أجر وليس ذلك لأحد سواهم وبهذا الصّبر وتلك المصابرة واستفادة مما يحققه الصيام للمسلمين من قدرة على التحمل ومن إقدام وشجاعة واستبسال كان شهر رمضان المعظم شهر الصيام والقيام شهر الانتصارات والفتوحات في بدر الكبرى وفي فتح مكة وفي عين جالوت وفي المنصورة وفي كل المواقع التي خاضها المسلمون في شهر رمضان إذ لم يتعلّلوا بالصيام ليتركوا الجهاد والمجاهدة فالذين يجاهدون يهديهم الله السبيل القويم (والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا) العنكبوت الآية ولا شك أنّ المسلمين في مختلف أقطارهم وبلدانهم وحتى أولئك الذين ييعيشون في ديار الغربة يستفيدون أيما استفادة من مدرسة رمضان: أفرادا وأسرا ومجتمعات لا شك سيظلون على العهد إلى أن يلقوا رمضان المعظم في عام قادم إن كانوا من أهل الحياة الدنيا.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.