المولد النبوي في الشعر التونسي الحديث

المولد النبوي في الشعر التونسي الحديث


اعتاد الشعراء التونسيون القدامى والمحدثون الإعراب عن مشاعرهم الدينية وتمسكهم بعقيدتهم الإسلامية وارتباطهم بماضي أمتهم وعبروا عن ذلك في مناسبات مختلفة وبصفة خاصة في الأعياد والمواسم الإسلامية والذكريات التاريخية المجيدة. فكانت تعقد لذلك الاجتماعات وتنظم الاحتفالات فيتبارى فحول الشعراء وتجود قرائحهم بغرر القريض فتسمو بها مشاعرهم وتتألق رؤاهم وتخط يراعاتهم قصائد عصماء يبقى رنين أصدائها في النوادي والمجامع. وتصور هذه القصائد مدى الأصالة والصدق لدى شعرائنا كما تبين اعتزازهم بانتسابهم للأمة الإسلامية وتمسكهم بسبب عزها ومجدها وتظهر بوضوح لا لبس فيه مدى مساهمة هؤلاء الرواد في أيقاظ همم بني وطنهم وإذكاء جذوة الإيمان في قلوبهم ودفعهم إلى إعادة أمجاد أمتهم ونبذ ما اعترى الجسد الإسلامي من كسل وخمول وما أصبح عليه من سلبية وهوان. ولئن كانت المناسبات والأعياد الدينية تحظى كلها باهتمام شعرائنا فيعدون لها العدة فان مولد الرسول العظيم سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ينال من اهتمام شعرائنا النصيب الأوفر والاهتمام الأكبر وذلك لما لشعرائنا بصاحب الذكرى عليه الصلاة والسلام من تعلق ومحبة. فلا يزال الشعراء يغتنمون كل سنة هذه المناسبة الكريمة ليجددوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليعطوه بعض ما يستحق من المدح والثناء. ذلك أن مدحه عليه الصلاة والسلام كان ولا يزال منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبة يتوق إلى الارتقاء إليها فحول الشعراء ممن يسعون جاهدين إلى تخليد أسمائهم بقصيد أو قصائد يظلون يذكرون بها كلما رددت في المجالس والمحافل فلكم تاق شعراؤنا أن تلحق أسماؤهم بفحول من أمثال حسان وكعب والبوصيري والشقراطسي وإقبال وشوقي وحافظ. غير أن مدحه ما كان ليقف عند حد ذكر شمائله ونشر فضائله وتبيين مكارمه ومحامده بل يتعدى ذلك إلى صرخات مدوية وشحنات روحية قوية ودعوات حارة إلى الإصلاح والتوجيه متبوعة في غالب الأحيان بابتهالات ودعوات خاشعة ترتفع بصاحب القصيد وسامعها وقارئها إلى عالم القداسة والروحانية. وسأقتصر في هذا العرض الموجز على عينات من تفاعلات شعرائنا التونسيين المعاصرين مع ذكرى المولد النبوي الشريف. وهذه المحاولة لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تستقصي كل ما قاله شعراؤنا المعاصرون في ذكرى المولد النبوي الشريف إذ لا يمكن على الأقل في الوقت الحاضر حصر كل ما قيل والإحاطة به نظرا لتوزع هذه المادة الغزيرة والمتنوعة في الصحف والمجلات. وما بين أيدينا من الدواوين الشعرية الحديثة يكفي لإعطائنا فكرة ولو مجملة عن ظاهرة تحية واحتفاء الشعر التونسي بالمولد النبوي واثر المولد في أنفس شعرائنا باختلاف أساليبهم وطرقهم في التعامل مع هذه الذكرى المجيدة. والذي نلاحظه في العينات التي سنقدمها طغيان النزعة الإسلامية وقوة العاطفة الدينية: فهذا أمير الشعراء الشاذلي خزندار يتوجه إلى صاحب الذكرى بقصيد يتألق فيه، تبدو منه جليا بلاغته وعمق رؤيته وقوة شاعريته يقول رحمه الله: هب لي بيـانـك في ممـدوحك الهـادي * مـن لـي بحسـان ذاك البلبـل الشـادي هـذا التـمـاسي وحسـن الظن رائـده * الله نـاشـدتـكم فـي الرائـح الغـادي هـذا لسـانـي وقـد أحـللت عقـدتـه * يا أفصح النـاس نطقـا فـي بني الضـاد وتغمر الشاذلي خزندار أنوار الذكرى فيرى في ليلة المولد أنوار صاحبها فيقول: في ليلـة أشـرقت من نـور صـاحبهـا* مـذ قيـل هـذي احتـفـالات بمـيـلاد ميـلاد طـه وحسـبي قـول محـكمـه * أعـظم بـه حـجـة قـامت لاشـهـاد ولكل شاعر من شعرائنا طريقته الخاصة وأسلوبه المتميز الذي يعبر به عن مشاعره فنجد الأستاذ الهادي المدني يتوجه إلى صاحب الذكرى بقصيد مطلعه: فيـك لا في سـواك يسمـو قصـيـدي * بـك يـا مصـطفى يـروق نـشيـدي وليس غريبا أن يظهر المدني هذا التعلق بالمصطفى عليه الصلاة والسلام وليس ذلك عجيبا منه فقد تشربت روحه محبة الإسلام ورسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، فالعقيدة إذا تمكنت من قلب شخص ملكت هواه وتحكمت فيه ووجهت مشاعره فتنقلب حاله وتتغير حياته. يقول المدني في نفس القصيد: إيـه يـا مصـطفى يـا شفيـع الخـلق * مـرحـى لـيـومـك الـمـشهـود يـا كـريـم النجـاد يـا ليـث عدنـان * ويـا ليـث فـخـر فـخـر الجـدود وهذه الأوصاف التي ذكرها الشاعر في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبر اصدق تعبير عن تعلق المسلم بالمصطفى وتفانيه في حبه وتتأجج تلك المشاعر وتتوقد تلك الأحاسيس كلما هل شهر ربيع الأول من كل عام. ويتوجه الأستاذ الهادي المدني إلى الأمة الإسلامية، امة محمد صلى الله عليه وسلم فيستنهضها من سباتها ويدعوها إلى إحياء الذكرى والإشادة بها. فهذا اليوم بالنسبة إليها هو الدهر وهو أعظم يوم فلقد شهد مولد سيد الأنباء صلى الله عليه وسلم. يقول المدني: أمـة المصـطفـى أشيـدي بـذكـرى * مـولـد المصـطفى أشيـدي أشيـدي هـو سـر الأسـرار روح المـعـانـي * هـو رمـز الزمـان بيـت القـصـيـد أمـة المـصـطفـى أشيـدي بـعـيـد * هـو في الخـافـقـين أعـظـم عـيـد أما صاحب الابتهالات الشيخ الناصر الصدام فانه يتوعد نفسه ويدعو عليها بالويل والثبور إن هي تقاعست أو تكاسلت عن مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأجمل الشعر وأعذبه فيقول: لا در دري ولا بـلـغـت أوطـاري * إن لم أجـد فـي رسـول الله أشـعـاري في سـيـد ظلمـة الدنيـا بـه انقشعـت * لمـا أفـاض عـليهـا فـيض انـهـار ويتطرق بعد ذلك إلى صاحب الذكرى فيعطيه من الأوصاف والخصال والمحامد ما تقول أبياته: مـحمـد منقـذ الـدنـيـا وسـيـدهـا * عيـن الوجـود واسنى صفـوة البـاري مـن نـوره عـلى الأكـوان قد سطعت * شمس الحقيقـة لـم تحجـب بـأقـمـار ويعبر الشاعر عن تعلقه برسول الله صلى الله عليه وسلم واستمداده من نوره فيقول: بـحبـله أنـا بـعـد الله مـعـتـصـم * ليـلي وصـبحـي واصـالي وابكـاري يهـواه قلبـي وان قصـرت في عمـلي* والله يـعـلـم اعـلانـي وإســراري ويخاطب بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: يـا مـن يـظللـه الغـمـام إذا مشـى * وبـه مـلائـكـة الـسـمـاء تـحـدق والمـاء فـجـر مـن أصـابـع كـفـه * يشـفـي الأوام معـينـه المـتـرقـرق ويعترف الشاعر للرسول صلى الله عليه وسلم بانحراف المسلمين عن نهج ربهم الرشيد وسبيله القويم ويصور الصدام ما حل بالأمة من فتن ومحن ويختم ذلك التصوير برجاء شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيعود المسلمون إلى ما كانوا عليه. حـدنـا عـن النـهـج القـويم ضـلالة * فـتـعـاورتـنـا فـتـنـة وتـفــرق نـرجو رســـول الله منـك شفــاعة * فـعسى بهـا مـنـا العـزائم تـصـدق فـننـيـب لله الرحـيـم ونـقـتـفـي * اثـر الهـداة السـابـقـيـن ونـلحـق



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.