القدس تحت الحكم الإسلامي: نموذج للتعايش السلمي بين الديانات

القدس تحت الحكم الإسلامي: نموذج للتعايش السلمي بين الديانات


إن حضور كلمة السلام في دين الإسلام حضور بارز واضح لا يحتاج إلى عناء شديد في سبيل الإقناع به وإقامة الأدلة عليه نلاحظ ذلك في العقيدة إذ يعبد المسلم ربّا أحد اسمائه الحسنى هو السلام ويتقرب إليه بطاعات تجسم في المسلم معاني السلم والتسليم لله رب العالمين من ذلك أن الصلاة التي هي عماد الدين تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم (السلام عليكم). ولا شك أن انعكاس هذه العقيدة التسليمية السليمة وتلك العبادات التي اساسها إسلام الوجه لله رب العالمين سيكون حاضرا بارزا وواضحا جليا في معاملات المسلم وعلاقاته بالآخرين سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. فحياة المسلم كلها سلام إلى أن يصل به المطاف إلى الجنة التي هي دار السلام، انه مدعو مع غيره إلى الدخول في السلم (ادخلوا في السلم كافة). وحرام على المسلم الظلم وحرام عليه العدوان (يا عبادي إني حرمت الزلم على نفسي وجعلته بينكم حراما فلا تظالموا) والمسلم الحق هو من سلم الناس من لسانه ويده والمؤمن الصادق هو من امنه الناس على أنفسهم وعلى أموالهم وعلى اعراضهم. لأجل ذلك فإن التعايش مع الآخرين في كنف السلم والأمن والعمل الجاد والبحث عن القواسم المشتركة هو نهج المسلم وسيرته التي يوجبها عليه دينه الحنيف (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). وأمة الإسلام لا يمكن أن تكون إلى أمة إبلاغ وإرشاد تأبى عليها آيات الكتاب العزيز السيطرة والإكراه (لست عليهم بمسيطر) (إنما عليك البلاغ). (انك لا تهدي من أحببت) (لا إكراه في الدين). وإذا كان ذلك هو منهج تعامل المسلمين مع عموم الناس ومع كل ما خلق الله وبث في كونه، فان خصوصية وتمييزا يلاحظان بجلاء في المكانة التي يعطيها الإسلام لاشقاء الإسلام من الديانات السماوية أعني بهما اليهودية والمسيحية وتبعا لذلك فإن حرمة تتاكد في دين الإسلام لبيع وكنائس اتباع هذين الدينين السماويين. * لقد خط الإسلام للمسلمين منهجا قويما للتعامل مع أهل الكتاب أساسه الرفق واللين والسماحة والعفو امرت بذلك عديد الآيات القرآنية مثل قوله جل من قائل (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم...) وقوله تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) وقوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين). لقد كانت هذه الآيات وغيرها نبراسا استضاء به المسلمون في تعاملهم مع أهل الكتاب من يهود ونصارى فكانت المانع لهم من كل حيف أو عدوان، كما أن آيات أخرى نصت على حرمة أماكن التعبد والتقرب إلى الله التي يتخذها اليهود والنصارى والمتمثلة في البيع والكنائس وحملت بعض هذه الآيات المسلمين مسؤولية الحفاظ عليها وصيانتها من كل عدوان يمكن أن يتسلط عليها (لولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع...) فدور المسلم لا يقتصر على عدم التعدي على هذه الاماكن المقدسة بل يتجاوزه إلى الوقوف في وجه كل من تحدثه نفسه أن يتعدى عليها أو يروع الآمنين المنقطعين للتعبد فيها. ذلك كان سلوك المسلمين في كل ظروفهم واحوالهم: لا يسفكون دما ولا يقتلون نفسا بشرية واحدة ولا يروعون آمنا مطمئنا، ولا يغتصبون حقا لآخر ولا ينتهكون أعراضا فكل ذلك حرام عليهم يامرهم بذلك ربهم ويذكرهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام ويوصيهم به قادتهم عندما يخرجون للفتح، هذا الفتح الذي يعرض على الناس: إما الدخول في الإسلام حينئذ لهم ما للمسلمين عليهم ما على المسلمين. وإما أن يبقوا على أديانهم آمنين مطمئنين يدفعون إن استطاعوا الجزية. أو يقاتلون في ساحات القتال لا لشيء إلا لأنهم وقفوا في وجه كلمة الإسلام أن تبلغ للناس أجمعين. فالمسلمون وهم يخرجون للفتح يوجههم قادتهم بما يؤكد ضرورة الحفاظ على الحرمات يقول أبو بكر الصديق للجيش الخارج للفتح (لا تقتلوا الأطفال والشيوخ والنساء لا تحرقوا الأشجار ولا تقتلوا الحيوان، ستجدون أناسا نذروا أنفسهم لعبادة الله في صوامع فاتركوهم وما نذروا أنفسهم إليه). وهي توصيات عمل بها المسلمون في كل فتوحاتهم ومعاركهم التي خاضوها. ولم يعرف تاريخ العرب والمسلمين جرائم حرب كما لم يسجل التاريخ على المسلمين إنهم خربوا عمرانا أو دنسوا مقدسا أو روعوا آمنا يناجي ربه بخشوع وسكينة. * وقد أعطى الإسلام منزلة متميزة للقدس وما حولها من ارض مباركة وتعددت في ذلك الآيات القرآنية من ذلك قوله جل من قائل (والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين)، وقوله تعالى (يا قوم أدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على ادباركم فتنقلبوا خاسرين) المائدة الآية 20 وقوله تعالى (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا شيء عالمين) الأنبياء الآية80. وقد جعل الله تبارك وتعالى المسجد الأقصى مسرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في معجزة خلد ذكرها القرآن الكريم وحفظ للارض المحيطة بالأقصى حرمة ومكانة تأتي مباشرة بعد الحرمين الشريفين مكة المكرمة والمدينة المنورة فقال جل من قائل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير) الإسراء. وقد وردت في فضل بيت المقدس أحاديث نبوية عديدة من ذلك مارواه الإمام البخاري عن أبي إمامة الباهلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من جابههم ولا ما اصابهم من البلاء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك). كما وردت في فضيلة زيارة بيت المقدس وشد الرحال إلى مسجدها وثواب الصلاة فيه أحاديث عديدة نذكر منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى). وقال عليه الصلاة والسلام (فضلت الصلاة في المسجد الحرام على غيره بمائه ألف صلاة وفي مسجدي هذا بالف صلاة وفي مسجد بيت المقدس بخمسمائة صلاة) رواه الإمام احمد. وفقد الفت في فضيلة بيت المقدس المطولات التي تضمنت باستقصاء كل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار الحافظة للقدس المكانة الرفيعة والمنزلة المتميزة في دين الإسلام وقلوب المسلمين. ومع ذلك ومع أنها أولى القبلتين ومسرى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فإن كل ذلك لم يزد المسلمين وهم اوج قوتهم واندفاعهم إلا رفقا ببيت المقدس وساكنيها ومجاوريها في الأرض المباركة ممن كانوا على غير دين الإسلام: يهودا أو نصارى فكان فتح بيت المقدس حدثا عظيما استحق الخروج له وشهوده من طرف الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقد استشار الصحابة في السفر إلى بيت المقدس فشجعوه على ذلك فتوجه غمر في تواضع ورفق وعقد صلحا بينه وبين أهل بيت المقدس. هو عهْدٌ خالِدٌ لما تضمنه من الحقوق التي أعطاها عن طواعية وطيب خاطر وسماحة لأهل تلك المدينة المباركة. وقد جاء في هذا العهد: (هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها انه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتفض منها ولا من خيرها ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم لا يكرهون على دينهم ولا يضار احد منهم ولا يسسكن بايلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيليا أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن وعليهم أن يخرجوا منها الروم فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وعلى ماله ومن أقام منهم آمن وعليه ما على أهل أهل ايلياء من الجزية ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم حتى يبلغوا مامنهم ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية ومن شاء سار مع الروم ومن شاء رجع إلى أهله لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا اعطوا الذي عليهم من الجزية كتب وحضر سنة 15 هجرية). شهد على ذلك: خالد بن الوليد–عمر بن الخطاب–عبد الرحمان بن عوف–معاوية بن أبي سفيان. والوضع الحالي لمدينة القدس غير الطبيعي والمتنافي مع كل المواثيق والقوانين الدولية والمتعارض مع جوهر القيم الدينية السماوية، يدعو كل ذوي الضمائر الخيرة: مسلمين ومسيحيين ويهودا ويدعوهم جميعا إلى التعامل مع القدس الشريف تعاملا يحفظ لهذه المدينة حرمتها وقداستها ويحقق الأمن والطمأنينة لكل من يقصدونها ويعيشون فيها ويجاورون على مختلف أديانهم وعقائدهم. والمسلمون يقدمون من موروثهم الديني وتاريخهم المجيد الحافل بالسماحة والرفق والرغبة في التعايش السلمي شهادة ناطقة بحسن نواياهم وإنسانية معاملاتهم مما يصلح كمنطلق وأساس عادل ومنصف لتعايش سلمي بين الديانات في هذه المدينة المقدسة.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.