الصيام مدرسة الاخلاص والرحمة والصبر

الصيام مدرسة الاخلاص والرحمة والصبر


أول ما يستفيده المسلم من صيام شهر رمضان هو الإخلاص لله رب العالمين والذي هو حجر الزاوية والشرط الأساسي لتقبل أعمالهم فالله تبارك وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) فالله جل وعلا أغنى الشركاء وسيقول يوم القيامة لمن أشركوا به غير الله في ما قدموه من أعمال (اذهب إلى من أشركته بي فليجازيك اليوم) (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) وإشراك غير الله في أي عمل من أعمال البر محبط للعمل انه الشرك الخفي الذي لا ينجو من الوقوع فيه إلا من ألزم نفسه التقوى وروضها بالطاعات وكان بالمرصاد لكل ما تأمر به وتزينه. * ومدرسة الصيام هي مدرسة للإخلاص ومراقبة الله في الصغيرة والكبيرة إن الصيام عبادة خفية ليس فيها تظاهر لا يعلمها من العبد إلا الله الذي لا تخفى عليه خافية فهو سبحانه وتعالى سميع بصير (يعلم دبيب النمل في الحجرة الصماء في الليلة الظلماء) انه سبحانه وتعالى (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) ولأجل ذلك فان كل ما يقدمه المسلم لربه من قربات خالصة لوجهه الكريم لا تشوبها أية شائبة من رياء وتظاهر وانتظار للشكر من الناس سيكون الجزاء عليها عظيما اذ يتولى المولى جل وعلا بنفسه مجازاة الصائم عن صومه الذي صامه إيمانا واحتسابا فالله وحده فهو الذي يعلم مقدار الأجر الذي أعده للصائم جراء امتناعه عن الطعام والشراب وكل الشهوات وكل ما يفسد الصيام مما يغضب الله وما لا يرضاه من عباده المسلمين وبالخصوص الصائمين كما اعد الله للصائمين بابا في الجنة لا يدخل منه إلا هم هو باب الريان. كما أن المخلصين في سائر أعمالهم اعد الله لهم من الأجر ما لا يحصل عليه سواهم فالمخلصون هم من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وكذلك من لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه هو تحت ظل العرش وكذلك من فاضت عيناه عندما ذكر الله خاليا. ولا يمكن للمسلم أن يطمع في نيل درجة الإخلاص إلا متى كان مجاهدا لهواه غير مطيع له عملا بالحديث الشريف الذي يقول فيه رسول الله صلى اله عليه وسلم “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت” ولم يكن متبعا لهواه لأن ذلك من المهلكات التي اخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال (ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه). وفي هذا المسلك القويم والطريق المستقيم كان سلف الأمة الصالح من أمثال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كثيرا ما عاتب نفسه العتاب الشديد على مرأى ومسمع من الناس همه الوحيد إرضاء ربه والفوز بعفوه وتجاوزه لذلك نجده يقول وهو المبشر بالجنة ها هو ذا يقول (لو نادى مناد كل الناس يدخلون الجنة إلا رجلا واحدا لقلت انك أنت يا ابن الخطاب) ويقول (ليت عمر لم تلده أمه ليته كان تبنه) ويقول (أتعلمون من يخطبكم انه عمير بن الخطاب الذي أعلى من شأنه الإسلام) وغير ذلك من المواقف الدالة على الإخلاص لله رب العالمين والخشية له وحده سبحانه وتعالى وكذلك كان يفعل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي تنزل في حقه وفي حق فاطمة الزهراء رضي الله عنها (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) الإنسان آية 8 وقد كان رضي الله عنه كثيرا ما يطلب ممن يخرجون وراءه ومعه من أصحابه ومساعديه أن يتركوه قائلا لهم (اذهبوا عني خفقان نعالكم فإنها مجلبة للشيطان) ويخاطب الدنيا بقوله (غري غيري يا غرارة أما أنا فقد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها). فالصيام يأخذ بيد المسلم في السبيل المؤدي إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى الذي يقول “تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين” (القصص الآية 83). فقد كتب الله على المسلمين صيام أيام معدودات لعلهم يتقون والتقوى زاد المؤمن في رحلته في هذه الدنيا وكدحه ومصيره إلى ربه للوقوف بين يديه في الدار الآخرة. التقوى هي الخشية لله والمراقبة له في الصغيرة والكبيرة وفي كل ما يأتيه المسلم من تصرفات “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين” (الأنعام الآية 162)عملا بالوصية المحمدية لأبي ذر رضي الله عنه (اتق الله حيث ما كنت) والتقوى في دين الإسلام وفي هدي سيد الأنام عليه الصلاة والسلام ليست بالتمني ولا بالتحلي بل هي ما وقر في القلب وصدقه العمل وليست بالظواهر والشكليات (إن الله لا ينظر إلى صروكم لا إلى وجوهكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم محل التقوى مشيرا إلى قلبه أو صدره (التقوى ههنا التقوى ههنا). الصيام يقوي التلاحم والتضامن بين المسلمين والصيام فيه جانب اجتماعي لابد أن يترك أثاره في سلوك المسلم وعلاقته بمحيطه ولأجل ذلك ارتبط الصيام بمعاني الكرم والجود والإحسان والرحمة والعطف وتفريج كروب المكروبين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أكرم الناس وكان أكرم ما يكون في شهر رمضان المعظم إذ يصبح كالريح المرسلة وارشد عليه الصلاة والسلام المسلمين الصائمين إلى هذا الباب من أبواب الطاعة والتقرب إلى الله والذي ألحت عليه الآيات القرآنية العديدة واعدة بالجزاء الأوفى والأوفر من ذلك قوله جل من قائل (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) البقرة الآية 261 وقوله جل من قائل (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران الآية 92 وزاد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى تأكيدا عندما نفى الإيمان عمن يبيت شبعانا وحوله من هو جائع حيث قال (لا يؤمن بي من بات شبعانا وجاره إلى جانبه جائع) وقال (من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم) وقال (من لا يرحم لا يرحم). وفي مقابل ذلك بشر رسول الله صلى الله صلي وسلم من يندفعون صوب فعل الخير وبذل المعروف بالأجر العظيم حيث قال عليه الصلاة والسلام (والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه). وقال (الراحمون يرحمهم الرحمان) وقال (من فرج على مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عليه كربة من كرب يوم القيامة) واخبر عليه الصلاة والسلام (أن من فطر صائما كان له اجر ذلك الصائم دون أن ينقص من اجر الصائم شيئا) وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بان الله تبارك وتعالى يعطي هذا الأجر (لمن فطر صائما على تمرة أو مذقة لبن أو جرعة ماء) ذلك أن القصد والنية الحسنة يكفيان في دين الإسلام للحصول على الأجر والثواب ولو كلن العمل قليلا ولذلك قال عليه الصلاة والسلام (اتقوا النار ولو بشق تمرة) وقال (يبلغ المرء بنيته ما لا يبلغه بعمله). كل هذه المعاني الدافعة إلى البذل والعطاء والإنفاق في سبيل الله هي التي تتوطن عليها أنفس الصائمين فيبذلون بسخاء وكرم ويعودون على من حولهم من المحتاجين والفقراء من المسلمين وكذلك يريدهم ربهم أن يكونوا دائما وأبدا وبذلك يبرهنون على أن ما فرضه عليهم ربهم من صيام لم يكن مجرد امتناع عن شهوتي البطن والفرج بل يتجاوز ذلك إلى ترك كل ما يغضب الله والاندفاع النشيط صوب الخير للتنافس فيه ابتغاء لمرضاة الله وطمعا في الحصول على ثوابه وجزائه الأوفى في الدنيا والآخرة. من اجل أن تعم الفرحة كل المسلمين فرض الله زكاة الفطر هذه المعاني من التضامن والتآزر بين المسلمين يأبى الله تبارك وتعالى إلا أن يجعل الصائمين يستصحبونها في أيام العيد ولأجل ذلك شرع الله زكاة الفطر التي هي (طهرة للصائم وطعمة للسائل) المحتاج وليتم التقبل من الله لصيام الصائمين أوجب عليهم أن يخرجوا هذه الزكاة التي نصاب فيها قبل خروجهم لصلاة العيد حتى يكفوا المحتاجين هم السؤال والطلب في أيام العيد التي هي أيام فرحة وحبور لا ينبغي أن يعكرها ذل المسألة فتعم الفرحة المشروعة كل المسلمين ولا يبقى بينهم محتاج لما يكفيه في قوته وقوت أهله في أيام الفرحة والشكر لله رب العالمين على ما وفق إليه عباده من أداء لعبادة الصيام. ولا شك أن مما ينبغي أن يتركه الصيام في أنفس من يؤذونه ويقومون به على أحسن الوجوه هو تلك العزيمة وذلك الصبر وتلك القدرة على التحكم في النفس امتثالا لأمر الله تبارك وتعالى أولا ثم تحسبا واستعدادا لكل منا يمكن أن يواجه المسلم في هذه الحياة من صعوبات وشدائد فيترك الصيام في القائم به من الصبر ما يستطيع أن يثبت فلا ينهار أمام ابسط امتحان، فالصبر مما وعد الله عليه بالأجر والثواب حيث قال جل من قائل (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر الآية10، وقد أمر المسلمون بالصبر والمصابرة (اصبروا وصابروا ورابطوا) آل عمران الآية 200، وبذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (واصبر وما صبرك إلا بالله) (فالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) الأحقاف الآية 35. كما اخبر المولى سبحانه وتعالى عن صفات من هم في مأمن من الخسران (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) العصر، الآيات 1 و2 و3. واخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن (الصبر نصف الصوم والصوم نصف الإيمان). وصيام شهر رمضان المعظم تدريب على الصبر والتحمل والثبات لنيل عظيم الأجر والثواب من المولى سبحانه وتعالى والصبر والمصابرة سبيل الأنبياء والمرسلين والخلص من عباد الله الصالحين الذين يشكرون ربهم عندما يعطيهم ولهم بذلك اجر ويصبرون عندما يصابون ولهم بذلك اجر وليس ذلك لأحد سواهم. وبهذا الصبر وتلك المصابرة واستفادة مما يحققه الصيام للمسلمين من قدرة على التحمل ومن إقدام وشجاعة واستبسال كان شهر رمضان المعظم شهر الصيام والقيام شهر الانتصارات والفتوحات في بدر الكبرى وفي فتح مكة وفي عين جالوت وفي المنصورة وفي كل المواقع التي خاضها المسلمون في شهر رمضان إذ لم يتعللوا بالصيام ليتركوا الجهاد والمجاهدة. فالذين يجاهدون يهديهم الله السبيل القويم (والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا) العنكبوت الآية 69. ولا شك أن المسلمين في مختلف أقطارهم وبلدانهم وحتى أولئك الذين يعيشون في ديار الغربة يستفيدون أيما استفادة من مدرسة رمضان أفرادا وأسرا ومجتمعات وينبغي عليهم أن يظلوا على العهد إلى أن يلقوا الله رمضان المعظم في عام قادم إن كانوا من أهل الحياة الدنيا.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.