الرحلات البارسيّة .. بقلم : صالح العَوْد

الرحلات البارسيّة .. بقلم : صالح العَوْد


اشتهر العرب و المسلمون بـ “الرحلة” منذ أقدم العصور ، و برز فيهم رجال عُرفوا بها و اشتهروا. فمن أعلام الرحلة الأوائل ، و نجومها الأماثل : الرحّالة محمد بن حَوْقَل الموصلي ، الذي بدأ رحلاته سنة (٣٣۱ هـ = ۹٤٣ م) ، و الرحالة شهاب الدين أحمد بن ماجد الذي يعد أشهر رَبان في زمانه ، و هو الذي هدَى قائد الأسطول البرتغالي فاسكو دي غاما في رحلته سنة (۹٠٤ هـ = ۱٤۹۹ م) ، من إفريقيه إلى بلاد الهند البعيدة ، حيث صحبه من مَالَنْدِي على ساحل إفريقيه الشرقية ، إلى كلكته في الهند ، و قد شملت “المحيط الهندي” و “بحر الصين”. و أبو عبد الله محمد بن بطوطة المغربي (۷٠٣ - ۷۷۹هـ = ۱٣٠٤ – ۱٣۷۷ م) ، و الذي بدأ رحلته - و هو في الواحد و العشرين من عمره - من الشمال الإفريقي إلى أن بلغ بلاد الصين ، و قد طال زمن ترحاله و تجواله مدة تسع و عشرين عاما - كما يذهب إلى ذلك توماس أبيركوني - و هي عمر رحلته التي “اجتاز فيها قارّتين ، و قطع مسافة خمس و سبعين ألف ميل: زار خلالها أربعا و أربعين دولة”. و هناك غير هؤلاء الفطاحل ، و إن كانوا أدنى منهم نَفَسًا في سعة الترحال ، و عمق التنقل ، و طول الأسفار. و في عصرنا هذا ، برز عالم “رَحَّالَة” شبيه بمن سبقوا ، حيث جدّد برحلاته الكثيرة ، و ذكّر الأجيال المعاصرة ، ما لأسلافنا من حب عميق للأسفار الهادفة ، في بلاد الله الواسعة ، و حِرْص شديد على الاستطلاعات المهمة و المفيدة ، حول ما خلق الله ، و أبدع و صوّر ، في البر و البحر ، و سَعْي دائب دائم في سبيل طلب العُلَى و المجد. هذا العالم الكبير ، هو الرحالة السعودي : فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العَبُّودي يحفظه الله تعالى ، و الذي كان يشغل منصب “الأمين العام المساعد” لـ “رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة”. فقد بلغت “رحلاته التوثيقية : بالصورة و الكلمة” و التي أودعها في العديد من كتبه- البالغة مائة و أربعة – (عشرين) كتابا ، تعتبر موسوعة رائدة في مجال الرحلات في العصر الحديث. و الرحلة لا تكون “مفيدة” إلا بِجَنَاحَيْنِ اثنين : “الغاية” ثم “المكان” : فـ “الغاية” من الرحلة - و هي كثيرة - تتنوع أو تتوزع بحسب الأفراد ، أو الأمزجة ، أو الحوافز ، و حتى الأسباب ... فهناك رحلات (مادية أو تجارية) ، و رحلات (استطلاع أو استكشاف) ، و رحلات (سياحة أو زيارة) ، و رحلات (دعوة أو تبشير) ، و رحلات (علاقة اجتماعية أو صلة دبلوماسية) ، و غير ذلك من المقاصد المقبولة أو المرذولة. أما “المكان” فأرض الله واسعة ، كما قال عز من قائل : (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذبِين) (أَلَمْ تَكُنْ أَرضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فيها) فرفاعة الطهطاوي ، و مالك بن نبيّ ، و عبد الغني الطنطاوي ، كانت رحلاتهم جميعا من أجل (الدراسة) و التخصص في فرع من فروع العلم و المعرفة. و محمد السنوسي ، و عبد الكريم الجهيمان ، كانت رحلة كل واحد منهما ، مجرد رحلة (استطلاع و سياحة) ، ما عدا يوسف غنيمة الذي أضاف إلى سياحته غاية أخرى و هي “الاستشفاء”. و فيليب حِتّي ، و أحمد أمين ، و حمد الجاسر ، كانت رحلاتهم (علمية و ثقافية). أما علي المنتصر الكناني ، و محمد ناصر العبودي ، فكانت رحلتهما (دعوية) ، و قد يلحق بهم أيضا - مرة أخرى - رفاعة الطهطاوي : الذي كان إمامًا للصلوات ، و مرشدا دينيًا للبعثة التعليمية الأزهرية الأُولَى إلى باريس ، و التي حلّت سنة (۱۲٤۲ هـ = ۱٨۲٦ م) ، حتى لا يزيغ فرد من أفرادها عن الصرط المستقيم. ثم إنّ هؤلاءِ الواردين ، منهم من جاءت رحلته مجرّد (مقال) منشور في مجلّة من المجلات ، مثل ما فعل الدكتور فليب حتِّي ، فقد كتب مقالا بعنوان : “يومان في باريس : في المكتبة الأهلية العمومية ، و في المدرسة الأهلية للغات الشرقية الحية” ، نشرته مجلة (الهلال) المصرية في الجزء الثامن من السنة (٣۲ هـ) بتاريخ (٨ شوال ۱٣٤٣ هـ = أوَّل ماي ۱۹۲٥ م) و قد صدّرته بهذا التّقديم : “سافر الدكتور فليب حتّى أستاذ التّاريخ في جامعة بيروت الأمريكية إلى الولايات المتّحدة ، بدعوة من جامعة كولومبيا الشَّهيرة ، للإلقاء بعض المحاضرات فيها. و قد طلبنا إليه أن يواصل الهلال في أثناء رحلته بمباحثه الشّائقة و ملاحظاته السّديدة. و هذه الرّسالة هي أوّل الرّسائل التي بعث بها إلينا [ المحرر ]”. أو الأستاذ الكبير الشّيخ علي الطنطاوي ، الذي كتب مقالا ممتعًا و في صحيفة “الشّرق الأوسط” بتاريخ ( ٨/٣/۱۹٨٤ م) عن شقيقه “عبد الغني الطّنطاوي” لمّا سافر إلى فرنسه في بِعثة سورِية للدِّراسة ، بعنوان : “أخي المُبْتَعِثُ” ص۱٠ ، و كان مطلع المقال : “الحادث الأكبر في حياتي أنا ، و في حياة بلدي هو : حرب سنة ۱۹۱٤ التي هتكت السّتار بيننا و بين أوربه ، فدخلت علينا بخيراتها و بشُرُورِهَا ، و علومها و فسوقها ، فبدّلَت بذلك طرائق معيشتنا و أساليب تفكيرنا ، و كانت كأنّها صخرة كبيرة أُلْقِيَتْ في البُحَيْرَةِ السّاكنة ، فلم تُحدِث على سطحها دوائرٌ ، و لكن قَلَبَتْهَا قلبًا ، فجعلت أسافلها أعاليها ...” و منهم مَنْ ذَكَر “رحلته” عَرضًا في كتاب ، فبدت قصيرة ، أو محدودة العبارة ، سواء في الذّكر أو الفكر ، و هو ما جاء على لسان الوزير العراقي يوسف غنيمة. ومنهم من اتَّسعت “رحلته”، فجاءت صفحات طويلة بين دفَّتي كتاب، حمل عنوانا مميَّزا انطبعت فيه نفسية المؤلّف: فعبد الكريم الجهيمان، سطَّر رحلته إلى أوربه في كتابه: “ذكريات باريس”، واستغرق الحديث عن فرنسة وحدها قرابة نصف الكتاب، ثمَّ أجمل الكلام فيما تبقَّى عن: “بلجيكه. هولانده. سويسره. إيطاليه”، فبذلك يكون كتابه – وإن كان حول رحلة أوربية شاملة – قد حمل لفظة “باريس” من باب التَّغليب. ومنهم من خصَّ “رحلته” بالتأليف، فأفردها بمصنَّف شامل كامل، أتى فيه بوصف جميع ما رأى وسمع وسعى، فكانت رحلة خالدة في عالم المطبوعات. وممن صنع هذا، رفاعة الطهطاوي، وسمى رحلته: ب: “تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز أو الديوان النَّفيس بإيوان باريس”، ولعلَّ رحلته هذه تُعتبر الأُولى من نوعها في عالَم الرَّحلات العلْمية، إلى الديار الباريسية، باللغة العربية، وقد أشار إلى ذلك في مقدِّمة كتابه حيث قال: “...خصوصا وأنَّه من أوَّل الزَّمن إلى الآن، لم يظهر باللغة العربية على حسب ظني، شيء في تاريخ مدينة باريس كرسي مملكة الفرنسيس، ولا في تعريف أحوالها، وأحوال أهلها...”. وكانت رحلة الطهطاوي هذه سنة (١٢٤٢ھ=١٨٢٦م)، وقد طبعت أول طبعة في مصر سنة (١٣۲٣ھ=١٩٠٥م) في ٢٥٠ صفحة من القطع المتوسط. وممن حذا حَذْوَه، أو كان منه قاب قوسين أو أدنى: الشيخ محمد السنوسي في رحلته المسماة: “الاستطلاعات الباريسية في معرض سنة ١٨٨٩م”، والكتاب مطبوع بتونس في (٢٧٧) صفحة من القطع المتوسط، سنة (١٣٠٩ھ=١٨٩٢م).



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.