الخطاب الديني في الفضائيات والانترنات (2)

الخطاب الديني في الفضائيات والانترنات (2)


لم يعد اليوم المسجد والجامع والمدرسة والمعهد والكلية هي وحدها المقصودة لتلقي الخطاب الديني فقد زاحمتها ونافستها إلى درجة افتكاك الجمهور منها وسائل تبليغ أخرى هي في تطور سريع جدا بدأت بالصحيفة والمجلة والكتاب ثم امتدت إلى المذياع والشريط الصوتي المسجل لتتعزز بالمشاهد المرئية التي بدأت بالتلفاز لتنتهي بالفضائيات والبث المباشر الذي يمكن أن ينطلق من داخل الحي الواحد ثم جاءت الأنترنات والمواقع الالكترونية في هجمة لم يعد فيها شبر من الكرة الأرضية في منأى عن أن تصله المادة التي تبثها هذه المواقع والتي تستحدث في كل لحظة وبكل لغة، كل هذه الوسائط وجد فيها الخطاب الديني موضعا هو كل يوم في اتساع، فأمر استحداث هذه المواقع ميسور ومتاح من حيث الكلفة ومن حيث السهولة وهو مفتوح على مصراعيه لمن هب ودب من الأفراد والجماعات والهيئات ولا سبيل إلى منعه ومحاصرته فلقد ولى وذهب إلى غير رجعة زمن الانغلاق بهذا الانفجار الإعلامي المعلوماتي الذي هو سلاح ذو حدين فمثلما أنه يمثل فرصة ذهبية لتسويق الذكاء والاقتصاد اللامادي والمشاركة الفعلية في الحداثة في كل مجالاتها فإنه أيضا طامة كبرى ومصيبة عظمى فهو مدخل لذوي النوايا الخبيثة يمكنهم بواسطته أن يأتوا على الأخضر واليابس ويمكنهم أن يزعزعوا الثوابت ويبثوا الفرقة والفتنة ويمكنهم أن يروجوا للشر ويرغبوا فيه فيدفعوا بذلك الأغرار والعوام وأكثر الناس إلى ما لا تحمد عقباه وقد كانوا قبل ذلك آمنين مطمئنين فإذا بهم لقمة سائغة يتداعى عليها من هب ودب وهؤلاء لا يؤمنون إلا بما رسخ في أذهانهم وما سد عليهم كل منافذ الوعي، إنهم يتمثلون فيمن أعمى التعصب والحقد والكراهية بصائرهم ويتمثلون في أولئك الذين يروجون لكل رذيلة ويحاربون كل فضيلة حتى بلغ الحد بالبعض منهم إلى عبادة الشيطان والترويج لضلالاتهم بكل منكر من الأقوال والأفعال، إنهما الطرفان المتناقضان ظاهرا الملتقيان غاية وهدفا فالنتيجة لأعمالهما واحدة ألا وهي تقويض ما ظل لقرون طويلة منة ونعمة يتفيأ ظلالها الإنسان : نعمة الأمن والاستقرار والسكينة والطمأنينة والتماسك والتوازن سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو على مستوى الأسر والمجتمعات... ليست هذه صيحة فزع نطلقها ولكنها الحقيقة الواقعية المرة والمؤلمة التي آلت إليها الأوضاع ليس في بلد دون آخر بعينه أو في مجتمع دون سواه... إنه وضع عام يتفاوت في النسبة ولكن يشترك في الاستهداف. التبصير لا يستغنى فيه عن أحد وهل الوقوف مكتوفي الأيدي أو المواجهة الظرفية والجانبية لهذه المخاطر يكفي أو يبرر ؟ الجميع اليوم يجمع على وجوب التصدي وفي أسرع وقت ممكن وبكل وسيلة متاحة بالتحذير والتبصير والتنوير والتحصين، وفي هذه المهمة الصعبة لا يكن الاستغناء عن كل مساهمة بناءة يتحقق بها التقدم في تنفيذ خطة إعادة الأمور إلى نصابها، أي إعادة التوازن والوسطية والاعتدال إلى الأفراد والمجتمعات في كل تصرفاتها ومواقفها وما تأتيه وما تتركه إنها مهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة بل إنها إذا ما توفرت النوايا الصادقة المخلصة مثمرة بسرعة لأنها تخاطب في الإنسان ما خلق الله فيه من ملكات وما جبل عليه من نقاوة وطهارة وسلامة وحب للخير وانحياز إليه عندما لا يغيب ولا يخفت صوت الخير وعندما يكون هذا الصوت صوت المصداقية والإخلاص وحب الخير للغير ابتغاء لوجه الله. والخطاب الديني الرشيد الرصين المتوازن المتفتح العقلاني والرباني هو البلسم وهو الملاذ إذ لا يرجع الناس إلى الجادة والطريق المستقيم الذي هو المحجة البيضاء التي لا يختلف ليلها عن نهارها ولا يزيغ عنها إلا هالك لا يرجع الناس إلى هذا المعين الصافي إلا خطاب ديني واقعي متوازن يستند إلى أصول الدين وثوابته من كتاب عزيز أحكمت آياته وسنة نبوية طاهرة هي المبينة لهذا الكتاب ينفذ إلى مقاصد هذين الأصلين الثابتين المحفوظين بعهد من الله سبحانه وتعالى علماء أعلام فقههم الله في الدين وعلمهم التأويل بالمعنى الواسع والجميل للفقه لا بالمعنى الضيق الحرج والذي ساد لقرون طويلة وها هو اليوم يطل من جديد في شكل فتاوي يلقي بها دون تقدير لعواقبها أدعياء لم يتمسكوا من الدين إلا بشكله ورسمه والحال أن الدين جوهر ومقصد ولب وروح وغاية شريفة وعلاقة في منتهى السمو والرفعة والإشراق والنورانية بين العبد وربه هي حب متبادل وإذا كان الأمر كذلك ولا يمكن أن يكون إلا كذلك فإن الأحقاد والدماء والدموع والأحزان والفتن كل ذلك لا مكان له في قلب المؤمن وعقل المؤمن وتصرفات المؤمن مع الجميع : مع من آمن ومع من لم يؤمن اقتداء بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لم يزد عن أن قال (اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون) قال ذلك وهو في أشد ساعات الضيق واليأس من القريب والبعيد إلا من الله ربه ومولاه، وقال مثل ذلك وهو يدخل مكة فاتحا منتصرا : “ماذا تروني فاعلا بكم اليوم؟” قالوا : “أخ كريم وابن أخ كريم” قال : “اذهبوا فأنتم الطلقاء” ما أجمله من هدي وما ارفعه من خلق ملك به رسول الله صلى الله عليه وسلم القلوب فأحبته وأقبلت على الدين الذي جاء به تنهل من معينه العذب فإذا بمن كانوا غلاظا شدادا متنازعين أعداء الداء يصبحون أحبة متآلفين متآخين. ما أشبه اليوم بالأمس نفس النهج والسبيل الذي سلكه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ينبغي أن تترسم خطاه فهو نهج جرب فصح، نهج الوسطية والاعتدال والتوازن والتكامل، نهج الجهد المستمر لبلوغ الأفضل والأحسن، نهج المراقبة لله ونشدان رضوانه، نهج تقوى الله في دين الله وأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الخطاب الديني المحرض يتهدد كل شيء إن الوسائط المتاحة لترويج وإشاعة الخطاب الديني المنشود والمطلوب بصفة متأكدة في هذه المرحلة من تاريخ المسلمين كثيرة وعديدة وهي متطورة وقد سارع إليها خطاب ديني مشتت موزع متسرع غابت فيه وعنه في الكثير من الأحيان المقاصد والغايات والكليات الإسلامية فجاءت ثمرة لهذا الخطاب في الفضائيات والانترنات والمواقع الالكترونية، مادة أقل ما يقال فيها انها تهددت من جرائها وحدة الأمة واستهدف كل ما كان من قبيل الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها فسفك المسلم دم المسلم بتحريض من هذا الخطاب الديني! وانتهك عرض المسلم بتحريض من هذا الخطاب الديني! وذهبت أو تكاد تذهب تلك السكينة والطمأنينة والرحمة والمحبة التي كان عليها والى عهد قريب الفرد والمجتمع. الكلمة الطيبة تصل بسهولة إن الكلمة الطيبة الصادقة المخلصة الواعية والواقعية المنطلقة من فهم عميق للنص ووفاء حقيقي لمقصده والمدركة للمستجد والمستحدث في حياة الأفراد والمجتمعات هذه الكلمة تنفذ إلى القلوب والعقول وهي في أمس الحاجة إليها لم تعرض عنها رغبة في سواها إلا عندما غابت عنها وضاق الحيز المخصص لها. إن تجارب عدة تثبت صحة وصدق التمشي المنشود والمطلوب إنها تجارب لا ندعي لها الكمال ولا نطالب باستنساخها واستعادتها ولكن ما ندعو إليه ونطالب به مخلصين لوجه الله هو أن يستمر خطها ونهجها، الذي هو نهج الواقعية والمصداقية والوسطية والاعتدال، نهج الأخذ بالأسباب ودعوة المسلم ليجسم الخيرية الفعلية للأمة الإسلامية في هذه الحياة الدنيا وذلك بالانخراط بتلقائية وحماس وإخلاص في كل المبادرات والمشاريع الهادفة لتحقيق هذه الغاية النبيلة التي هي عزة المسلمين وقوتهم وتبوئهم لمكانتهم الرفيعة بين الأمم. لقد تجاوب مع تبليغ مثل هذا الخطاب الديني التنويري التبصيري الواقعي عدد كبير من شيوخنا وأساتذتنا الأفاضل رحم الله من غادرنا منهم إلى دار البقاء وحفظ الله وأمد في أنفاس البقية الباقية منهم وذلك في حصة المنبر الديني التي بثتها لأكثر من عشر سنوات القناة الفضائية السابعة فقد تابع هذه الحصة جمهور عريض في داخل الوطن وخارجه، هناك في أوروبا حيث جاليتنا التي تعد بعشرات الآلاف ومن المناطق المتاخمة لحدودنا مع الشقيقتين ليبيا والجزائر، وكان نجوم هذه الحصة – التي بدأت كتجربة أولى لمدة خمس عشرة دقيقة لتصل إلى ثلاثين وحتى أربعين دقيقة – شيوخ بررة علماء أعلام كان خطابهم خطاب السماحة والتيسير والرفق والتنوير والدعم والمساندة لكل ما عاشته البلاد من انجازات رائدة في مختلف المجالات والميادين : في العلم والعمل في التضامن والتآزر، في الحفاظ على البيئة، في النظافة في ترشيد الاستهلاك في التبرع بالأعضاء، في الترويح وفي حسن الجوار وفي الأمن والطمأنينة ونبذ العنف في كل ذلك انطلقت تبينه وترسخه ثلة نيرة من شيوخنا البررة نذكر منهم مترحمين عليهم – فقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه – أصحاب الفضيلة الشيوخ : مصطفى الغربي ومحمد المازوني ورشيد كاهية رحمهم الله كما نذكر الشيخ الحبيب النفطي والشيخ محيي الدين قادي والشيخ قدور الريفي ونذكر الأساتذة فريد قطاط وعبد الرحمان الكبلوطي وحاتم الحمزاوي وغيرهم... إنها تجربة جديرة بالاستعادة والدراسة والاستفادة منها في صياغة خطاب ديني يدلل على ما نريد تبليغه بالآية والحديث والأثر والاستنتاج والاستنباط والاجتهاد المستنير، إذ بدون ذلك (وفاقد الشيء لا يعطيه)، لا نستطيع أن نواجه ونصد هذا السبيل الجارف من الخطاب الديني الذي تتلقاه ربات بيوتنا ويتلقاه شبابنا ويتلقاه كهولنا من فضائيات هي أشبه ما تكون بالفسيفساء المذهبية والطائفية التي يخشى منها على ما ظللنا نعده في هذه الربوع مكسبا وقاسما مشتركا أعظم بين أفراد شعبنا جعلت منه شعبا متجانسا منسجما، الدين فيه عامل تماسك وتوازن وتسامح وتفتح. إن هذه الربوع من ديار الإسلام نريد لها مخلصين أن تظل على ما أنعم به الله عليها. بل نأمل ولم لا – وقد كانت هذه الربوع كذلك إلى ماض قريب جدا مركز تنوير وإشعاع، ولم لا يقتحم عطاء هذه الربوع بجسارة تلك الفضائيات التي ظللنا إلى الآن متلقين لما تبثه خصوصا وقد عبر بعض أصحاب هذه الفضائيات عن الاستعداد لإفساح المجال لذلك وهو ما عبر عنه الشيخ صالح كامل صاحب قناة اقرأ وقنوات الارتي ART عندما اجتمع بثلة من أعضاء المجلس الإسلامي وشيوخ تونس.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.