التبرع بالدم تجسيم لفضيلتي الرحمة والايثار

التبرع بالدم تجسيم لفضيلتي الرحمة والايثار


من القيم الأخلاقية والاجتماعية التي ازداد في السنوات الأخيرة التأكيد على أهميتها وشديد الحاجة اليها قيمة التآزر والتضامن بين بني الانسان في كل المجتمعات البشرية وذلك من أجل تجاوز الصعوبات وتلافي المخاطر والتغلب على الأزمات وفي سبيل مزيد التوعية بأهمية هذه القيمة الأخلاقية والاجتماعية تأسست عديد المنظمات والهيئات الاقليمية والدولية والوطنية واستعملت هذه المنظمات والهيآت كل وسائل التأثير والتوعية واتخذت الحوافز والتشجيعات وأسندت الأوسمة والميداليات للذين انخرطوا في سلكها واستجابوا لنداءاتها وأعطوا للناس أمثلة عملية من ممارساتهم وقناعاتهم بما تدعواليه هذه الهيئات الانسانية وازدادت الحاجة الى مثل هذه المنظمات الانسانية والاجتماعية التي تشجع على التضامن بين بني الانسان سواء كان ذلك عند وقوع الأزمات التي تلاحقت ويا للأسف الشديد في السنوات الأخيرة أو تحسبا لوقوعها سواء كان ذلك بالنسبة للمجتمعات أو الأفراد اذ كثيرا ما تحل بالانسان نائبة لا يمكن تجاوزها الا بما يجده من سند وعطف وعون ممن سمت مشاعرهم وانطلقوا يفعلون الخير حبا للغير وتفريجا لكروب المكروبين ولاشك ان البعض من الناس يندفعون بصفة تلقائية لفعل الخير ومساعدة الغير لا يبتغون من وراء ذلك جزاء ولا شكورا وهذا النفر من الناس نجده في كل المجتمعات البشرية ولكن هؤلاء قليل والغالبية العظمى من الناس انما يدفعهم الى الانخراط في العمل الانساني والاجتماعي الخيري اما نيل الثواب واجر على صنيعهم الحسن وهؤلاء هم المتدينون الذين يؤمنون بالثواب والعقاب ويعملون لدنياهم وآخرتهم ويربطون عالم الغيب الآخرة بعالم الشهادة الدنيا أو أولئك الذين يتوقون الى خلود الذكر وبقاء الأثر فتنتفع البشرية بما يبذلونه ويقدمونه من هبات وعطايا وما يتركونه من وقفيات من بعدهم ينفق منها على تقدم العلوم والمعارف واكتشاف الأدوية والعلاجات لبعض الأوبئة والأمراض الفتاكة التي رأوا ما تسببه للبشرية من مآس وآلام ومن الميادين التي ازدادت الحاجة الى التحمس لها والوعي بأهميتها ميدان التبرع بالدم من أجل إنقاذ أنفس بشرية محتاجة الى قطرات دم من متبرع تعيد اليها الأمل في الحياة وهذا الصنف من المصابين هم أولئك الذين يتعرضون الى حوادث مرور أو حوادث في أجسامهم كالنزيف وكثيرا ما يحصل عند الوضع أو إجراء عمليات جراحية على مختلف اجزاء الجسم وأكثرها دقة في بعض الأحيان ونظرا الى الاحتياج الى كميات من الدم من مختلف الأصناف فمن الضروري ان تكون هذه الكميات جاهزة على ذمة مثل هذه الحالات الطارئة وحفظ هذه الكميات الكبيرة من الدم أصبح اليوم ميسورا وصيانتها فضلا عن تصنيفها حسب نوعيتها ممكن اليوم وسهل بفضل التقدم العلمي والطبي والتجهيزاتي وتظل الحاجة الى المزيد من كميات الدم ماسة ما دام لا يزال غير ممكن الاستعاضة عن الدم بسائل آخر يقع تصنيعه واستحضاره من طرف أهل الذكر والاختصاص ومن ألطاف الله سبحانه وتعالى بالانسان ان الكميات الجارية في عروقه وشرايينه ومختلف أجزاء جسمه قابلة للتجديد السريع بحيث ان اقدام الانسان على التبرع بين الفينة والأخرى بكميات من دمه لا يتسبب له في أدنى ضرر بالطبع عندما يكون في صحة جيدة ومادام الضرر مستبعدا وغير وارد وكمية الدم الضرورية لجسم الكائن البشري تتجدد بصفة تلقائية وآلية فان الإقدام على تقديم هذه الخدمة الجليلة لمن هو في امس الحاجة اليها لهو من أعظم أفعال الخير ومما ينم عن قمة الانسانية والرحمة والرأفة ولن ينضب هذا المعين الخير ما دام في هذا الكون عمران ومما يغذي هذا المعين ويقويه في الانسان ومما يدفعه الى فعل الخير وبذل المعروف والسعي للتخفيف من آلام المصابين وتفريج كروب المكروبين تغلغل الإيمان في قلبه وترسخه فيه وهو ايمان لا يصح ولا يستقيم الا اذا جعل المتحلي به ومدعيه يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فقد قال عليه الصلاة والسلام (لا يكون احدكم مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) والانسان يحب لنفسه الحياة والسلامة والأمان ورغد العيش ومثلما انه مأمور بان يسعى الى الحفاظ على حياته وسلامته وامنه ويجتهد في سبيل تحسين مستوى معيشته فانه مطلوب منه ايمانيا ان لا يتسبب في موت أو إلحاق أدنى ضرر بغيره ومطلوب منه أن لا يدخر كل ما في وسعه من أجل أن تحفظ حياة أخيه الانسان على يديه وبمساهمة ولو بسيطة منه وهو في هذا الصنيع مأجور ومثاب جزيل الثواب ومكتوب في صحائفه كانه أحيا الناس جميعا فقد قال جل من قائل (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) المائدة ورغم ان الاحياء والإماتة هي بيد الله فانه سبحانه وتعالى هو المحيي وهو المميت الا انه سبحانه وتعالى اعتبر المساهمة في الحفاظ على حياة من لا يزال في عمره متسع فكأنه محي له وله ثواب من احي الناس جميعا وهو ثواب لا حد له ولا حصر وقد وقع التعبير في الآية الكريمة بكلمة النفس على إطلاقها وعمومها دون تقييدها بالنفس المؤمنة ولا شك ان النفس المؤمنة مقدمة في الإنقاذ وتفريج الكرب على سواها ولكنه مع ذلك يبقى إحياء وانقاذ للنفس البشرية وتعاليم الاسلام المتسمة بطابع الرحمة تتجاوز الانسان الى كل ذي كبد حرى، فقد قال عليه الصلاة والسلام (في كل ذي كبد حرى رحمة) كما أخبر عليه الصلاة والسلام عن استحقاق دخول الجنة من طرف رجل وجد كلبا يلهث يمتص الثرى من شدة العطش في يوم شديد الحر فقال هذا الرجل لقد أصاب هذا الكلب ما أصابني من العطش، واشفاقا عليه ورحمة به وهو كلب نزل هذا الرجل الى قعر البئر وأخرج له ماء وأروى به عطشه فنظر الله تبارك وتعالى في عليائه الى رحمة هذا الرجل بالكلب فرحمه وأدخله الى الجنة ومادة الرحمة في الدين الاسلامي الحنيف وسيرة نبينا الكريم غزيرة لم تترك مجالا من مجالات الرحمة والرأفة والرقة إلا ودعت اليه ورغبت فيه فالله في عقيدة المسلمين هو الرحمان الرحيم ومن الرحمة والرحمان اشتق كلمة الرحم الذي أوكل به ملكا ينادي اللهم صل من يصلني واقطع من قطعني واخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه ان الراحمين يرحمهم الرحمان وان من لا يرحم لا يرحم وان راحم من في الأرض مستحق لرحمة من في السماء وهو الله سبحانه وتعالى، واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم ان من لا يرحم الصغير ليس منه عليه الصلاة والسلام ولقد كان عليه الصلاة والسلام نموذجا ومثالا للرحمة وكيف لا والله بعثه رحمة للعالمين (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) الأنبياء، وقال في حقه (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة، وتفريج كرب مكروب في هذه الحياة الدنيا هو استحقاق لتفريج كرب من كروب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه واستقصاء هدي الاسلام في مجال الرحمة والرأفة والنجدة للملهوفين مما لا يمكن الإتيان عليه أو حصره ويكفي قوله عليه الصلاة والسلام أحب العباد الى الله أنفعهم لعباده وحب الخير للغير والسعي من أجل تحقيقه وجلبه هو شعار المسلم وسمته وهو الخط المميز لكل تصرفاته وتحركاته فلا عجب والأمر كذلك ان لا تجد الهيآت الانسانية والخيرية والاجتماعية أدنى عناء في إقناع المسلم بالانخراط في عملها الانساني الهادف الى التخفيف قدر الطاقة على المصابين والمبتلين من عباد الله ولا شك ان تشريعات الاسلام ومقاصدها الساعية الى دفع الضرر وجلب النفع هي خير ما يستند اليه ويعتمد عليه فالمحافظة على الأبدان احدى الكليات التي راعتها الشريعة الإسلامية بل اذا تعارضت مصالح الأبدان مع أوامر الدين قدم الحفاظ على الأبدان والضرر يزال والضرورات تبيح المحظورات وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله والمصالح في الاسلام ثلاث : مصلحة ملغاة ومصلحة مرعية معتبرة ومصلحة مسكوت عنها مرسلة وبالاعتماد عليها يمكن لفقهاء الاسلام وعلماء الشريعة ان ييسروا على الناس كل عسير صعب شريطة ان تكون هذه المصالح حقيقية لا وهمية واذا ما توصل العلم والطب في هذا العصر الى إجراء أدق العمليات واذا ما تمكن الأطباء من حقن المرضى بكميات من الدم محتاجون اليها واذا استطاعوا زرع بعض الأعضاء السليمة في مكان أعضاء أخرى في جسم الانسان تعطلت عن القيام بدورها وأصبحت الحياة بها بالنسبة لذلك المريض شبة مستحيلة فان تساؤلات عديدة تفرض نفسها على علماء الدين والفقهاء والمختصين ليجيبوا بالجواب الشرعي الديني على مثل هذه العمليات الطبية التي أصبحت ممكنة ويسيرة عندما توجد كميات الدم مطلوبة أو الأعضاء المتبرع بها والذي نريد ان نؤكد ونلح عليه في هذا المجال ان قافلة العلم والطب لن تتوقف وهي في سعي دائم وتقدم سريع وما على أهل الذكر والاختصاص الديني الا ان يختاروا أحد الموقفين: أما موقف الرفض القطعي والتام لكل ما يتوصل اليه العلم والطب من اختراعات واكتشافات وبهذا الموقف يصبح لا معنى لصلوحية الدين الاسلامي لكل زمان ومكان ولا أظن ان هذا الموقف يتفق مع ما سبق أن أشرنا اليه آنفا. أو الموقف الثاني الذي ينبغي اختياره والحسم فيه بصفة نهائية وهو ان نظل بجانب العلم والطب في مختلف اختصاصاتهما نرشد مسارهما ونبارك مسعاهما في ما لا هدف له الا اسعاد الانسان والتخفيف من آلامه وأتعابه ما لم يكن ذلك على حساب قيمة خلقية أو دينية ثابتة ولا شك ان في هذا الميدان الكثير من المخاطر والمحاذير وهي مخاطر زاد طينتها بلة ان مقود العلوم والطب وسائر المعارف هو اليوم بأيدي أناس قد لا تكون لهم الخلفية الدينية والأخلاقية التي نبتغيها واذا كان أمر المسائل المستجدة والمستحدثة في المجالات العلمية والطبية يحتاج منا الى مثل هذا الحسم السريع وهو ما بادرت اليه فعلا بعض الكليات والجامعات الإسلامية والمجامع الفقهية والمنظمات الطبية الإسلامية فان أمر التبرع بالدم لم يعد مبررا فيه للمسلم التردد والتساؤل طالما انه غير مسبب للضرر سواء للمتبرع أو للمتبرع له، انه واضح التحقيق للمصلحة وبين للمساهمة في إنقاذ واحياء نفس بشرية تكاد تفقد الحياة، ولهذا فان تحقيق الكفاية فيه للمسلمين واجب عليهم جميعا يأثمون ان هم تمالؤوا على عدم القيام به، وهم جميعا يتحملون وزر هلاك مسلم من جراء عدم حصوله على ما يحتاج اليه مما يبقي على حياته من الدم أما على المستوى النظري فان شيخ الاسلام محمد العزيز جعيط رحمه الله الذي تولى وظائف التدريس بالجامع الأعظم وبالمدرسة الصادقية وسمي مفتيا مالكيا ثم شيخا للجامع الأعظم وفروعه ثم أصبح شيخ الاسلام المالكي وتولى وزارة العدل مع الاحتفاظ بخطة مشيخة الاسلام وسمي على إثر الاستقلال مفتيا للجمهورية التونسية وقد ترك الفقيد عديد الآثارالعلمية الجادة بعضها مطبوع وبعضها لا يزال مخطوطا لما سئل عن معالجة المريض بنقل الدم اليه قال: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد فقد سئلت من قبل وزارة الصحة على حكم المداواة بتلقيح المريض بالدم سواء كان دم المريض نفسه أو دم غيره وسواء نقل الدم للمريض مباشرة من شخص وهو باق على حالته الطبيعية أو نقل له بعد تجفيفه ومزجه بعد ذلك بما يصلح معه للمداواة بالتلقيح (الجواب) والله الموفق للصواب ان الدم محرم اكله وشربه بنص القرآن وهو نجس و المداواة بالمحرم النجس و غير مباحة في حالة الاختيار اذا وجد من الأدوية الطاهرة ما يغني عن المداواة بالنجس فالجواز هو الأقوى من حيث القواعد وظواهر الآيات ويكفي في حصول النفع بنقل الدم وفي خوف الهلاك بتركه غلبة الظن، وقد اختلفت المذاهب في التداوي بالمحرم فالراجح في المذهب المالكي المنع وللامام مالك قول بالجواز كما نقله ابو الوليد الباجي في المنتقى والمذهب الحنفي على الإباحة اذا علم الشفاء به ولم يقم غيره مقامه كما في حاشية ابن عابدين والمذهب الشافعي على جواز التداوي بجميع النجاسات للضرورة الا الخمر) وفي هذه الإجابة الضافية الشافية المقنعة من شيخ جليل في علم وعمق الشيخ محمد العزيز جعيط رحمه الله خير دافع لنا لكي نضاعف الجهد في مجال التبرع بالدم من أجل انقاذ الأنفس البشرية المحتاجة الى هذه القطرات التي نتبرع بها عليهم رغبة في الثواب والأجر من الله سبحانه وتعالى وحفاظا على حياة هؤلاء المصابين المبتلين الذين قد نكون في مثل أوضاعهم في يوم من الأيام لا قدر الله



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.