الامام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله : صفحات من سيرته ومسيرته

الامام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله : صفحات من سيرته ومسيرته


"كان ربانيا تذكر بالله رؤيته وتزهد في الدنيا سيرته"

                            


             

         *رحم الله الامام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الازهر الشريف فقد كان عالما ربانيا وداعية صادقا واماما فذا، تذكرنا حياته وأعماله الجليلة ومواقفه الحاسمة بعلماء الاسلام القدامى الذين أعزوا الشريعة وحملوا لواءها وزانوها بأقوالهم ومواقفهم وكانوا مثالا للتجرد والتغلب على شهوات النفس وأهوائها

         *لقد كان الشيخ عبد الحليم محمود فريد عصره سواء في سيرته وارتقائه في حياته العلمية والعملية او في مواقفه وهو يشرف على جامعة من أعرق الجامعات الاسلامية تمثل البقية الباقية من قلاع الاسلام المنيعة وحصنا من حصونه المتينة

         لقد عاش عبد الحليم محمود طيلة حياته يجاهد من أجل تبيين الحقيقة وتوضيحها ونشأ عليه رحمة الله كما ينشا أي ريفي من أبناء مصر، سهل له الله سبل التعلم وقد كانت تتمثل في الدخول الى رحاب الازهر الشريف وبين عرصات الازهر تلقى كما يتلقى أي أزهري علوم الوسائل والمقاصد وأدرك الشيخ عليه رحمة الله ان ظماه لم يطفأ وأن ما تلقاه لم يحقق ما تهفو اليه نفسه فيمم وجهه شطر الغرب ليطلع على ثقافته وينهل من مواردها مباشرة، وهناك التقى الشيخ الازهري بالحضارة الغربية والثقافة المعاصرة والمناهج العلمية الحديثة والحياة المتحررة من قيود الاخلاق والدين ولكن تربية الشيخ الاصيلة وقوة ايمانه واعتزازه بدينه واعتداده بنفسه جعله ينفذ الى غرضه ويلفظ القشور لفظ النواة جاعلا نصب عينيه العودة الى بلاده باعلى الشهادات العلمية مستفيدا بما يمكن ان يقدمه له العقل الغربي دون ما ذوبان فيه أو تقليد أعمى له مبينا بسيرته هذه ان المسلم يؤثر ولا يتأثر ويقود ولا ينقاد جاعلا شعاره قول الله تعالى (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ونال الشيخ رحمه الله درجة الدكتوراه من قسم الفلسفة وتاريخ الاديان بجامعة السربون بفرنسا عن الحارث المحاسبي وكتابه الرعاية لحقوق الله وهو كتاب في التصوف والسلوك وقد كان اختيار الشيخ له عن روية وقصد مسطرا بذلك مستقبل حياته العلمية والعملية فقد جعلها تسير في إطار المحاسبة للنفس والمراقبة لله تعالى والمجاهدة للاهواء ولقد ظهرت آثار هذا الاختيار في مؤلفات الشيخ رحمه الله وتحقيقاته الكثيرة بل تجلى ذلك في كل ما كتبه من أبحاث ومقالات وما ألقاه من دروس ومحاضرات في الكليات والجامعات بمعاهد العالم الاسلامي وأثناء مشاركاته في المؤتمرات والملتقيات هنا وهناك

         عاد الشيخ الى مصر، وهنالك بدأ نشاطه العلمي والعملي والتقى بالناس ساعيا دوما الى ربط القول بالعمل والمواقف بالسلوك والالتزام مخصصا أجزاء من وقته الى تأملات روحية ومحاسبات شديدة لنفسه ومجاهدة لها وللشيطان، ابتعد عليه رحمة الله عن القشور والمظاهر الزائفة فبين بسيرته وسلوكه امكانية تحرر العالم المسلم من قيود الدنيا وبهارجها الكاذبة والقابها الفارغة مؤثرا لما بين يدي الله على ما بين يدي الناس مع الاعتقاد الجازم ان ما قدره الله لا بد ان يتحقق وبذلك حفظ الشيخ عبد الحليم محمود لنفسه هيبتها وكرامتها وأحبه الاعداء والاصدقاء فقد لمسوا فيه صدق اللهجة وبعد النظر والتجرد الكامل وسعيه الدائب للوصول الى الحقيقة مع اطمئنان دائم ورضاء كامل بأحكام الله معتبرا بكل ما يحيط به وما يدور أمامه من أحداث جسيمة وبسيطة

         *لقد آثر الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله ان يكون جهاده في كل المجالات يلقى الدروس والمواعظ للعامة بالمساجد ويحضر حلقات الذكر مع فرق المتصوفة في الموالد التي تقيمها ويكتب المقالات والدراسات العلمية الجادة ويحقق المخطوطات النادرة ويحي التراث العظيم ويقدمه بلغة العصر محاولا تبسيطه وتيسيره وتقريبه من الناس ونفض الغبار عنه، ويلقي دروسه على طلابه في كليات الازهر المختلفة، ثم يرتقي الى أن يصبح وزيرا للاوقاف والازهر وينتهي به المطاف بمشيخة الازهر الشريف حيث ظل طيلة سنوات على رأسه الى أن وافته المنية

         ولقد قدم الشيخ عبد الحليم محمود الى المكتبة الاسلامية كتبا جليلة واعمالا قيمة ستظل شاهدا على رسوخ قدمه وسعة علمه وتوفيق الله له، انها من الكثرة بحيث شملت كل مجال ففي التحقيق لن ينسى القارئ تحقيقه الانف الذكر لكتاب الرعاية لحقوق الله وتحقيقه لكتاب المنقذ من الضلال للغزالي وتحقيقه للرسالة القشيرية ولحكم بن عطاء الله وغيرها من الكتب والرسائل التي نفض عنها الغبار وقدم لها بمقدمات رائعة وتحقيقات ضافية تدل على صبر الشيخ على البحث العلمي وخدمته المتفانية لقضية التصوف الاسلامي السني، هذا التصوف الذي آمن به وحمل لواءه في هذا العصر الذي طغت عليه المادية حتى في جوانب العلم

         *ان الشيخ عبد الحليم محمود عليه رحمة الله عاش التصوف في حياته فكان يتحدث عما يلمسه ويصور ما يرى لا يهمه إنكار المنكرين، انه عندما يدافع عن التصوف انما يدافع عن التصوف الذي هو التزام بالكتاب والسنة وتطابق بين الظاهر والباطن لقد كان ايمان الشيخ عبد الحليم بالحقيقة مثل ايمانه بالشريعة لا يضحي بأحدهما في سبيل الآخر: والشيخ عبد الحليم محمود لا يرضى للتصوف الاسلامي بغير الكتاب والسنة مصدرا وموردا وغير  سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رائدا ومرشدا

         *كتب الشيخ عبد الحليم محمود عن تراجم العلماء والصوفية فعرف بهم أحسن تعريف وقدمهم للقارئ المعاصر كنوزا من بطون الكتب ولقد اعتنى عناية كبيرة بالشيخ الامام أبي الحسن الشاذلي فكتب عن حياته وأحزابه وأدعيته واوراده معرفا بسيرته مبينا ما أتاه الله من قدرة على الفهم وبلاغة في الدعاء والمناجاة

         *ولقد شهدت بلادنا التونسية تعلق الشيخ الشديد بابي الحسن الشاذلي فكان طيلة المدة التي قضاها استاذا زائرا بالكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين يراود المغارة ومقام الشيخ ويختلط بالذاكرين ويخلو بربه في المغارة ويقول بعد ذلك: ان الخشوع الذي وجده فيها لم يجده في أي مكان آخر، فقد شعر بانقطاع كامل عن الدنيا...

         *والشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله يعلن في كتاباته بعض ما اعترضه في حياته من أشياء غريبة وحوادث غير عادية فيرويها في مقدمة كتبه لا يهمه انكار المنكرين انما الذي يهمه هو تسجيل كل حادثة تقع له ويذكر في مقدمة كتابه عن ابي الحسن انه هدد مناما اذا لم يعجل بالكتابة عن الشاذلي فستقيد يداه ويحاول الشيخ التملص ويعاوده التهديد فلا يملك الا الاذعان

         *وكتب بعد ذلك عن المدرسة الشاذلية قديما وحديثا وترجم لأعلامها، من قرأ لهم أو لقيهم عربا وأعاجم ولا ينسى ان يصور كيفية لقائه للعارف بالله عبد الواحد يحي René guenon الفيلسوف الفرنسي والمسلم الشاذلي صاحب المؤلفات الكثيرة

         *ويخص أعلام الشاذلية القدامى بمؤلفات مستقلة فيكتب عن عبد السلام بن مشيش شيخ الشاذلية

 وعن ابي العباس المرسي خليفة الشاذلي وعن ابن عطاء الله السكندري صاحب الحكم ويكتب عن بقية اعلام التصوف الاسلامي من أمثال ابراهيم بن ادهم والفضيل ابن عياض واحمد البدوي ويتوجه الى علماء الحديث فيكتب عن سفيان الثوري وغيره

         *وكتب الشيخ عبد الحليم محمود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة كتب وترجم عن الفرنسية البعض الآخر ويقوم الامام الاكبر باختيار بعض الكتب الجادة التي اطلع عليها باللغة الفرنسية فينقلها الى العربية ويعينه على ذلك ابنه الدكتور محمد بن عبد الحليم محمود ،وكتب رحمه الله عن المسيحية من خلال كتابات أبنائها وعن أوروبا والاسلام وما أكثر ما كتب الشيخ عبد الحليم فقد كتب عن القرآن في شهر القرآن وعن الفلسفة الاسلامية وأعلامها القدامى وعن العبادات وأسرارها الى غير ذلك من عشرات الكتب والابحاث الجادة ولا أظن أنه يوجد في هذا العصر من يقاربه من حيث جودة الكتابة وتنوعها وغزارتها

         لقد ارتقى الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله في المناصب العلمية فتولى التدريس بكلية اصول الدين بالازهر ثم أصبح عميدا لنفس الكلية وانتدب للتدريس والمحاضرة بأغلب الكليات الشرعية في العالم الاسلامي وأصبح بعد ذلك أمينا عاما لمجمع البحوث الاسلامية: ثم وكيلا للازهر ثم وزيرا للاوقاف وشؤون الازهر ثم في النهاية شيخا للازهر الشريف ولم نسمع ولم نقرأ ان الشيخ في كل المسؤوليات التي تحملها قصر او خان الامانة بل على العكس فقد تفانى في ذلك وحقق ما لم يحققه سواه

         *وفي الأزهر الشريف أعاد الشيخ لهذه الجامعة العلمية اعتبارها ونادى باستقلال الازهر المادي والعلمي وطلب بإرجاع اوقاف الازهر التي أخذت منه وتحقق للازهر في عهده صدور قانونه الذي ظل معطلا طيلة أعوام من طرف أعداء الازهر وخصومه وما اكثرهم، وحقق لشيخ الازهر ان لا يكون تابعا لأي وزير بل يعود بالنظر مباشرة الى رئيس الدولة لا يتدخل في شؤونه احد وكانت هذه المطالب تتسبب للشيخ في عراقيل وتضييقات ولكنه كان في كل مرة يعلن عن استعداده للتخلي كليا والاستقالة اذا لم تلب رغبته ويستقيل فعلا ولكن تحت الالحاح الشديد يعود الى مباشرة مهامه، وحقق للازهر في عهده اتساع روافده فقد نادى ببعث معهد ديني ابتدائي وثانوي في كل محافظة ومدينة من مدن مصر وحقق من ذلك الكثير، وفتح للازهر فروعا في عدة محافظات، ومن خلال مجمع البحوث الاسلامية تعالت نداءاته منددة باضطهاد المسلمين في الفلبين والهند منبهة المسلمين الى ما يتعرض له اخوانهم في الصومال والحبشة ووقف رحمه الله في وجه كل التيارات الهدامة شرقية وغربية، نشر عنها المقالات والدراسات والكتب مبينا جذورها الصهيونية والصليبية، وهيأ رحمه الله مشاريع قوانين للاحوال الشخصية مأخوذة من الشريعة الاسلامية بل وأعد دساتير تصلح لمن يطلبها من البلاد الاسلامية ووقف في مصر يدعم مسيرة تطبيق الشريعة الاسلامية مبينا سموها مخاطبا القضاة والمحامين ورجال القانون في نواديهم وكلياتهم وتجمعاتهم بلغة العقل والقلب والواقع مبينا لهم ما حدث للمجتمع في غياب شريعة الله وأحكامه

         *لقد وقف رحمه الله في وجه كل المؤامرات والدسائس التي تهدف الى القضاء على المسلمين وتمزيق شملهم، ان حياته كلها كانت جهادا مستمرا وعملا دائبا لاعلاء كلمة الله وتقربا اليه وذكرا له بلسانه وحمدا له بمقاله وحاله

         *ان امثال الشيخ عبد الحليم محمود في التاريخ الاسلامي قلة وفي هذا العصر اقل من القليل فقد كان ربانيا تذكر بالله رؤيته وتزهد في الدنيا سيرته فالى رحمة الله ايها العالم الجليل ولتنعم بجوار الانبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا

          تقول سناء البيسي في مقال كتبته بجريدة الاهرام بمناسبة شهر رمضان تناولت فيه بالحديث جوانب من شخصية الامام الاكبر الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله: (تكون بدايتي مع الابن بحكم الاطار وروحانيات رمضان عن الإمام في شهر الصيام فيقول الدكتور منيع (نجل الشيخ عبد الحليم محمود):

         "عندما يسألونني عن الشيخ عبد الحليم في رمضان أقول لهم إن أيام رمضان لم تكن تختلف لديه عن أية أيام أخر، فهو صائم الدهر طوال العام، وعندما يؤذن المغرب فالإفطار لا يعدو عن قطعة بقسماط يعصر فوقها نصف برتقالة، أو قطعة خبز جاف يتناولها شهورا بالعسل الأسود أو الابيض، ولقد أردت يوما مداعبته فقلت له إني متخوف من ان تفقد شهوة الابوة أيضا من كثرة ما فقدت من شهوات...كان كل مكان يطرقه يتحول الى مسجد أو مدرسة بمعنى أنه لم يكن منغلقا على نفسه، وليس بينه وبين الناس حجاب، أي مكان يدعى اليه يلبي دعوة صاحبه، وكثيرا ما كان يذهب بدون دعوة ليسمع ويرى بعينيه، وكان يؤمن بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (ما عُبد الله باحسن من جبر الخاطر) ويشفع لمن يعرفه ومن لا يعرفه، وكانت تخرج من مكتبه على الأقل يوميا 200 توصية، والنابغ يتبناه ويجد لديه الوقت لتوصيله لما يستحقه نتيجة نبوغه، ولقد كان يتمتع بما يتمتع به الصوفي من "انفساح الوقت" وموقعه في البيت حجرة مكتبه حيث نومه على الأرض، ومن الممكن القول بأنه لم يكن ينام فهناك مرحلة من التصوف تسمى سجود القلب التي كتب عنها الصوفي سهل ابن عبد الله (اذا سجد القلب لا يقوم من سجوده أبدا) وقد فهمت من أبي ومن تصرفاته ان صاحب هذه المسألة لا ينام أبدا- لحظتها تذكرت قوله تعالى (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) – وعندما كتب عن الصوفيين كان كانما يكتب عن نفسه ومن هنا قول الصوفية (من ذاق عرف) ولقد كان يصحو الليل في عبادة يصلي ويذكر ويناجي وتظل مناجاته الخافتة التي لا يكاد يسمع فيها صوته حتى آذان الفجر الذي ما ان يؤدي صلاته حتى ينتقل للجلوس الى المكتب للعمل، وتأتي التاسعة صباحا ليذهب في مشواره اليومي لسيدنا الحسين ومنه الى مكتبه ليقضي حوائج الناس ويمنح المشورة ويستقبل ممثلين لمختلف الاتجاهات السياسية والفكرية، وعند الرابعة عودة للبيت لاستئناف اللقاءات، وكان كثير الحديث في السياسة وله أصدقاء عديدون من رجالات الحكم، وتمت بينه وبين الرئيس السادات عدة لقاءات غير رسمية ومن أصدقائه كان عثمان أحمد عثمان وحامد محمود وحسن التهامي والسفير كمال الدين عبد النبي والأمير محمد عبد المنعم وزوجته نسل شاه وكان سكنهما في قصر الحرية. وكان من المعجبين بحديث السهرة الثقافي في التاسعة والنصف مساء للأديبة أبكار السقاف الحضرمية، وكان يثني على الدكتورة سهير القلماوي والدكتورة اجلال خليفة وتلميذته الدكتورة عبد الرزاق أستاذة الفلسفة الاسلامية، ويعترض على مشاغبات الدكتورة بنت الشاطئ وزوجها الدكتور أمين الخولي ويحضرني هنا أن عثمان احمد عثمان قدم مشروعا في ميدان الحجاز لبناء عدة عمارات من ثلاثة أدوار ببدروم خاص ثمن كل منها عشرين ألفا بالتقسيط المريح فسارع لاقتنائها جميع الوزراء الا والدي مكتفيا بشقة للايجار بالزيتون عندما جاء ذكر مسألة العمارة على لسان الوالد كان بمثابة خبر عادي فلا كلمة قيلت ولا تعليقا قد ارتفع فأسلوب والدي جعلنا نعيش حالته...

         كان الوالد قد أزمع بالفعل على تكوين حزب سياسي ذي خلفية دينية في فترة السادات وبدأ العمل على بلورة الفكرة بعقد الاجتماعات التمهيدية ولقاء البعض، وقد ظن الناس ان السادات عندما قال انه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين انه يقصد بقوله الاخوان المسلمين بينما كان في الحقيقة يقصد والدي الشيخ عبد الحليم محمود موجها ومسددا كلماته اليه وعندما شعر الوالد انه سيثير المشاكل في أمر لن يتحقق ابدا ما دام السادات مصمما على رأيه ومن هنا برز لديه دور المفكر الذي ارتأى تحقيق هدفه من خلال إنشاء المعاهد التي ستعطي وتفرز نفس النتيجة بل وأكثر من فكر اسلامي مستنير، فالأزهر لا يفرخ الارهابيين إطلاقا، وكان في ذلك متنبئا بما سوف يحدثه الارهابيون الذين زارهم وعايشهم، وبات معهم في جبال اسيوط وتعرف على فكرهم ولم يكونوا قد حملوا السلاح بعد، وأثناء محاكمة ما سمي بجماعة التكفير والهجرة أراد القائمون على المحكمة العسكرية الزج بالأزهر وعلمائه للشهادة في قضية ليست لديهم وقائعها، رفض الامام مدافعا بقوله انهم لن يشهدوا في قضية فكر دون دراسة جوانبها، وان قضية الفكر لا تواجه الا بالفكر... وفي خطة الامام لنشر المعاهد تفجرت معاهد العلم لتبلغ الان 700 معهدا وكانت الأرض التي قامت عليها وتقدر الان بالاسعار الحالية بما يصل الى مائة مليار جنيه كلها من تبرعات المصريين المسلمين والمسيحيين والاجانب، فقد انهالت التبرعات على الشيخ الذي كان يطلق اسم المتبرع على المعهد الذي شارك في بنائه، وهناك على سبيل المثال معهد في الاسكندرية باسم اليونانية "مارينا لاتسيس" ومما قاله الشيخ وقتها في التلفزيون (اعتبروني شحات وادوني فلوس لانشاء المعاهد) وفي ذلك كان يقبل دعوة على الغداء عند البعض في مقابل ان يعطيه صاحبها عشرة أو عشرين ألفا، وأتذكر ان أحد المتبرعين من بعد تناول الغداء لم يجد حاجة يعبئ فيها العشرين الفا في السبعينات فقام بلفها في ورقة جرنال... ويعود الفضل للشيخ عبد الحليم في استرداده 70 ألف فدان من أراضي أوقاف الأزهر الذي كان يمتلك يوما "خمس" اراضي مصر أي 20 % منها، وكان الشيخ يرد ان المساس بأراضي الأوقاف حرام في حرام لدرجة انه كان يضرب مثلا بعصفورة تقول لصاحبتها انها من الممكن ان تخرب بيت القرية المجاورة وذلك بان تحمل اليها بمنقارها بعضا من تراب الارض المغتصبة من الازهر فتغدو بالمثل أرضا حراما.

         وكان والدي رشيقا أنيقا في ردائه ينتقي الكاكولة من القماش البديع ولا بد من شكل معين للعمامة بحيث تبدو ضخمة على رأسه، وهو الذي كان قد خلع الكاكولة عند ذهابه الى فرنسا وظل مرتديا البدلة حتى عودته وهو مدرس بالأزهر الشريف، وعندما قام عبد الناصر يوما يعرض بعلماء الأزهر الذين يفتون الفتاوى من أجل ديك يأكلونه..هنا شعر الأزهري بالمهانة، ومن ثم ارتدى الدكتور عبد الحليم الزي الازهري مناديا زملاءه بارتدائه اعتزازا بالازهر والازهريين وظل محافظا على هذا المظهر حتى وفاته ولم تكن هناك ممنوعات أو قيود في القراءة فالمكتبة عامرة بالروايات والمسرحيات، وفوق الرفوف تشيكوف ودستوفسكي والحكيم وطه حسين وإحسان، الى جانب أعداد هائلة من كتب التراث...الموسيقى واغاني عبد الوهاب وام كلثوم لم يكن يسمعها باستغراق كبير أو يخصص لها وقتا، وانما السماع كان يأتي صدفة كان تكون قبل نشرة الأخبار

         نشأ والدي في كنف أسرة تنتسب الى ال البيت فضلا عن تواجده في اطار مؤسسة الازهر الشريف فقد كان والده أزهريا واختار لابنه عبد الحليم طالب الأزهر وهو في سن 13 زوجة هي ابنة عمته وخالته التي تصغره بعامين ...وعن زيجته تلك يكتب الامام في مذكراته (في منتصف العام الدراسي الاول بالازهر زارني والدي ليقف على مدى انتظامي في الدراسة وشرع يحدثني عن الزواج وعرض علي أسماء فتيات واستطلع رأيي وكان سني آنذاك ثلاث عشرة سنة وكان رأيي ان قلت له الأمر لك ولوالدتي ! وعاد والدي الى العزبة، ومضت فترة جاءني بعدها خطاب يقول فيه والدي: ان الاسرة كلها في شوق اليك، فاحضر لنراك ولتطفئ علة شوقها اليك...وعدت الى العزبة في مساء الاربعاء، وتم عقد زواجي يوم الخميس...وعدت الى القاهرة يوم الجمعة...ونجحت في الامتحان وعدت لأقضي العطلة الصيفية بين الأهل في العزبة وانتهزوها فرصة لإتمام الزاوج بالزفاف: وركبت الفرس وطاف بي في شوارع العزبة وحولها، وكانت ليلة ممتعة ظل طيفها ماثلا في الأذهان سنوات طويلة"

         ويستطرد الدكتور منيع (كانت سعادة جدي عامرة بحصول الابن على عالمية الازهر، وحتى لو لم يكن يعمل مدرسا به كما يتمنى له فكيفية أنه قد أنجب شيخا مطمطما بالعمامة، ولكن هدف الابن كان هناك وراء البحر في عاصمة النور باريس بجامعتها السوربون،ولما لم يكن معه مصاريف السفر الذي أخفى أمره عن أبيه شمرت الزوجة عن ساعد التكافل وقامت ببيع ميراثها النصف فدان الذي تملكه ليسافر الزوج الى غايته ومقصده، وعلى ظهر مركب متجه الى مرسيليا سافر مع صديقه الدكتور جلال الذي أصبح فيما بعد من أكبر علماء الانثروبولوجي ولم يكن الوالد يعرف كلمة فرنسية واحدة، وفي طريقهما هبطا الى مرسيليا ويقول الامام في مذكراته (ورأيت النساء والفتيان وكأنهن يقفزن في سيرهن من السرعة، كما كن يتحدثن في سرعة ايضا وهن فارحات مستبشرات سعيدات يضحكن في سرور وبشاشة، ولست أدري لماذا تواردت على ذهني صور من الشعر العربي تصور جمال النساء العربيات ووثبت الى ذاكرتي قول ذلك الشاعر  الذي يعبر عن المثل الاعلى في جمال المرأة بقوله: مشى القطاة، ونطقها ايماء..ان المرأة-هنا- لا تمشي مشي القطاة وليس نطقها كما يقول الشاعر ايماء) وبوصول الشيخ وصاحبه الى باريس دارا يبحثان عن وابور الجاز لطهي طعامهما فلم يكن قد نما الى سمعهما ذكر للبوتاجاز او فرن الكهرباء، ولما لم يفهم الناس قصدهما قاما برسم الوابور فوق ورقة ومضيا يعرضانها في الطرقات وبعد جولات مرهقة محرجة استدل أحدهم على المبتغى وأشار الى أحد محلات الانتيكات الذي وجدا فيه ضالتهما...وكان على والدي خريج الازهر الذي لم يكن يعرف نطق بابا وماما بالفرنسية الحصول على الليسانس في عامين وبعدها خمسة دبلومات، وفي تلك المدة الزاخرة بالتحصيل والاستيعاب كان شغوفا بارتياد الجمعيات الجغرافية والتاريخية والمتاحف والمعارض وبالقطع شاهد مسرحيات وفنونا ليس لها أول من آخر.

         كل هذا من النصف فدان؟ لا فقد امده جدي بمصاريفه، وبعد عامين عاد والدي ليصطحب أمي معه لفرنسا وهي السيدة التي لم تغادر في حياتها قرية السلام حتى للمركز في الزقازيق...ركبت معه أمي الرفاص لعبور ترعة الاسماعيلية، حيث لم يكن هناك طريق مرصوف وقتها ونزلا في غمرة ليستقلا القطار من باب الحديد في الاسكندرية ليبيتا ليلتهما، ومع خيوط الصباح فوق ظهر المركب لمرسيليا، ودوغري لباريس...اي من السلام لباريس...وفي باريس أنجبت الوالدة شقيقي محمد الحاصل على دكتوراة الدولة من السوربون في أثر الأدب العربي على الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر وكان سفيرا لمصر في ايطاليا، ومن بعده أنجبت شقيقتي الكبرى...وعادت الوالدة لمصر بعد دخولها المدارس الفرنسية هناك ترطن وتجيد الفرنسية وتقرأ لموبا سان وفيكتور هيجو وترتدي الفستان والايشارب... في رحلة العودة عام 1941 بعد نيل الدكتوراة مباشرة كانت الحرب العالمية الثانية قد أغلقت الملاحة في البحر الابيض فاضطر والدي للبقاء مع أسرته الصغيرة في اسبانيا لمدة ستة أشهر قضاها في التجوال والمشاهدة، وأخيرا سنحت فرصة الارتحال على ظهر مركب شحن تدور حول رأس الرجاء الصالح، وعلى ظهر الباخرة التقى بالاخوة اليهود هيراري الذين عرضوا عليه منصب رئيس تحرير مجلة الكاتب المصري لكنه رفض لعدم توافق اتجاهاته معها، وفيما بعد قبل الدكتور طه حسين ذلك المنصب ليقوم الامام بزيارته في مكتبه بها أكثر من مرة.

         جميع الأطراف كانت تكن احتراما بالغا للامام... الوهابيون في الخليج الذين يهاجمون كل من يخالفهم في الرأي لم يهاجموه، واعتبره الاخوان واحدا منهم رغم انه ليس من الاخوان، وكان عمر التلمساني يزوره في بيته مقدما كل مظاهر التبجيل وكانت علاقته قوية بالشيخ متولي الشعرواي بعد عودة الاخير من الجزائر في اوائل السبعينات، وقام الامام الاكبر بتعريفه بالاستاذ احمد فراج صاحب برنامج (نور على نور) لتقديمه في التلفزيون، ومن مظاهر احترام الشيخ الشعراوي له رفضه الجلوس بجوراه مفضلا الجلوس أمامه على الأرض حتى في المجالس العامة ومثال ذلك عندما صمم على تلك الجلسة في مكة امام أكثر من ثلاثمائة شخص...

         وكان الشيخ عبد الحليم محمود حكما عادلا عندما يثور الخلاف بين الاطراف المتنازعة، وقد أتاه وفد نيجيري يجمع بين الصوفية والوهابية ليحكموه فيما بينهم، وكان باتصال بالمسلمين الانجليز والفرنسيين تحت رئاسة ميشال فلسان الذي أطلق على نفسه اسم مصطفى فلسان بعد الاسلام، وكان يمنع اي مسلم شرقي من الدخول وسطهم لاعتقاده بانه سيثير الخلافات، وقد زار انجلترا مرتين واستقبلته الملكة اليزابيث في قصرها، كما التقى بكارتر ليقنعه بان مقاومة الشيوعية لن تاتي الا بمساعدات اقتصادية ضخمة للشرق الاوسط فالاسلام وحده يستطيع الوقوف في وجه الشيوعية وكان لتلك المحادثات تأثيرها الفعال ...وكان يحب الذهاب الى تونس ليمكث شهرين من كل عام يحاضر في شؤون الدين بما قد يتعارض مع النظام خاصة بعد علمه بمحاولات الرئيس بورقيبة لتغليب وتفضيل كل ماهو فرنسي وغربي على كل ما هو اسلامي والغائه الجامعة الزيتونية واباحته الافطار في رمضان بدعوى ان الصيام يعطل الانتاج متعمدا تناول عصير الليمون في وضح النهار، وتحريم اذاعة الاذان وعدم الاخذ بالتاريخ الهجري ولا بنظام رؤية الهلال وقف الامام يحث علماء الزيتونة على الصمود قائلا (...وقولوا لاعدائكم ما قاله بلال رضي الله عنه أحد أحد ووالله لو علمت كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها)

         كان يؤمن بحرية الراي والراي الاخر، وعندما يهاجمه أحد في شخصه لا يرد لكنه يسارع بالرد عند الهجوم على الأزهر وكان يردد وهو لم يزل بعد مدرسا ان شيخ الازهر سياف تحارب عنه الملائكة ولا بد من ان يكون له الاحترام الاكبر واذكر ان الحاجة زينب الغالي وكانت تحرر مجلة السيدات المسلمات الاسبوعية انها كانت تهاجم شيخ الازهر وقتها الشيخ عبد الرحمان تاج فيرفض الامام هجومها او المشاركة في الهجوم ويحضرني بينما كان الامام أستاذا في كلية اصول الدين يرتدي البدلة والبنطلون انه أزمع يوما زيارة الشيخ تاج بعد طلوعه من المشيخة زيارة عرفان وتقدير فتذكر فجأة ونحن في ميدان السفير بانه قد نسي ارتداء الطربوش قائلا: لا يليق أن أدخل عليه بدون الطربوش...وقد زاره في المشيخة الحاخام شندلر مع وفد من حاخامات يهود امريكا في محاولة لاصدار بيان لتهدئة الاوضاع فاصر على خروج اليهود اولا من القدس وهدد بانه سوف يذهب في مسيرة من المسلمين اليها، وعندما اشتدت وطأة المناقشة طلب الحاخام خروج الصحفيين، وظل الامام حتى اخريات ايامه ينوي تنظيم تلك المسيرة، وعندما دعاه وزير خارجية الفاتيكان لاجراء لقاء حوار حول الاديان اصر اولا على اعترافهم بدين الاسلام كما نعترف نحن بالمسيحية

         الشيخ عبد الحليم الصوفي الذي اخذ الطريق فأتاه في اول ليلة اسم الله الاعظم فلم يستعمله قط وفي الليلة التالية بعدما انتهى من أذكاره وورده امسك قطب عصره بيده يعاهده (ولتصدقن ولتكونن من المحسنين...فأجابه الشيخ: نعم وكانت النقود تطلع من جيبه لكل الدنيا دون خشية من فقر ...بينما عندما توفي لم يترك سوى 4500 جنيه صرفت في العزاء، ومن شفافيته انه راى الرسول وصحابته يعبرون مع جنود مصر القنال، وكان يتنبأ بموعد ليلة القدر، وتنبأ بموته شخصيا فقد قال لي ونحن في رحلة العمرة نزور قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة (سأموت هنا فلا تبلغ السفارة أو أي مخلوق وخذني ليصلى علي في المسجد الحرام ثم ادفني في البقيع) وأراد المولى ان يموت في القاهرة بعدها بايام قليلة بعدما أجرى له الدكتور ابراهيم بدران عملية المرارة بنجاح في مستشفى الشبراوي ليقرأ بعدها ويصلي لكنه من بعد المسكن شعر بآلام ليظل طوال يومه الاخير يردد (الله حق...الله واحد...يا محسن) (جريدة الاهرام)



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.