الأستاذ عبد الله بينو Abdallah Penot المسلم الفرنسي الذي يعكف على ترجمة أمهات كتب الثقافة الإسلامية إلى اللغة الفرنسية

الأستاذ عبد الله بينو Abdallah Penot المسلم الفرنسي الذي يعكف على ترجمة أمهات كتب الثقافة الإسلامية إلى اللغة الفرنسية


عبد الله بينو من الأسماء التي برزت في السنوات الأخيرة في ميدان العمل الإسلامي في الغرب وفي فرنسا بالذات ولم يكن وراء ذلك جهة أو طرف كما هو الشأن والعادة. فالرجل باحث عن الحقيقة مثابر في نهجه الذي اختاره لنفسه منذ اليوم الأول الذي هداه الله فيه لاعتناق الدين الإسلامي وكان ذلك في الظاهر صدفة ولكن بالنظر إلى ما تلاحق به بعد ذلك في هذه المسيرة من أحداث فانه يبدو جليا أن الرجل تهيأه الأقدار الإلهية للقيام بدور وآداء رسالة وهذا الدور وتلك الرسالة هو الدعوة إلى الله في بيئة هي في أمس الحاجة إلى أمثاله ممن يدعون إلى الله على بصيرة ولا يبتغون من وراء ذلك جزاء ولا شكورا. فهذا الرجل الفرنسي الأب والأم الذي اعتنق الإسلام عن حرية وباختيار وبعد تجربة شخصية مليئة بالطرافة وتبدو فيها العناية الإلهية، هذا الرجل وأمثاله هم من تحتاج إليهم الدعوة الإسلامية اليوم فقد بدأ بما ينبغي أن تكون به البداية إذ اقبل على تحصيل العلوم والمعارف بجد وكد واجتهاد وتفرغ لذلك فعاش منقطعا عن أهله ووطنه يتقاسم مع زملائه طلبة العلم ما هو ضروري جاعلا همه وغايته الجمع بين التحصيل العلمي والسلوك العملي وكان له بعد سنوات ما أراد فإذا به يمتلك ناصية اللسان العربي المبين الذي بدونه لا يمكن لأحد أن ينفذ إلى مراد الله من عباده وبدون مركبات استعلاء وكبرياء شأن أولئك الذين يحكمون على أنفسهم أن يظلوا على الضفاف ولا يغوصون في الأعماق أصبح الأستاذ عبد الله بينو ممن تبز عربيتهم أهل العربية لا يقرأ ويكتب بها بأسلوب صحيح بليغ فقط بل يرتجل بها تدخلاته ومحاضراته في المنتديات والمحافل الأمر الذي فاجأ من استمعوا إليه من أهل الذكر ورجال الدعوة واذكر انه دعي كضيف لحضور أشغال إحدى دورات المجلس العالمي للدعوة الإسلامية في مدينة سراييفو عاصمة البوسنة ويومها قيل له هل نأتيك بمترجم؟ فقال لا سأتكلم باللغة العربية وارتجل كلمة بليغة فصيحة جميلة مرصعة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار الصحيحة زادها نفاذا إلى قلوب سامعيه الذين شدهم إليه ذلك التفاعل الصادق مع ما أراد تبليغه من شؤون وشجون هي انعكاس لتجربته في حقل العمل الإسلامي بفرنسا بعدما عاد من الشام. إن عبد الله بينو من قلة قليلة ممن يعملون بإخلاص وفي صمت وببعد عن الأضواء، انه هناك في زاوية كانت في الأصل ديرا لرهبان اشتراها في منطقة تبعد عن مدينة ليون الفرنسية حوالي خمسين كيلومترا هناك يقطن ويعمل ويستقبل تلاميذه وإخوانه وزواره في حركية دائبة وعطاء متواصل فيما اعتقد انه ميسر له ويمكنه أن يخدم به دينه الذي اعتنقه والذي يريد أن يبلغ حقائقه إلى قومه بلسانهم الذي هو الفرنسية وهو بذلك يترسم خطى الأنبياء عليهم السلام الذين قال الله في حقهم (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) فما تلقاه على أيدي أهل الذكر من العلماء في مختلف فنوق العلوم والثقافة الإسلامية باللغة العربية يقوم اليوم عبد الله بينو بإبلاغه باللسان الفرنسي. ورغم أن الرجل قادر على أن يستقل بإصدار مؤلفات تكون من تحريره وكتابته إلا انه تواضعا وتجردا منه وسدا لفراغ رآه كبيرا وتصويبا وتقويما لترجمات تجارية رديئة آثر أن يتفرغ لترجمة أمهات كتب الثقافة الإسلامية وكانت البداية بالقرآن فترجم معانيه وجاءت ترجمته بشهادة قومه سواء من اعتنق منهم الإسلام أو غيرهم بأن هذه الترجمة هي الأقرب إلى عقولهم وأفهامهم وهي التي قربتهم من روح القرآن وكفى بهذه الميزة لترجمة معاني القرآن التي أنجزها الأستاذ عبد الله بينو، وتعددت طبعات هذه الترجمة رغم أن متولي نشرها هو الأستاذ بينو نفسه بإمكاناته المحدودة ولو كتب لهذه الترجمة أن يتوسع انتشارها لصوبت كثيرا من الأفهام الخاطئة والمنحرفة التي تكرسها الترجمات التجارية الرديئة والترجمات المنحرفة والمحرفة. ومضى الأستاذ عبد الله بينو وقد امتلك ناصية الترجمة وأصبح فيها ماهرا فترجم كتاب رياض الصالحين للإمام النووي ثم ترجم صحيح الإمام مسلم وترجم كتبا للحارث المحاسبي وابن عطاء الله السكندري ومحي الدين ابن عربي والأمير عبد القادر الجزائري وأنجز أخيرا ترجمة لكتاب القوانين الفقهية لابن جزي الكلبي ومقاصد الشريعة للشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور وفي الطريق ترجمة لكتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد وفي نيته وعزمه أن يتولى إعداد مراجعة وترجمة لكتاب الشفا للقاضي عياض وكتاب الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ومختصر خليل في خطة لانجاز مكتبة علمية دينية باللغة الفرنسية تكون بين أيدي المسلمين الناطقين باللغة الفرنسية تجعلهم يتصلون مباشرة بأمهات كتب الثقافة العربية الإسلامية. وللأستاذ عبد الله بينو أنشطة دينية أخرى تتمثل في قيامه بتعليم ثلة من الجيل الثاني الثالث من أبناء المهاجرين المغاربيين والأفارقة والمهتدين مبادئ الدين الحنيف وتوجيههم وإرشادهم روحيا في لقاءات أسبوعية سواء كان ذلك في الزاوية في ليون أو كان ذلك عندما ينزل إلى العاصمة الفرنسية باريس. وفي الفترة الأخيرة أصبحت للأستاذ عبد الله بينو مشاركات فيما ينتظم من ندوات وملتقيات إحياء لذكرى المولد النبوي وشهر رمضان المبارك ويلقي في بعض الأحيان الخطب الجمعية في مساجد منطقة ليون. كما اعددنا معا حصصا دينية باللغتين العربية والفرنسية بثتها أكثر من مرة قناة التواصل التي تشرف عليها جمعية الدعوة الإسلامية العالمية وهي مادة موجهة لجمهور من المشاهدين لغته فرنسية في إفريقيا الغربية وبلدان شمال إفريقيا وفي فرنسا وبلجيكا و سويسرا والذين يجدون في المادة التي يقدمها الأستاذ عبد الله بينو مسموعة ومرئية ومكتوبة المطلوب والمرغوب. وخلاصة القول إن الأستاذ عبد الله بينو من الطاقات المسلمة الجديرة بكل تشجيع. وتعميما للفائدة وتعرفا على هذا الرجل أدعوك أيها القارئ إلى قراءة هذا الحوار الذي جرى معه ففيه تسليط مزيد من الأضواء على مسيرة حياة هذا الرجل. * كيف كانت بدايتك مع الإسلام؟ بداية أنا إنسان فرنسي عادي: ولدت لأب فرنسي يعمل بالتدريس الجامعي في الولايات المتحدة الأمريكية ووالدتي تعمل بمهنة التمريض، وعندما كان عمري ستة اشهر سافرت الأسرة إلى أمريكا، وعندما عدنا منها إلى فرنسا كان عمري ست سنوات. تدرجت في مراحل التعليم حتى الباكلوريا (الشهادة الثانوية) ثم توقفت عن الدراسة، ونظرا لأنني مغرم بالسياحة والتجوال قررت القيام برحلة طويلة في عدد من الدول العربية والآسيوية. كنت وقتها ضمن جيل “الهيبز” المعروف بإطالة شعره، أرافقهم في بعض الرحلات، فذهبت إلى الهند لاكتشاف حضارتها، ومررت بدمشق ومكثت فيها مدة قصيرة لتعلم شيء من العربية، حيث كانت لدي معلومات بسيطة عن الإسلام والصوفية، وعن الإمام الصوفي محيي الدين بن عربي، فأردت التعرف عليهم أكثر، وهناك تعرفت على شيخ مسن بين لي بعض الحقائق بشرح مزيج من اللغة العربية والانجليزية، ولما آن أن نفترق كان يشير إلي أثناء حديثه فظننت انه يطلب مني الصعود معه في الباص (الحافلة)، وبعد مسافة من السير التفت إلي وفوجئ بي فسألني: أما زلت معي؟ اذن تعال معي إلى المسجد، فدخلت معه مسجد محي الدين، وسألني ثانية: هل تحسن الوضوء؟ فقلت: لا ادري ما الوضوء؟ فسألني: وهل تعرف الشهادة؟ قلت: لا. فنطقها أمامي “اشهد أن لا اله إلا الله، واشهد أن محمدا رسول الله” ورددتها خلفه، فقال لي: أنت الآن قد أصبحت مسلما. فقلت في نفسي: هذا شيء غريب، لكنني -كنوع من التطفل- قررت الاستمرار في المسجد طالما أنني أعلنت إسلامي حتى وان كان لا يزال ظاهرا فقط لأرى ما تقدمه في الأقدار. كان ذلك في عام (1976 مسيحي)، وكان عمري وقتها 22 عاما، فالتحقت بالمدرسة الشرعية هناك، لكن وبعد عشرة أيام لم يعجبني الوضع في المدرسة ولا نظام التدريس بها، فقلت لهم: إما أن تذهبوا بي إلى شيخ صوفي -لما قرأته عن الصوفية- وإما أن أترككم.. فانا شاب من “الهيبز” ولدت وتربيت في الغرب، وما يدرسونه في تلك المدرسة بعيد تماما عني وصادف أن كان هناك شيخ جزائري في المدرسة قال لي: أنا لست صوفيا لكنني أرشدك إلى شيخ صوفي صادق ربما تجد عنده ضالتك. فدلني على الشيخ أبو النور خورشيد -شيخ الطريقة العلوية الشاذلية- رحمه الله فكان أول انطباع لي أن قلت في نفسي: ربما اكذب على الناس كلهم إلا على هذا الشيخ- أبدا، فكانت هذه نقطة تحول كبيرة في حياتي اصطحبني الشيخ إلى ما يسمونه بـ“الحضرة” أو مجلس الذكر، وسررت بها تماما، وبعد ذلك سألني الشيخ الصوفي: هل تريد الجلوس في المسجد؟ فأجبته: كيفما تشاء. وكنت وقتها مستأجرا شقة في احد شوارع دمشق حيث يكثر غير المسلمين، فبقيت في المسجد عامين كاملين حتى انتقل الشيخ إلى مسجد عبد الرحمن الصديق (من أحفاد أبي بكر الصديق)، حيث أمضيت خمس سنوات ثم عدت إلى فرنسا نهائيا كنت خلالها ازور والدتي كل عامين تقريبا هذا بخلاف الاتصال الدائم بها رغم اعتراضها على إسلامي. * وما مدى معرفتك بالإسلام قبل دخوله؟ كان لدي إلمام بسيط جدا بالإسلام، مع ملاحظة أن الإسلام لا يتلقى من الكتب بل من أصحابه، وللأسف فان المدعين اليوم كثر لكن المشايخ (الحقيقيين) بروحهم الطيبة التي تجذبك إلى الدين فهم قليلون، والإسلام ليس مجرد علم بدون عمل لأنه بذلك يصبح لا معنى له، وقد وجدت لدى الشيخ “أبو النور” قولا وعملا، وتطبيقا حسنا للإسلام، حيث كان يهتم بطلابه وكأنهم أبناؤه من صلبه، وهذا قلما رأيته، ولا أقول بأنه غير موجود لكنه من النادر، والحديث الشريف يقول: “من عمل بما يعلم، علمه الله ما لم يعلم”. وكيف كان رد فعل اهلك تجاه إسلامك؟ كان مختلفا بين والداي، فأبي كان يعتقد أن الإسلام دين سماوي منزل من الله، لكنه يعتقد انه جاء لفئة دون غيرها، ورغم أنني بينت له أن الإسلام دين موجه لجميع البشر ونبيه صلى الله عليه وسلم لكل الناس، لكنه لم يعلن إسلامه، ورغم ذلك فإنني أرجو أن يكون قد مات على الإسلام فمنذ سنتين دخل المستشفى بأمريكا وكانت إحدى الممرضات -مسلمة من اصل إفريقي- تهتم به اهتماما غير عادي، وربما يكون ذلك لأنها علمت منه بأنه قد اسلم. أما والدتي فمعارضة تماما، وهذا من باب العناد والتمسك الأعمى بالتقاليد والعادات القديمة -حتى وان لم تفهم معانيها- وهذا تعصب أعمى لبني جنسها ليس إلا. أنا الآن متزوج من مسلمة من أب جزائري وأم فرنسية، والحمد لله، ولدي من الأبناء ستة هم: أسامة، عمر، زينب، فاطمة، جعفر، وأم كلثوم. * لقد قمت بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية. فما الذي دفعك لذلك؟ هل توليت أية ترجمات أخرى؟ الذي دفعني للاتجاه نحو هذا المجال هو الشيخ أبو النور خورشيد، الذي وجهني لتقديم الإسلام إلى غير المسلمين، ونشر الدعوة الإسلامية بين الغربيين لأنني منهم واعرف تفكيرهم وانطباعاتهم جيدا أما الترجمات التي قمت بها فكثيرة -بفضل الله تعالى- ولا يتسع المجال لذكرها، ومنها بعد ترجمة معاني القرآن التي كانت في عام (2007 مسيحي) كتاب رياض الصالحين، رسالة المسترشدين، لمؤلفه الحارق المحاسبي (صاحب الإمام احمد بن حنبل، الذي كان إذا استشكل عليه أمر ذهب إلى المحاسبي وقال له: ماذا تقول في هذه المسألة يا إمام؟) وكتاب التنوير في إسقاط التدبير، لابن عطاء الله السكندري، وحاليا أقوم بترجمة صحيح مسلم وقد انتهيت من نصفه بحمد الله، وغير ذلك من الكتب. * من وجهة نظرك.. ما هي التحديات والصعاب التي تواجه الدعوة الإسلامية المعاصرة؟ المشكلة هي أن الدعوة الإسلامية تواجه تحديات من طرفين اثنين، فهناك صعاب وتحديات من المسلمين وصعاب وتحديات من غير المسلمين. أما تحديات غير المسلمين وخاصة الفرنسيين الذين أتعامل معهم فهي أنهم كلما رأوا أحدا بإمكانه التأثير في الناس في مجتمعهم، وجذبهم إلى سماحة الإسلام وضعوا في طريقه كافة العقبات والعوائق غير المباشرة حتى لا يسمعه أحد، وهذا مشهود، ولا يلجأون للإعاقات المباشرة حتى لا تتهم فرنسا بمعاداة الحرية والرأي والتفكير، التي هي ما تكون عنها في الحقيقة، فالشعب الفرنسي منزو على نفسه، ولا يرضى لأحد أن يتميز عنه، وهو شعب يخاف من الآخرين، ومن يتصور أن فرنسا تستقبل كل من يأتيها بحب وشغف فهو مخطئ فالفرنسي لا يحب غير بني جنسه ودينه، ويصعب عليه أن يرى من يخالفه في عاداته وتقاليده وعقيدته، وما دفع الفرنسيين لاستقبال المهاجرين الأجانب هو دافع اقتصادي محض لحاجتهم إلى اليد العاملة الرخيصة، ولذلك نجدهم يرسلون وكلاء الشركات الكبرى إلى البلدان لجلب اليد العاملة الرخيصة، ومن القرى خاصة، وبالتالي فالعامل الاقتصادي هو السبب وليس الإنسانية كما يدعون. * أما التحديات التي تواجه الدعوة من المسلمين أنفسهم للأسف الشديد فهي: أن معظم من هاجر إلى فرنسا خاصة، أو الغرب عامة في القرن الماضي كانوا من البسطاء، فكان هذا الجيل مسلم بالفطرة واعتقادهم قوي بدينهم، متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم لكن أبناءهم كانوا يجهلون اللغة العربية و“محتارين” بين التربية الفرنسية أو تربية الآباء، فلم يستقروا على ثقافة معينة محددة، أي أنهم مذبذبين فلم يكونوا مع هؤلاء ولا هؤلاء، جيل يميل إلى الجهل أكثر من العلم ومن العمل، وللأسف أصبح هؤلاء الشباب في الثمانينيات أرضية خصبة للدعوة المتشددة التي قصدت الشبان الجهلة الذين تبرأوا نوعا ما من دين آبائهم فأصبحوا عائقا في وجهنا وفي وجه الدعوة الإسلامية. وقد رأى فيهم الفرنسيون شبانا انتقلوا من السرقة وتهريب المخدرات إلى العمل الإسلامي المشوه، والميل للإرهاب والعنف والتطرف فكان ذلك سبب إعلان الفرنسيين الحرب ضدهم. * وكيف استطعتم التغلب على كل ذلك؟ لو أننا تغلبنا على ذلك لما أصبحت هناك مشكلة، ولكنا بخير اليوم، غير أننا نحاول جاهدين، فمثلا عندما قدمت ترجمتي لمعاني القرآن بالفرنسية وجهت نسخة للشبان العرب الموجودين بفرنسا، وفي البداية وجدت الترجمة نوعا من الإقبال حتى من الجهات المتشددة لكن سرعان ما انقلبت الأمور وجاءتهم التعليمات بعدم شراء أو قراءة تلك الترجمة لأن صاحبها لا ينتمي إلينا"!! وكذلك الحال إذ وجهت الترجمة إلى الفرنسيين تجد إقبالا شديدا لكن مجرد خوفهم من جذب الشباب إلي يجعلهم يقفون ضدي. من ناحية أخرى فقد وفقني الله تعالى في بداية التسعينات لشراء قطعة ارض في مقاطعة “ليون” مساحتها حوالي ألف متر مربع وكانت مزرعة للرهبان قديما، يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر وقسمتها قسمين، أقمت في الأول سكنا لي وفي الثاني زاوية للصلاة والتدريس وجمع الأحباب حيث نجتمع حوالي ستين شخصا بدون عائلاتنا وأبنائنا يومين من كل أسبوع: الخميس وكمجلس صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والسبت حلقة ذكر، وأكرمنا الله تعال بإيجار (كراء) مكان آخر في باريس، مناصفة مع كنيسة بالعاصمة باريس مساحته ستين مترا للصلاة والذكر في نفس اليومين أيضا، دون تضارب بيننا وبين الكنيسة، لأنهم يقيمون قداسهم يوم الأحد فقط، وفي فرنسا إذا لم تتدخل في السياسة فلا تجد معارضة، فنحن مثلا نجد تسهيلا من الحكومة لأننا لا علاقة لنا بالسياسة، وقد راقبوني منذ ثلاثين سنة مراقبة شديدة حيث كانوا يستدعونني كل شهر، أما اليوم فقد توقف هذا منذ تسع سنوات تقريبا بعد أن تأكدوا من ابتعادي تماما عن السياسة. * وكيف ترى وضع وواقع المسلمين اليوم في فرنسا؟ المسلمون الموجودون حاليا من الجيل الثالث، وعلى ما اعتقد فاغلبهم بعيدون عن الإسلام وللأسف، حتى من يعود منهم إلى الإسلام يكون منتميا للتيار المتشدد، صحيح أن هناك من يعود على يد بعض الشيوخ الطيبين والمعتدلين لكن هذه نسبة قليلة مقارنة بالنسبة الكبيرة المنتمية للتيار المتشدد بينما بالنظر إلى مسألة بناء المسجد نجد هناك تقدما ملحوظا وملموسا مقارنة بوضع المسلمين في الستينات والسبعينات من القرن الماضي والذين كانوا يؤدون الصلاة في مساجد صغيرة ومتسخة تشبه الأقبية، أما اليوم فالحكومة أقامت وسمحت لهم بإقامة المساجد الكبرى التي تضم كل المنافع في كافة المجالات ويتمكن المسلمون فيها من أداء الصلاة، لكن ربما قصد من ذلك سهولة مراقبة المسلمين، وأيا كان الأمر، وبصرف النظر عن حق الحكومة في مراقبة مواطنيها وكل من يتواجد على أرضها، فان الوضع الحالي أفضل بكثير من ذي قبل وفي تحسن مستمر وملموس. لا أتصور أن الأفراد المسلمين المقيمين في الغرب وفرنسا تحديدا يعودون إلى إسلامهم، بل أتصور أن النسبة الكبيرة منهم تبتعد تدريجيا، حيث ترى البعض منهم ينكرون مبادئ الدين الحنيف الأساسية كالصلاة والصيام حسب مزاجهم وهواهم! وهذا لم يكن موجودا في السابق، وتحديدا في الأجيال الأولى أو اللاحقة، فلم نكن نتصور-منذ عشرين أو ثلاثين سنة- أن نرى من العرب ملحدا، أما اليوم فهذا مجود، رغم قلة النسبة. وفيما يتعلق بالمسلمين الجدد، وخاصة الفرنسيين فعددهم في تزايد دائم حتى أن احد الأئمة (إمام اكبر ثالث مسجد في مقاطعة ليون) أكد أنه رأى في مسجده أكثر من أربعة آلاف مسلم جديد خلال أربع سنوات أي بمعدل ألف مسلم كل عام أو يزيد قليلا، مما يدل على الإقبال المتزايد من الغربيين على الإسلام، مع ملاحظة أن هناك الكثيرين من الذين يسلمون أو يتعاطفون مع الإسلام لكنهم يخشون من عائلاتهم أو فقد مناصبهم فيخفون ذلك. والمشكلة الأكبر هي أن المسلم الجديد إذا لم يجد يدا حانية تحميه من الضياع فسيرتد بعد مدة وجيزة خاصة انه ليس هناك أية جمعيات أو منظمات تقوم بهذا الدور المهم بحيث تتلقى المسلم الجديد وتنشئه حتى لا يضيع إسلامه. * وماذا عن وضع المرأة، والمسلمة خاصة؟ لا أرى أن هناك مشكلة بالنسبة للمرأة عامة والمسلمة خاصة وأنا اجتمع مع عدد كبير من الرجال والنساء فلا أجد لهم مشكلة محددة سواء في الزواج أو الطلاق أو خلافه، فالحياة مثلها مثل الحياة في أي بلد إسلامي. أما تعرض المرأة للإهانة أو الإساءة سواء من قبل المسلمين وهم أزواجهن وأولياء أمورهن أو من غير المسلمين فهذا شيء وارد مثل الكلام البذيء أو النظرات المعادية، ولكن تبقى هذه -في النهاية- تصرفات محدودة حتى الآن، وإذا كان الإيمان قويا لدى المرأة المسلمة عامة فلن يؤثر عليها شيء. * وكيف يستطيع المسلم تربية أولاده في المجتمعات الغربية مع الحفاظ على أصوله وقيم دينه؟ هذه مشكلة كبيرة فعلا لأن الولد -أو البنت- يقضي ساعتين-أو اقل أو أكثر قليلا- مع والديه وأهله لكنه يقضي بقية الوقت مع وسائل وعناصر أخرى كثيرة تؤثر فيه، فهناك التلفاز والانترنت والأصدقاء، فإذا لم يكن الطفل مهيأ لمواجهة كل ذلك بثبات وصمود وقوة فلربما تأثر، وغالبا ما يتأثر لكن ليس إلى درجة أن يفقد دينه، بل ينحدر خلقيا في المقابل لا أتصور أن يصبح هذا الشاب حافظا للقرآن، أو أن تكون المدارس كافية لتحصينه وتأهيله لمواجهة مثل هذه المشكلات، رغم أن ذلك ضروري في أي مكان سواء في الشرق أو الغرب، ومن ثم فمن الضروري أن نكوّن ونهيّئ البيئة والمجتمع الذي يجد فيه ذلك الولد كل ما يتطلبه سنه حتى لا يميل إلى الخارج، وكما أن للغرب مساوئ ومحاسن، فعلينا أن نوفر المجتمع الذي يعطي أبناءنا كل ما يتمنونه، وأنا شخصيا كنت دائما ابعث أولادي مع أولاد الإخوة في العطلة إلى أماكن يقضون فيها إجازة ممتعة كركوب الخيل والزوارق ولعب التنس وغيرها من الألعاب، فإذا ما رجعوا شعروا أنهم ليسوا اقل من غيرهم من غير المسلمين، وأيضا عندما يأتي عيد الميلاد لا احذرهم ولا أنهاهم ولكن أقول لهم: هذا ليس عيدنا بل عيدنا هو الفطر والأضحى وآتي لهم في هذه المناسبات بما يكافئ عيد الميلاد وزيادة حتى لا يشعروا بالحرمان بل يشعروا أن أعيادنا أكثر عطاء وخيرا لهم من حيث العدد والمكافآت والجوائز، وبهذه السبل نجعلهم يعيشون في مجتمعهم الأصلي دون عقد. * وهل يتسبب الدعاة الوافدون في إثارة بعض المشكلات المذهبية أو الطائفية خاصة وأنهم لا يعرفون جيدا طبيعة تلك المجتمعات الغربية عنهم؟ الحقيقة هذا وارد ويحدث فعلا خاصة وأن كل دولة ترسل علماءها ودعاتها أنما تقصد من وراء ذلك التأثير في أولئك الناس الذين توجه لهم الدعوة من جالياتها أو مراقبتهم، وهذه كلها أشياء لا تعنينا ولا نشارك فيها ولذلك يتم تهميشنا من قبل هؤلاء وأولئك، وإن كان البعض منهم يفتخر بنا، فهم ليسوا على نمط واحد، ويرون أننا سندهم ونتعاون معهم لتوجيه الدعوة الإسلامية الصحيحة للفرنسيين لأنهم لا يجيدون الفرنسية أو لا يعرفون طبيعة الفرنسيين، لكن هناك أيضا من ينظر إلينا بعين العداوة، أو من لا ينتفع بهم بحال وهؤلاء من الصنف المعيق للدعوة. * وكيف ترى مستقبل الإسلام والمسلمين في الغرب في ضوء المعطيات المعاصرة؟ الحقيقة أن الأمور في غموض لأنها ترتيبات إلهية، ولا أتصور أن أوروبا ستميل إلى الإسلام ميلة واحدة فهذا استبعده، ولكن أراه إذا حدثت في أوروبا كوارث أو حروب كبيرة ربما يرجع البعض إلى الله ويهتدي للإسلام أفواجا، فهم بعيدون كل البعد عن الإسلام حاليا وأيضا ضائعين ولا يجدون لحياتهم لذة أو اتجاها معينا ثابتا. والإسلام هو البديل الوحيد القادر على سد الفراغ في حالة الفقدان والحرمان الروحي التي يعاني منها الغرب عامة، والمشكلة الكبرى التي تواجهنا كدعاة أن الغالبية العظمى من الغربيين والفرنسيين وصلوا إلى درجة نسيان كل ما هو معنى للدين والروحانيات حتى أن بعضهم عندما تحدثه عن ذلك وكأنك تحدثه باللغة الصينية فلا يفهم منك شيئا! وإذا عدنا لخمسين سنة تقريبا نجد إن هؤلاء الغربيين كان عندهم دين ومقدسات، بغض النظر عن التزييف أو الأشياء غير المنطقية فيها،أما اليوم فهم شعب بلا دين ولا يعرفون له معنى، وشعارهم اللهو والانهماك في الملذات فهذه هي حياتهم، وإذا ذكرتهم بتنقية النفس للارتقاء بها من درجة الحيوانية إلى ما فوق مستوى الإنسانية فكأنك تخاطبهم بلغة غريبة جدا عنهم لا يفهمونها بتاتا، لذلك يصبح من الصعب التفاهم معهم وقد وصف القرآن هذه الحالة بالأنعام بل أضل سبيلا، لأنهم قصروا حياتهم على الحياة البهيمية من قضاء الشهوات والملذات وجمع الأموال وينظرون إليك على انك مجنون أو رجعي كما قال الأولون منهم عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.