اختيار الوقت المناسب والصيغة الفعالة في اسداء النصيحة

اختيار الوقت المناسب والصيغة الفعالة في اسداء النصيحة


إن لكل حاسة من حواس الانسان شاهية تتفتح في وقت، وتنغلق في وقت اخر نظير شاهية الأكل التي يعرفها كل الناس فللعين شاهية وللأذن شاهية وللسان شاهية ايضا وكما تعجز الحلوق عن استساغة لقمة واحدة من طعام شهي تعجز الاذان عن تلقف جملة واحدة من كلام فصيح وجيه لا يختلف في صحته اثنان وان سلطان البطون والحلوق لقاهر لأن المنتج فيه والمستهلك واحد فاذا ما اذنت البطن بالكف عن تقديم الاطعمة والاشربة اليها تضامنت معها بقية اخواتها من جسم صاحبها الذي هو واحد، اما الاذن واللسان فبالعكس من ذلك لأن المنتج غالبا هو غير المستهلك والمتكلم هو غير السامع والسامع غير المتكلم ولهذا كثيرا ما يقع التضارب بين الرغبتين فيكون مقدم الفكرة ينظر اليها بمنظار ومتلقيها ينظر اليها بمنظار معاكس تماما ومن هنا ينشأ نوع من النشاز الذي هو طارئ سببه سوء الاستعمال وعدم حسن التصرف.

وإن أعظم ما ينشأ بين الناس من خلافات عارضة أو متأصلة لا يوجد له سبب في الواقع الا اختلاف زمن الشاهيتين شاهية الاستماع وشاهية التحدث او عدم تقديم المفتحات التي تكون الرغبة هنا وهناك، قد تكون الفكرة التي ينادي بها أحدنا في حد ذاتها قدرا مشتركا بينه وبين من تقدم له ولكنها تثير زوبعة واختلافا لا لشيء الا لأن الذي قدم الفكرة لم يجعلها في اطارها الذي يجب ان تجعل فيه ولم يحسن مراعاة الحال والمقام الذين جعلهما علماء البلاغة جماع هذا العلم حتى انهم قالوا (من عرف الحال والمقام فقد عرف علم البلاغة) .

وليس مرد التأثير والاقناع الذين يحرز عليهما بعض المتكلمين والخطباء دون بعض راجعا الى قوة البلاغة وجمال المنطق والاسلوب فقط بل العنصر الرئيسي الذي يرجع اليه ذلك ما هو الا اختيار الظروف الملائمة لإلقاء الكلام الى المخاطبين مع المعرفة التامة بطباعهم ومركباتهم اذ رب كلام واحد يلقى في يوم واحد وفي بلد واحد يتبدل بأساليب مختلفة حتى يرى غير المتعمق انه ضرب من التناقض السخيف وانه الذبذبة والتهافت اللذان ينزه عنهما اصحاب العقول والاذواق وهو بعيد كل البعد عن اي ذبذبة او تناقض او تهافت وانما هي الحكمة فرضت على صاحبها ان يحتفظ بالجوهر فقط ويتصرف بمهارة في العرض وان يصل الى غايته مرة من طريق قريب ومختصر ومرة مع منعرجات وازقة قد تطوح به حتى يظن الظانون انه قد تاه وضل السبيل ويأخذهم الدهش عندما يرونه قد وصل وهم قاعدون بعد ان امل وهم آيسون وهذه هي طريقة الكر والفر التي علمها لنا ديننا في الحرب واوصانا بها وما الحياة الا حروب كلها ولن يسلم فيها الا اهل الكر والفر.

دعاني الى كل هذه المقدمات والنتائج امر مهم للغاية لعلي اكون احرى الناس بالاستماع اليه والانتفاع منه وأحوجهم الى فتح الاذن والتنبه اليه وهذا الأمر هو شدة الحرارة في نصيحة الاقربين والاحباب، وقديما قيل (ومن البر ما يكون عقوقا) ان شدة الحرارة في النصح ان دلت على شيء فانما تدل على ارتفاع مستوى الحب والاخلاص عند اصحابها وتدل ايضا على الطيبة وسلامة الطوية حتى ان كل خير يساق الى الناس يحسبه اهل الطيبة افضل واحسن من الذي يساق اليهم وان كل شر يصيب الناس هو موجه لهم دون سواهم. وقد يصل بهم الايثار الى درجة انهم يظنون ان ذلك الشر هو فوق ما نزل به فيتمنون ان يحل بأشخاصهم لأنهم أقدر على التحمل ولأن المصائب لا تزعزع ايمانهم ولا تجعلهم ينقمون من الأقدار السماوية او ينقلبون على الاعقاب.

كل هذه الاشياء ليست من قبيل الخيال وهي لن تشفع لأصحابها ابدا ان افرطوا في نقمتهم على قريب انحرف او ولد قصر وتهاون: لأن الاعتدال دائما هو طريق الخير والفلاح ولأن مثل تلك الحدة انما يعرف ماتاها بعد حين اما في الطفرات الاولى التي تصيب الكبير والصغير والعالم والجاهل فقل ان يهتدي احد الى دخيلة نفس المحتد او الى نظرته العميقة البعيدة وقديما قال رسول معصوم (ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين)

هناك سوانح يجب ان يستغلها الناصح كما يستغل الصياد الماهر غرة من غزال شارد او ثعلب مراوغ أو ذئب رواغ فاذا ما ضيعها فليبق سهامه بالكنانة حتى تحين فرصة اخرى ولنضرب لنا مثلا ولعله ضرب من تصيد الفرص مسألة الامتحانات التي تواجه الاباء والابناء في كل سنة فانها فرصة مواتية ليقدم فيها الانسان من النصح للاولياء وللابناء اكبر قسط ممكن لانها ابان لتفتح شاهية الاستماع خصوصا عند المقصرين وان تحرضهم لتجعلهم ياخذون من النصيحة قدر حاجتهم وزيادة لأنهم فتحوا مخازنهم لادخار النصائح فلنكن في مثل هذه الحالة من الحكماء الذين يحسنون الضرب على الاوتار ويعرفون من أين تؤكل الكتف، لأن كل شاب يود ان يكون من الناجحين ومن أصحاب الجوائز.      وكل ولي يتمنى من كل قلبه ان يكون ابنه او منظوره اول المتفوقين وائنذ يمكن لنا ان نقول لهم : ان ذلك كله في الامكان وانه ان تعذر اليوم فلن يتعسر غدا انما المهم فقط ان نحذر نسيان الصدمة بمرور الايام واذا ما جعلناها في كل يوم جديدة كانها قد نزلت في ذلك الحين بالذات امكن لنا ان نواصل المجهود والجهود وان نجعل اوقات الراحة اوقات استعداد وتهيء وتدارك حتى اذا ما دارت الايام دورتها وجدتنا على اهبة واستعداد: ان مثل هذا الكلام لا يقال للطلبة والتلاميذ وأوليائهم فقط ولا يوجه لنا ولهم في خصوص الدراسة لا غير بل هو عام وشامل ولكل حالة من حالاتنا ولكل شأن من شؤوننا سواء في ما يخص الفرد او المجموع او يهم الامة بمفهومها الصغير وبمفهومها الكبير وعسى الله ان يفتح بصائرنا للتنبه والاعتبار وما ذلك على الله بعسير.



الكلمات الشائعة الدين النصيحة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.