مفاهيم إسلامية: انحسار المدد التهذيبي لشعائر الإسلام ليس سببه الإسلام وإنما يتحمله المسلمون

مفاهيم إسلامية: انحسار المدد التهذيبي لشعائر الإسلام ليس سببه الإسلام وإنما يتحمله المسلمون


يظن كثير من الناس أن تقدم الإنسانية رهن بما تحرز عليه من علوم وثقافات، وان تأخرها ناشئ فقط عن نقصان حظها في العلوم وعدم تضلعها في الفنون والثقافات وهذا الظن مصيب إلى حد بعيد غير أن إصابته مشروطة بشروط لابد من توفرها وإلا أصبحت العلوم تمثل الجهل والثقافات تمثل الضياع والتيه، ومن أهم هذه الشروط وأعظمها السيطرة على النفس وإخضاعها للعمل الذي لا يتناقض مع حقيقة العلم والثقافة، بل إبرازها في أبهى صورها وأجمل مظاهرها حتى يصبح أصحابها أمثلة حية للعلم المفيد والثقافة المجيدة. وان السيطرة على النفس لعملية صعبة للغاية لا يمكن أن تتحقق للإنسان بمجرد التقرير والعزم عن التحول من حالة إلى أخرى لان واجهات الحياة مختلفة وكل واجهة من واجهاتها مليئة بالمزالق والمخاطر. ولقد علم المولى سبحانه وتعالى من عباده ما يجهلون من أنفسهم التي ركبها كما شاء لا كما يشاؤون فجعل لهم قوانين وضوابط سماها شريعة وألزمهم على اختلاف مستوياتهم بإتباعها والتشبث بها ليسلموا من شرور أنفسهم ولتصبح بين أيديهم القوة الكافية للسيطرة على ما بين أضلعهم من نزوات وشهوة وهوى، وأبت إرادته الحكيمة إلا أن تجعل جميع ذلك متصفا بالدوام والاستمرار فكل إهمال أو تثاقل أو عزوف يكلف صاحبه من المتاعب والخسارة فوق ما كان يقدر. ولم يمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمام هذا الموضوع الهام بدون أن يعطيه ما يستحق بل وضحه أتم توضيح بوضع النقاط على الأحرف بارزة مضيئة حيث قال: (الناس هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على وجل) حقا والله إنها للنبؤة تتكلم وإنه للإعجاز في الإيجاز، جمل قصيرة اشتملت على ما يستحق أن يكتب فيه كتاب مطول، وكلمات لو وعاها الناس والتزموا بتطبيقها لجنبتهم جميع ما يترصدهم من شرور ونكبات، نعم لن ينجو من هلاك محقق إلا من تزود بنصيبه الأوفر من المعرفة وان الهلاك ليترصده إذا هو لم يشمر عن ساعديه عاملا على تطبيق جميع ما تعلمه من علوم وفنون وصناعات، وانه أيضا ليطارده ويلاحقه إذا هو لم يخلص في ذلك التطبيق ولم يكن صادقا نزيها وسوف يبقى الهلاك جاثما بجانبه يتحين منه فرصة خيانة أو اغترار أو ما يشبههما مما يفسد إخلاص المخلصين ويحبط أعمالهم. فأين تكون النجاة إذن من هذا الهلاك؟ وأين المفر من أشباحه المخيفة؟ لا مفر ولا نجاة إلا بالسيطرة على النفس والإمساك بزمامها في جميع الحالات والظروف وإنها لغرارة غدارة وقهارة وأمارة ولقد صدق فيها من خلقها حين قال (إن النفس لأمارة بالسوء). لقد أرشدنا الرؤوف الرحيم إلى الدواء الناجع والترياق الذي يستأصل سموم النفوس، فانزل القرآن الذي هو الشفاء الوحيد لأمراض النفوس بما اشتمل عليه من أحكام وقوانين وفروض فيها الإيمان والهداية والاستقامة وفيها القوة والعزيمة والانتصار (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا). لم يخلق سبحانه وتعالى دواء لنفوس عباده غير تلك التعاليم التي يلذ للمتجاهلين لدررها والجاهلين لعمقها أن يصفوها بما يشاؤوا فرارا بشهواتهم ونزواتهم من تأثيرها العظيم ولو علم الله أن غيرها يقوم مقامها لما أثقل كواهل عباده الضعفاء بها ولأراحهم منها وهو الفعال لما يريد. إن البطل الذي يطيح بالصناديد في ساحات الوغى ولا يرهب الأسود الكواسر ولا الجيش العرمرم قد يكون من اضعف خلق الله أمام غرائزه وشهواته تفعل به ما لا يستطيع أعداؤه مجتمعين أن يفعلوا معشار معشاره، فهو إذن محتاج إلى مدرسة ربانية تعلمه مجابهة نفسه وتجعله يقوى على مراسها الشديد ويتقن ضروب حروبها الخبيثة وما هذه الأكاديمية الربانية إلا فرائض الإسلام تلك الفرائض التي استطاعت أن تجعل من مجتمع الوثنية والوأد والفاحشة وسفك الدماء وتحجر العواطف، أن تجعل منه ما حققته من معجزات باهرة في تقويم السلوك وتهذيب الأخلاق ورقة العواطف هذه الأشياء التي لن تحققها الثقافة بجميع ألوانها ولا العلوم مهما اتسع نطاقه وبهر إعجازه. * اجل إن الصلاة التي يؤديها المسلمون الحقيقيون خمس مرات في اليوم بخشوع واطمئنان وطهارة قلبية وبدنية لتنهى عن الفحشاء والمنكر (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) ولتعين على مشاكل الحياة وتمكن من أسباب النصر (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين). * وان الصيام الذي يمارسه المسلمون شهرا كاملا من كل سنة لهو مدرسة العزيمة والإرادة والتحكم في النفوس الأمارة وانه للدواء الناجع والوقاية من كل شر (الصوم جنة) وانه للمظهر الحقيقي للصدق والإخلاص ومطابقة السر للعلن لان صاحبه لا يستطيع أن يقصد به أحدا غير خالقه ولا يرجو جزاء عن صومه من غير من صام امتثالا لأمره واقتناعا بحكمه، ولو أراد التدليس والتلبيس لسنحت له ظروف الخلوات أن يتناول ما يشتهي ثم يمسح شفتيه ويعلن صيامه، غير أن إيمانه وصدقه يأبيان عليه ذلك فحق للصوم بهذا الاعتبار أن يرد في شأنه الحديث القدسي العظيم الذي يقول (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وإنا اجزي به). هذه وغيرها وهو كثير في التعاليم التي نزل بها الكتاب المبين وأرسل لتبليغها الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام هي وحدها التي يفتقر إلى ممارستها والعمل بها كل مجتمع مهما ارتقى في سلم الحضارة والعلم لأنه لن يجد شيئا في الدنيا يهذب النفوس ويكون فيها ضمير المراقبة والمحاسبة سواها، وإذا ما حاول احد أن يعتاض عنها بشيء غيرها فسوف يجد في النهاية أنها للأرواح كالماء والهواء للأبدان بل هي الضرورة الحتمية للأبدان والعقول والأرواح، وهي ركيزة الاجتماع البشري والتآخي على البر والتقوى وهي السبيل الوحيد إلى كل خير وإسعاد، من اخذ بها انتصر، ومن حاد عنها خسر وإذا رأينا مدها الإصلاحي التهذيبي يقف عند حدوده أو ينحسر إلى الورا في فترات طويلة من حياة الشعوب المتمسكة بالإسلام فليس ذلك لان تلك المفروضات والشعائر غاض معين خيرها الإصلاحي أو وضعت لمجتمعات لم يعد لها مكان في دنيا الحضارة والعلم بل إن لانحسار مدها التهذيبي سببا وحيدا هو آلية التطبيق، تلك الآلية التي تفقد الشعيرة هدفها وروحها وأسلوبها فتجعلها وسيلة من وسائل المخاتلة والخداع وصنعة يكتسب بها أصحابها الرزق والاحترام!! وإذا أصبحت العبادة تمارس على هذا الأسلوب ولهذه الغاية فمن الظلم أن نسميها عبادة إسلامية أو نحسبها على الإسلام حتى نشكك الناس في نجاعة أسلوبه أو نجعلهم يربطونه بالزمانية والمكانية. إن الكلمة الفاصلة بيننا وبين المجادلين في الدين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير هي مقالة الرسول صلى الله عليه وسلم الآنفة الذكر (والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على وجل).

الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.