ليس بين الاسلام في فهمه الصحيح ودولة الاستقلال ومشروعها التنموي تناقض أو تعارض

ليس بين الاسلام في فهمه الصحيح ودولة الاستقلال ومشروعها التنموي تناقض أو تعارض


عاش العالمان العربي والاسلامي منذ منتصف القرن الماضي تجارب حكم متعددة بعد تحرر شعوب هذه البلدان من ربقة الاستعمار الذي جثم على رقابها لفترات متفاوتة (ما يزيد على القرن كما هو بالنسبة للجزائر (1830-1960)) وامتدت تجارب الحكم ومشاريع النهوض والرقي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مرورا بالوسط الذي جاءت محاولاته آخذة من هذا وذاك ملائمة بين ما اصطلح على تسميته بالأصالة والمعاصرة والتراث والتجديد. *جاء إحراز تونس على استقلالها سنة 1956 بعد نضال تميز بخصوصيات عدة لعل أهمها بروز حركة اصلاحية حاولت إنقاذ البلاد مما تردت فيه من أوضاع متادعية: سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية يبدو أنها جاءت متأخرة بعض الشيء ولذلك لم تتمكن من جعل البلاد تصمد في وجه التوسع الاستعماري الفرنسي فكانت الحماية سنة 1881. ولم تلبث الحركة الوطنية التي كان من ارهاصاتها صدور قانون عهد الأمان واصلاحات خير الدين ان تشكلت في هيئة جمعيات ونواد ومؤسسات ثقافية وإعلامية وتربوية لتصبح حركة سياسية وطنية انصهر فيها كل الزعماء الوطنيين بداية بالزعيم عبد العزيز الثعالبي وانتهاء بالزعيم الحبيب بورقيبة الذي تهيأ له ان يقود الحركة التحريرية ويتولى رئاسة الدولة عند احراز البلاد على الاستقلال في 20 مارس 1956 لتتأسس على يديه الدولة وترسم الاختيارات. *واليوم وبعد ما يقارب الستين سنة على استقلال البلاد التونسية يمكننا ان نقف لنقوم بتجرد وموضوعية التجربة التونسية في محاولة النهوض والرقي بالبلاد ولعل ما هو جدير بالملامسة والتطرق إليه في هذه التجربة هو مدى توفقها في معالجة قضية الأصالة والمعاصرة التي ظلت معضلة على امتداد الساحة العربية والاسلامية وطيلة العقود الماضية. ويمكننا بموضوعية وتجرد ان نعتبر الدولة الوطنية في تونس ومشروع النهوض والرقي بالشعب التونسي ذو خصوصيات ومميزات يبدو فيها جليا وواضحا الجانب الاصلاح التنويري المتفاعل مع الواقع والمحيط والاخذ بعين الاعتبار التطلعات المشروعة لكل فئات ومكونات الشعب التونسي. لقد استطاعت الحركة الاصلاحية التونسية ومن ورائها الحركة الوطنية التحريرية ان تنصهر فيها كل التيارات والمكونات المؤثرة في المجتمع كما استطاعت ان تجعل من تحرير البلاد من ربقة الاستعمار أولوية التزم بها الجميع كما اعتبر بناء الدولة وتحقيق مشروع النهوض والرقي الشامل بالبلاد التونسية الأولوية الموالية المترتبة عن النجاح في المرحلة الأولى. وهكذا مضى التونسيون في غالبيتهم (اذ لا بد من وجود الاستثناءات) يدعمون بكل ما أوتوا مشروع بناء الدولة الحديثة ومشروع الرقي والنهوض في كل مجالاته وميادينه الاجتماعية: تحرير المرأة والنهوض بالأسرة بإصدار مجلة الأحوال الشخصية وإعلان الوحدة القومية بمحاربة العروشية والنزعات القبلية والجهوية، والتربوية بتوحيد وتعميم التعليم مع ما فيه من غمط وإجحاف في حق المؤسسة الزيتونية العريقة، والقضائية بتوحيد المحاكم والتشريعات والقوانين وتعصيرها في حرص على الاستمداد من روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها التي هي رحمة كلها ويسر كلها ومرونة كلها. وما يمكننا التنويه به والوقوف عنده هو ان الدولة الوطنية في تونس ومشروع الرقي والنهوض بشعبها في خطوطه العامة وفي جوهره وفي مختلف أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية هو محاولة جادة وناجحة إلى حد بعيد لا يمكن الحكم عليها بالفشل لأن نتائجها ومكاسبها تبدو جلية واضحة في المستوى الرفيع من العيش الكريم لأغلب التونسيين -وهذا دائما في إطار النسبية والاعتراف بالقصور والتقصير في بعض الجوانب وفي بعض مراحل هذه التجربة- ولا أدل على ما أقول تلك النسب المرتفعة للتمدرس والتغطية الصحية والاجتماعية وامتلاك الأسر والعائلات لمحلات سكناها وغيرها وهذا مع الأخذ بعين الاعتبار للامكانات المادية والثروات الطبيعية المحدودة والظروف الاقليمية والدولية وكل تلك تحديات واجهتها تونس بالاعتماد على النفس. ولا يجد الباحث بتجرد وموضوعية في ملامح وخصوصيات واختيارات البلاد التونسية في نموذج الدولة ومشروع الرقي والتحديث تضاربا ولا تناقضا ولا تعارضا مع ثوابت البلاد التونسية وهويتها العربية الإسلامية، والذي يستعرض بعض المحطات في مسيرة الحركة الوطنية التحريرية يظفر بما يؤكد هذه الحقيقة من ذلك الوقوف في وجه المؤتمر الأفخرستي التنصيري سنة 1930ومقاومة حركة التجنيس والحكم على المتجنس سياسيا ووطنيا (في تزاوج مع الدين وفهم لأبعاده العميقة) بأنه خارج عن المجموعة الوطنية، والوقوف في وجه السفور (معركة الحجاب) في تلك الفترة من تاريخ تونس حماية للشخصية التونسية غير المنفكة عن الدين، وكذلك الانطلاق في كل حملات التوعية والتوجيه وتحريك السواكن وجمع الصف وتغيير ما بالنفس في خطاب الحركة التحريرية الوطنية وبناء الدولة وتجسيم مشروع الرقي كان ينطلق من فهم عميق للآيات القرآنية والأحاديث النبوية والسيرة المحمدية العطرة وذلك في مثل قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وقوله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وقوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس) وغير ذلك كثير جدا وكان لذلك الأثر الكبير في شحذ الهمم ووحدة الكلمة والاندفاع أولا لتحرير البلاد من ربقة الاستعمار فكان ذلك هو الجهاد الأصغر والذي تواصل في جهاد أكبر بعد الاستقلال فكانت الاختيارات والتوجهات والبرامج والأهداف التي وضعت ورسمت للشعب التونسي في كل المجالات والميادين من أجل تجسيم الخيرية الفعلية الواردة في الآية الكريمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس) خيرية التمكن في الأرض والخلافة لله أحسن خلافة بعمارتها تحصيلا للعلم على شموله وإطلاقه وانصرافا للعمل الصالح بإتقان وتفان وتآزر وتضامن وتعاون على البر والتقوى فكل ذلك عبادة محققة لمرضاة الله تضاف إلى العبادة الشعائرية التي هي محطات للتزود بخير زاد هذا هو الفهم السليم للدين يجعل منه يجمع ولا يفرق وينير ولا يثير ويبني ولا يهدم امنا وسلاما للناس أجمعين يأبي الفتنة والفرقة والاختلاف والقتل وسفك الدماء إن نموذج الدولة ومشروع الرقي والتنمية والتحضر في تونس بعد الاستقلال متطابق في خطوطه العامة والعريضة وفي مقاصده وأهدافه وفي أغلب تفاصيله وجزئياته مع الاسلام في فهمه العميق المستنير: دين التقدم والتحضر دين الرحمة والسماحة دين الوسطية و الاعتدال دين الاجتهاد والتجديد المحقق لمقولة: الاسلام صالح لكل زمان ومكان وهكذا بتشذيب يسير تقتضيه سنة الحياة وبتصحيح لبعض الأخطاء والفلتات يمكن اعتبار نموذج الدولة ومشروع التنمية والرقي في تونس مجسما للتطلعات المشروعة لشعب تونس ومحققا لتجذره في هويته وأصالته العربية الإسلامية في أجمل تجلياتها وخصوصياتها: تحريرا وتنويرا وتبصيرا.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.