نشأة المذاهب الفقهية و دورها في إرساء منهج الاجتهاد الشرعي

نشأة المذاهب الفقهية و دورها في إرساء منهج الاجتهاد الشرعي


يعتبر الفقه الإسلامي أكثر مجالات الثقافة الإسلامية تعبيرا عن ضمير الأمة وأشدها تصويرا لحركية المجتمع الإسلامي، على مرآته انعكست أوضاعها ووفق أحكامه المستخرجة وحلوله المستنبطة تصرف أفراد المجتمع في شتى مجالات حياتهم العملية سواء كان ذلك في ميدان العقيدة والعبادة أو في ميدان المعاملة والسلوك. ولقد عبر عن هذه الميادين الثلاثة بتعبيرات فقهية وتقسيمات شرعية. فسمي الجانب المتعلق بالعقيدة والمصير والمآل وموقع الإنسان في الكون والحياة ومسؤوليته أمام ربه بالفقه الأكبر وعبر عن الجانب الثاني منه وهو جانب العبادات والمعاملات والسير فيها وفق مقتضى الأحكام الشرعية بالفقه الأصغر. وقد غلب التعبير بالفقه على الجانب الثاني من حياة الفرد والمجتمع في كيفية العبادات وأحكامها وكيفية المعاملات والعقود بأنواعها ما تعلق منها بعقود المكايسة أو عقود المكارمة. وهذا الشمول الذي تميز به الفقه الإسلامي إنما يرجع مرده إلى خاصية من خصائص الشريعة الإسلامية تميزت بها عن سائر الأديان والعقائد نظرا لكونها المنهج الذي رسمه الله لعباده والدين الخاتم الذي ارتضاه لهم واختاره ليتعبد به العباد ويحرزون به على مرضاة ربهم في الدار الآخرة والسعادة في هذه الحياة الدنيا. وطبيعي أن تكون هذه الشريعة الخاتمة وهذا الدين الوارث يحتوي على كل ما فيه صلاح العباد وفلاحهم ناهيا عن كل ما يمكن أن ينجر لهم من انحراف وضرر وفساد حتى قيل (حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله) ويمكن أن نقول أيضا انه (حيثما وجد الشرع فهنالك المصلحة). ومن نافلة القول أن نذكر بأن الفقه الإسلامي هو غير الشريعة الإسلامية والشريعة الإسلامية هي مجموعة الأحكام العامة والأصول الرئيسية الواردة في كتاب الله المنقول إلينا بالتواتر لفظا ومعنى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي اشتملت عليها كتب السنة المعتمدة. وفي هذين الأصلين الثابتين من أصول الشريعة الإسلامية ما هو محكم لا يختلف في فهمه، وفيهما ما جاء متشابها قابلا لأكثر من معنى. وإذا كان القسم الأول من أقسام الشريعة محل اتفاق وإجماع من علماء المسلمين وكان موقعهم فيه موقع المتقبل المسلّم الباحث عن علل التشريع ومقاصد الشريعة وأهدافها وفق كليات عامة استخرجت من خلال استقراء عام وشامل لعموم مبادئ الدين الحنيف. فإن دور علماء المسلمين وفقهاء الشريعة بالخصوص كان اكبر في القسم الثاني من أقسام الأحكام الشرعية بحيث برزت جهودهم وظهرت أعمالهم جلية وتميزت منهجيات استنباطهم بناء على ما خوله لهم الشرع من إمكانية الاجتهاد والاستنباط والبحث عن الحلول للمشكلات التي تطرأ على الناس. والنصوص الشرعية ما كان منها محكمات لا اختلاف فيه وما كان متشابها لعديد الأفهام متناهية محدودة لا يمكن أن تحيط بمشاكل الناس وذلك هو المبرر العقلي والمنطقي لضرورة الاجتهاد والاستنباط حتى تتحقق مقولة (صلوحية الشريعة لكل زمان ومكان). وما سكوت الشرع عن عديد المسائل، وما دعوته الملحة إلى التعقل والتدبر والابصار والاعتبار إلا إشارات للسير في هذا المنهج. وليس غريبا أن يسلك عمليا سلف الأمة الصالح وعلماؤها طريق الاستنباط والاستخراج مثلهم مثل القاضي في القانون الوضعي الذي عليه أن يصدر الحكم حتى وان لم يجد النص الذي ينطبق على الحالة التي أمامه. غير أن علماء الشريعة وسلف الأمة الصالح وهم يقدمون رغبة في الأجر والجزاء من الله سبحانه وتعالى وتقربا إليه وضعوا لأنفسهم مجموعة من القواعد والأصول الثابتة والطرق التي يستدلون بها ويستنبطون منها حتى يجنبوا أنفسهم العثرات والسقطات وتكون بذلك أفهامهم واستنتاجاتهم واستنبطاتهم شديدة الاتصال بالشريعة منصوصا ومفهوما ومقصودا. ولقد أثمرت تلك النصوص الشرعية المعبر عنها بالشريعة وتلكم المرونة والعموم والشمول فيها عندما اقبل عليها العلماء الأعلام والفقهاء الكبار بعقلية التفتح والإقدام في غير ما تهافت وتنطع أثمرت عطاء فكريا كبيرا وثروة تشريعية تكاثرت على مر الأزمان وبرزت فيها كأجلى ما يكون البروز عبقرية الثقافة الإسلامية وعظمتها وثراؤها الذي شهدت به المجامع القانونية الدولية والشخصيات الحقوقية المنصفة والعالمة. وان هذه الثروة الفقهية أخذت في التزايد والتنامي يوما بعد يوم وبمجرد أن التحق صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى واكتمل الدين ظهرت مدارس فقهية ذات خصائص ومميزات كان الأثر الإنساني البشري باديا عليها وكان التأثر بالبيئة والعرف والعادة والمحيط جليا فيها وأمكن اليوم بواسطة دراسات جامعية وعلمية إبراز فقه الصحابة على الأقل الكبار منهم فظهر فقه أبي بكر وفقه عمر وفقه عثمان وفقه علي وفقه ابن مسعود وفقه ابن عمر وغيرهم. ونفس الصنيع يجري بالنسبة للتابعين إضافة إلى المدارس الفقهية كمدرسة المدينة ومدرسة مكة ومدرسة العراق ومدرسة الشام حيث استوطن بعض الصحابة فكان لكل مدرسة خصائص ومميزات ظهرت جليا في الاجتهادات والاستنباطات المتعددة. ومصادر الثقافة الإسلامية من كتب التفسير والسيرة والحديث وحتى التاريخ تحفظ لعدد كبير من العلماء أراء واجتهادات وملامح وان كانت غير متكاملة روح الريادة واثر الذاتية والشخصية واضح جلي فيها. لقد كان الفقه الإسلامي في هذا الدور من أدواره في طور النشأة والترعرع وان كان مفهوم النشأة هنا لا نقصد به الضعف والقصور وإنما نقصد به القلة والمحدودية التي اقتضتها عوامل عدة منها عدم وجود الضرورة الملحة للاستنباط والاجتهاد إذ لم تختلف بعد الظروف كثيرا ولم تتباين وتشتد حدة المحيط الخارجي بما فيه من أراء ومذاهب وعقائد وعلوم. ويكاد الفقه الإسلامي يكون قد اخذ مساره واستوى في منهجه عندما تلاحقت المذاهب الفقهية الأربعة مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة ومذهب الإمام مالك ومذهب الإمام الشافعي ومذهب الإمام احمد ابن حنبل. فالأئمة الأربعة ارسوا لمن جاء بعدهم أصول الفتيا والاجتهاد وقواعد الاستنباط باختلاف لا يصل إلى حد التعارض وظل دائما في إطار المقاصد العامة للشريعة الإسلامية. ولئن كان لكل إمام من هؤلاء الأئمة الأعلام الأربعة منهجه المتميز وطريقته الخاصة به في الاجتهاد فان الناظر إلى أصولهم التي اعتمدوها والقواعد التي استنبطوها لا يكاد يجد بينها اختلافا يذكر اللهم إلا اختلاف المصطلح وطريقة التعبير. ولئن حاول بعض الدارسين أن يجعلوا مدرسة للأثر وأخرى للرأى فان كلا من هذين المدرستين اخذ بالأثر حيث يجب الأخذ به واخذ بالرأى حيث يمكن الأخذ به وكان لكل حجته ودليله الذي استند عليه واعتمده في اختياره واجتهاده وكان دافع كل واحد التقرب إلى الله ونصح الأمة وإرشادها إلى ما يحقق مرضاة ربها. وما كان أي إمام من هؤلاء الأئمة وهو يؤسس قواعد مذهبه يبغي الخروج عن الجماعة وبث الاختلاف والافتراق بين المسلمين بل ما كان يريد إن يتعبد الناس الله برأيه. فلقد تمثل جميعهم رضي الله عنهم بقول من قال (إن أصبت فمن الله وان أخطأت فمني ومن الشيطان). ولقد اثر عن أكثر من واحد منهم القول (رأيي صواب قابل للخطأ ورأي غيري خطأ قابل للصواب) أو القول (إذا صح الحديث فهو مذهبي). ومن هؤلاء الأئمة من تتلمذ على الآخر ومنهم من سعى إلى لقاء الآخر ومنهم من اثر عليه من الثناء والشكر والاعتراف بعلم الآخر ما تزخر به الكتب. ولم تحفظ لنا مدونات الثقافة الإسلامية على اختلافها رأيا أو حكما يشتم منه الاستنقاص أو الاحتقار من أي إمام للإمام الآخر. وهم إن اختلفوا في الرأي والمذهب وطريقة الاستنباط فلاعتقاد كل واحد منهم بأي أي إنسان يؤخذ منه ويرد إلا صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام ولأجل ذلك حرص كل واحد منهم على أن يستفرغ جهده في الاستدلال والاستنباط فان أصاب فمن الله وان اخطأ فمن نفسه. ولقد كان كل واحد منهم رضي الله عنهم متمثلا كأجمل ما يكون التمثل للخلق الإسلامي الرضي والمعاملة الحسنة وما كان أي واحد منهم يضيق ذرعا بالرأي المخالف ولا ينزعج له بل يعتبره عامل إثراء فان استساغه واقتنع به لم يسعه إلا أن يتبعه ويترك ما كان يراه ويذهب إليه ويعتقد انه الصواب فلا تأخذ أي واحد منهم العزة بالإثم ولا يحمل في قلبه مقدار ذرة من حقد أو كراهية أو حسد وعجب لقد كان الخلق الكريم والتقوى الصادقة والإخلاص لله وللرسول وللأمة رائدهم في كل أمر ونهي وإقدام وإحجام وإتيان وامتناع سواء كان ذلك أمام الناس أو في خلواتهم وهم بذلك يسيرون في المنهج القويم الذي يرضى الله ورسوله ويعلي الشأن وينشر بين الناس حسن الذكر. وإذا ما خلفهم من بعدهم أتباع وتلاميذ لم يسيروا في نفس المنهج ولم يكن لهم علم هؤلاء الأعلام ولا تقواهم وإخلاصهم وإنما استبدلوا كل ذلك بتعصب أعمى وتقليد مقيت وتحجر لا ضرورة تدعو إليه فالمسؤولية يتحملها هؤلاء الإتباع والتلاميذ الذين تنكروا لمنهج شيوخهم في سعة الصدر وبعد النظر ومراقبة الله والإخلاص والتجرد والرغبة الملحة في جمع كلمة الأمة وتوحيد صفوفها والتيسير عليها في غير ما تحيل ولا تحلل. وبعد ما عرف الفقه على أيدي الأئمة الأربعة الأعلام أوج قوته وازدهاره وقدم أروع عطاءاته الفكرية والعلمية والعملية في إطار الشريعة الإسلامية فعاش المسلمون فترة من أخصب الفترات وحقبة من اشد حقبات التاريخ الإسلامي تمدنا وتحضرا وتسامحا وتفاعلا مع الواقع وتساميا مع ما في الشريعة الإسلامية من قدرات خلاقة وطاقات مبدعة. بعد هذه الفترة الذهبية المشرقة والروح العلمية والاجتهادية خلف من بعد هؤلاء الأئمة خلف لم يكونوا في مستوى الأمانة التي ورثوها والرسالة التي حملوها اللهم إلا بالنسبة للقليل منهم. فإذا بالاختلافات المحمودة تنقلب إلى خلافات مذمومة وإذا بعوامل الإثراء والتيسير تنقلت إلى طرق تحيل وتحلل وتمحل وانعكس كل ذلك على الأمة بكل فئاتها وفي مختلف أمصارها وفي مدة وجيزة من الزمن أصبح الشافعي يفسق الحنفي والحنبلي يكفر المالكي فاستحلت الحرمات وانتهكت الأعراض وانتشرت الانقسامات ولم يعد كل طرف يرعى حقوق الطرف الآخر عليه واستبدلت رابطة الدين والعقيدة برابطة المذهب وصاحب المذهب بها يتعامل ويتعاقد بيعا وشراء ورهنا وكراء وزواجا. ووصل الأمر بهم إلى درجة كراهية بل إبطال الصلاة خلف المخالف في المذهب فصار يدخل كل جماعة إلى المسجد فيصلي بهم أمام من مذهبهم. وطبيعي أن ينحسر مد الفقه الذي انطلق على أيدي الأئمة الأعلام وعوض أن يواكب حياة الناس في إطار من الشرع الحنيف انغلق على نفسه وانطلق الفقهاء في هجمات مسعورة على كل مخالف لهم في الرأي والمذهب يصبون عليه جام العذاب ويخرجونه من عداد المسلمين ملقين باللعنات وشتى الاتهامات على صاحب كل رأي مخالف. وما كان مطلب هؤلاء ولا رغبتهم مرضاة الله ولا النصح للمسلمين ولا التفكر والتدبر في أوضاعهم بقدر ما كان إرضاء الأهواء والشهوات والتبرير لذوي النزوات طمعا في ما بين أيديهم. وانساق وراءهم العوام انسياق العميان بدون وعي ولا رشاد متمسكين بالقشور والأشكال معرضين عن الجواهر والأصول ودبت الفتن بين صفوف المسلمين وأصبح -وبفتاوي ملفقة وأراء ضحلة لا تمت إلى الدين بصلة- المسلمون فرقا ومذاهب وطبيعي أن تجد أراء ومذاهب وعقائد أعدائهم الفرصة مواتية فتحاول أن تدك الحصون وتنفذ إلى القلوب فتعبث بعقيدتها السمحاء ويصبح الإسلام اسما بدون مسمى فارغا من محتواه ويصبح المجتمع الإسلامي ساحة فسيحة للدجل والأهواء.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.