ميدان العمل (2)

ميدان العمل (2)


لماذا هذا الفرق؟

في النصف الأول من القرن التاسع عشر بدأ الإنجليز بفرض سيطرتهم السياسية على الهند، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بدأت الحركات التبشيرية الهدامة تتغلغل في أوساط الهند، وكان القصد من ورائها فرض المسيحية على المسلمين. وقد نهض علماؤنا لمواجهة كل من الغزو الإنجليزي والحركات التبشيرية، وقدموا في سبيل ذلك تضحيات جمة، إلا أن  نتيجة  الأمرين كانت مختلفة تماما. فالتضحيات الجمة التي بذلت على الساحة السياسية قد منيت بالفشل الذريع، بينما نجحت نجاحا باهرا تلك المحاولات القليلة نسبيا والتي بذلت من أجل صد المد التبشري المسيحي والشيخ ( رحمة الله كيرانوي (233 1- 308 هـ) يعد رمزا لهذا الفارق بين الساحتين- فحين وفد إلى الهند المبشر الأوربي فندر  Funder))الذي  بذل قصارى جهده من أجل القيام بأعمال التبشير في أوساط المسلمين كان من بين الذين نهضوا للوقوف في وجه هذا النوع من المد المسيحي لامع هو الشيخ رحمة الله كيرانوي، حيث ألف كتابه (إظهار الحق) ومؤلفات أخرى، كما قام بمناظرة مع فندر في جلسة عقدت في أكره (10- 11- 1854 م) وقد مني هذا الأسقف الأوربي بهزيمة منكرة مما اضطره إلى التراجع والفرار إلى القسطنطينية والبقاء فيها.

والآن دعنا نرى الوجه الآخر للصورة. وذلك حين خاض علماء الدين حربا مسلحة ضد الإنجليز، وكان الشيخ رحمة الله  كيرانوى قد شارك فيها أيضا، في الوقت الذي لم يكن في حوزة علمائنا سوى أسلحة تقليدية بينما كان الجيش الإنجليزي مزودا بأحدث أنواع الأسلحة المدمرة. وفي هذا اللقاء منى علماؤنا بهزيمة منكرة رغم كل ما بذلوه من تضحيات، وقام الإنجليز بحملة اعتقال واسعة للعلماء، وزج بهم في السجون وأعدم كثيرا منهم شنقا. وفي هذا الوضع المتردي والمتأزم قرر الشيخ رحمة الله مغادرة الهند والاستقرار في مكة، وما لبث أن نفذ خطته واتجه إلى مكة سيرا على الأقدام قاطعا الغابات المروعة والطرق المخيفة المحفوفة بالأخطار، وبعد معاناته للمصاعب والمشاق وصل إلى مكة واستقر بها وقضى بقية حياته فيها.

   والفرق في ذلك يعود إلى الاختلاف في ساحة المواجهة. فالمواجهة في أكره تمت في الساحة النظرية أو الفكرية ولا ريب أن الإسلام في كل مواجهة فكرية أو نظرية يحرز قسب السبق بشكل مدهش، لذا فقد مني الطرف الثاني بالفشل الذريع. وفي المقابل، فإن المواجهة التي تمت في موقعة شاملي كانت في ساحة الحرب والمعدات الحربية، وقد أخفق علماؤنا أمام الطرف الثاني، لأنهم كانوا يملكون أسلحة تقليدية عقيمة بينما يملك الإنجليز أحدث أنواع الأسلحة. وهذا السبب الذي جعل العلماء يخفقون في هذه الساحة.

   أحب أن أقول لك، إنك إذا محصت الأمر لأدركت أننا نريد تغيير ساحة المواجهة، نريد أن ننقل الفريق المعارض إلى تلك الساحة المواتية لنا حتى يحالفنا النجاح والفوز ويحالفهم الإخفاق والفشل. والفرق بيننا وبين الآخرين هو أننا نريد أن نحرك المسلمين في ساحة يضطر فيها العدو إلى الفرار والهزيمة، بينما يريد الآخرون أخذ المسلمين إلى ساحة يضطرونهم فيها إلى الفرار والهزيمة.

إن الحادثتين اللتين وقعتا للشيخ رحمة الله كيرانوى ستظلان معنا كرمزلهذا الفرق في تصوير تاريخنا الحديث كله. وهذا ما تكرر في العصر الحديث ويتكرر اليوم في عصرنا الحاضر حيث يخوض المسلمين المواجهة في ساحة مواتية للعدو وفي كل مرة لا ينالون إلا الفشل الذريع والهزائم المنكرة.



الكلمات الشائعة

 

المفكر محمد وحيد الدين خان

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.