ملامح من حياة وجهاد العلامة محمد أبو زهرة رحمه الله (1898-1974)
انه ليعسر علي أن اكتب راثيا لفقيد الأمة الإسلامية والمعاهد العلمية فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة العالم الجليل والداعية الشجاع والكاتب الكبير. ومن أين لي أن أقوم بهذا العمل العسير على أمثالي ممن زادهم في العلم قليل ومنهجهم في البحث لا يزال ضئيلا. ولكن هو واجب التلميذ تجاه أستاذه وواجب من عرف جهاد الشيخ ومواقفه البطولية، هذا الواجب يدعوني إلى أن اكتب لقرائنا الكرام هذه الكلمة الحزينة على شيخ جليل فقدنا بوفاته علما لا يضاهى وبحرا لا يدرك له سطح بلغ درجة الإمامة بل قل الاجتهاد في هذا العصر الذي قضت فيه القوالب والمظاهر والشكليات على الهمة العلمية فأصبح اللقب والمنصب والشهادات عناوين السبق. إن الأمة الإسلامية والمجامع العلمية بفقدانها لمحمد أبو زهرة فقدت ركنا من أركانها وحجة ينتهى عندها كل نقاش وإنها لرزية تلحق بالمسلمين في كل مكان داقة أجراسها بخطر يداهم امة الإسلام بقبض هؤلاء العلماء الأخيار والفحول الكبار. وان أخشى ما نخشاه أن يكون أظلنا عهد يرفع فيه العلم فيفتى المفتون بغير علم وعن جهل فيضلون ويضلون، لا ولن ينسى الأزهر ابنه البار أبا زهرة فلقد كان يصول ويجول بين أركانه وفي مؤتمراته أثناء اجتماع علماء المسلمين كل سنة بمجمع البحوث الإسلامية. وكان محمد أبو زهرة قطب رحاه ومن دراساته الفقهية الجادة في مواضيع يهابها كل من زاده في العلم قليل وكثير ما هم. * كم تنقل بين عواصم العالم العربي والإسلامي محاضرا مرشدا وناصحا على منابر معاهده وكلياته وبدعوة من جمعياته وتجمعاته فكان يحاضر في الكويت والقاهرة والجزائر والرباط عن الفقه والتشريع الإسلامي والأحكام والمذاهب الإسلامية برجالها وأيمتها وهو في كل ما يقول وما يكتب ينتصر لشريعة السماء مبينا سبق وسمو أحكامها على كل تشريع يسنه البشر مهما كانت عبقرياتهم. * وهو إذا آمن برأي تحمس في الإصداع به لا يخشى في الله لومة لائم وبذلك نال إعجاب وتقدير وإكبار كل من قرؤوا له وسمعوا عنه. * ولقد حرص مشكورا على إخراج كتب ضخمة ومجلدات كبيرة سوف تبقى ذخيرة في مكتبة الدراسات الإسلامية العلمية يعود إليها طلاب العلم والمعرفة وأهل الاختصاص. فهي بحق ذخائر ومراجع تسد فراغا شعر به المهتمون بهذه الدراسات ولم يتجرا أحد على ولوج هذا الباب: باب التاريخ للمذاهب الفقهية وأيمتها والمدارس التي نشأت في جهات مختلفة من العالم الإسلامي وعلى حقب من الزمن متفرقة. * كتب عن مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل وابن حزم وجعفر الصادق وابن تيمية وغير هؤلاء من أعلام أمتنا الإسلامية واستطاع رحمه الله أن يبحث يدأب كبير في بطون والكبت والمخطوطات ليخرج هذه الأسفار الخالدة وكفانا مؤونة البحث، وهو بهذا الصنيع يقضي على خصلة لازمت الكثير من رجال البحث عندنا وتتمثل في عدم الصبر والدأب في إخراج المصنفات الأكاديمية حتى صار طلبتنا يفضلون قراءة تراثنا وتاريخنا ومدارسنا الإعتقادية والفقهية لرجال الإستشراق وهم الذين لا يخلو لهم عمل من تشويه ودس وتزييف. * ولم يكتف أبو زهرة رحمه الله بهذا الجهد الكبير والذي تنوء به العصبة أولى القوة، بل استمر طيلة عمره المديد الخصيب يكتب ويكتب بصبر واحتساب: كتب عن المجتمع الإنساني في ظل الإسلام وكتب عن الفرق والمذاهب الإسلامية، وعن أحكام الميراث والأحوال الشخصية وعن العقوبة والجريمة في الفقه الإسلامي وغير ذلك من الدراسات العميقة وكان رحمه الله يكتب مفسرا للقرآن والحديث في مجلات إسلامية عدة ودوريات علمية مختلفة. وذلك ما يوجب على المقربين والمتصلين بالشيخ أبي زهرة أن يجمعوه ويخرجوه في مصنفات للعالم الإسلامي. وما كانت هذه الدراسات العلمية والبحوث الفقهية السابقة لتبعده عن الاهتمام بوضع أمته الإسلامية وما يخطط لها من مؤامرات: فكان في أحلك الظروف النجم المشع والعلم الشامخ الذي لا ينحني أمام إعصار ولا يطأطئ رأسه للزوابع المنذرة المزمجرة المهددة فهو بهذا الاعتبار (ابن حنبل زمانه) تتضاءل أمامه العمائم وتتقاصر الهمم وتنثني يد الطغيان مشلولة تجاه هيبته الجبارة وعظمته العملاقة وإخلاصه لله وانتصاره به، وقل أن يسلم علماء عصر أو مصر من امتحانات قاسية لا يثبت فيها إلا أمثال أبي زهرة ممن يكتب لهم الخلود فيجعلهم شباب الإسلام نماذج تحتذى وأمثلة عليا تطمح النفوس الكبيرة التواقة إلى الاقتداء بها والوصول إلى ما وصلت إليه وقليل هم الواصلون. فسلام على أبي زهرة العالم الشهم الذي تفوق هيبته وسطوته هيبة الملوك والسلاطين، سلام عليه مجاهدا وسلام عليه صامدا وسلام عليه خالدا فإلى جنة الرضوان والى الصفوة المختارة من هذه الأمة التي تنتظر روحك الزكية لتحلها المحل اللائق بها في جنان الخلد مع النبيئين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
