مع بدر في دروسها وعبرها من خلال بعض احداثها

مع بدر في دروسها وعبرها من خلال بعض احداثها


شهد النصف الثاني من شهر رمضان المعظم وفي السنة الثانية للهجرة النبوية حدثا عظيما ومعركة خالدة قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم الا وهي غزوة بدر الكبرى التي يقف عندها الخطباء والمحاضرون ليستعرضوا ما فيها من احداث وعبر ودروس وهي عديدة يمكن ان نقف عند البعض منها تاركين امر ايراد تفاصيلها وجزئياتها الى همة القارئ وجهده المتضاعف في هذه الايام في التعرف على مسيرة دينه الحنيف من يوم ان بعث به سيد الكائنات محمد بن عبد الله صلى اهه عليه وسلم نبيا ورسولا للناس اجمعين والى ان اكمل للامة دينها واتم الله على يديه نعمته التي انعم بها عليه. فقد سبق ان تناولنا بالتفصيل والتدقيق مختلف مراحل غزوة بدر الكبرى واسبابها الفعلية والموضوعية وما اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاعداد والاستعداد الحربي العسكري لخوض معركة ما كان عازما على خوضها في البداية لكنها فرضت عليه فرضا فما كان منه عليه الصلاة والسلام الا ان خاضها مقبلا غير مدبر، وما كان من اصحابه من مهاجرين وانصار الا ان اجتمعت كلمتهم وثبتوا في ملاقاة عدوهم الذي اورده بطره وعجبه وخيلاؤه وزهوه الى حتفه اذ باء بهزيمة نكراء جعلت العار يلحق به فيجعله منكسر الراس مكسوف النفس لا ترتفع له هامة ولا تبقى له مهابة بين عرب الجزيرة الذين ظلوا الى غزوة بدر في اغلبهم حلفاء تاريخيين لقريش ام القبائل العربية • الاسلام لا يبيح الاغارة والغدر ولا بد من اغتنام ذكرى معركة بدر التي اندلعت في مثل هذا الشهر المبارك لتصحيح المفاهيم الخاطئة ودفع الشبهات الواهية من ذلك: *ان المسلمين يبيح لهم دينهم ويقرهم رسولهم عليه الصلاة والسلام على الاغارة والاعتراض للقوافل المحملة بالتجارات والسطو عليها !! ويقدم اصحاب هذا الاتهام وانصار هذه الشبهة للتدليل على ما يقولون وما يذهبون اليه كنموذج لذلك غزوة بدر في تعميم مقصود والحال ان اسباب بدر معروفة ومقدماتها لا يمكن تجاهلها واغفالها فهي المفتاح للفهم الصحيح والسليم لأسباب هذه المعركة ولكل معركة من معارك الاسلام اسبابها التي لا بد من وضعها في الاعتبار وعدم تجاوزها ففي البداية لم يكن خروج عدد في حدود الثلاثمائة من المهاجرين والانصار من اجل القتال والغزو انما خرجوا عندما سمعوا ان قافلة لقريش محملة بتجاراتها ويقودها ابو سفيان هي بمحاذاة المدينة في طريق عودتها من الشام الى مكة المكرمة (والمدينة جغرافيا تقع بين الشام ومكة المكرمة) ونظرا لان قريش هي التي بدات بالظلم والعدوان وهي التي اخرجت اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة التي فيها اهلهم وديارهم واموالهم دون ان تمكن اي واحد منهم من حقوقه مستبيحة كل ما يعود اليهم ظلما وعدوانا وتسلطا وجبروتا في محاولة يائسة ولكنها مصرة على قهرهم وكبتهم وفتنتهم حتى يرتدوا عن دينهم او يهلكوا ولم تراقب قريش في اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موثقا ولا عهدا فكانت المبادرة بالعدوان وفي كل الاعراف والمواثيق وفي كل القيم الاخلاقية والانسانية لا يمنع اصحاب الحقوق من سلوك كل السبل التي تمكنهم من استرداد حقوقهم ويتميز دين الاسلام وهديه ان استرداد الحقوق لا يمكن ان تتجاوز وسائله الاهداف المسطرة والمحددة ولا يمكن ان يتنكر المسلم في اية مرحلة من مراحل استرداد الحق والدفاع عن النفس لقيم دينه وهديه في عدم الظلم والقهر والعدوان فالمسلم سمح دائما رفيق دائما، رحيم دائما، بذلك يأمره دينه مهما كان عدوان الطرف المقابل له فالمسلم يكتفي بصد العدوان وايقاف الشر واسترداد الحق بذلك امر الاسلام المسلمين وبهذا اوصى خلفاء المسلمين قادة جندهم الخارجين للفتح فلا احد يمكن ان يلوم المسلمين والمهاجرين منهم بالخصوص على ان يستردوا بعض حقوقهم التي اغتصبتها منهم قريش فذلك هو سبب الخروج الاصلي لكن اصرار قريش على ملاقاة المسلمين وخوض معركة ضدهم رغم ما توصل اليه قائد قافلتهم ابو سفيان من انقاذ لقافلتهم وارساله اليهم من يدعوهم الى ترك الخروج لملاقاة المسلمين بعد ان استنجد بهم قبل ذلك فان قريش اصرت على خوض هذه المعركة هنالك قرر المسلمون: مهاجرين وانصار ملاقاتهم، وما كان للمسلمين ان يولوا الادبار وهم الذين يعتقدون انهم اصحاب حق وانهم لن يعدموا احدى الحسنيين: اما النصر او الشهادة فسبب خوض هذه المعركة من طرف المسلمين موضوعي ولا يمكن ان يلومهم عليه باحث منصف • في بدر وقع التشاور على الصغيرة والكبيرة كما ان هذه المعركة وقع خوضها بعد ان تم التشاور فيها بين كل اطرافها فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم اصحابه مهاجرين وانصارا وطلب منهم الاشارة عليه وكان عليه الصلاة والسلام يقصد الانصار اكثر من المهاجرين باعتبار ان الانصار انما بايعوه في العقبة على ان ينصروه ويحموه مما يحمون منه انفسهم واهلهم واموالهم ان هو هاجر الى المدينة اما ان يقاتلوا خارج المدينة فهذا لم يرد في نص البيعة ولهذا وجبت الاستشارة وامر المسلمين كله شورى بنص الآية القرآنية (وامرهم شورى بينهم) ولا يوجد من هو فوق الشورى او يجوز له الاستبداد برايه وهذا ما عناه قول الله تبارك وتعالى (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر) فبعد ان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين ما هو متوقع وهم من اختاروا الله ورسوله وضحوا بالغالي والنفيس في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشيروا علي ايها الناس اعاد ذلك مرات فعلم الانصار انه يعنيهم فقام خطيبهم فقال ما اثلج صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم واقر عينه وجعله يطمئن الى مضاء عزم اصحابه مهاجرين وانصارا فقد قالوا على لسان رجل واحد “والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك” لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى : اذهب انت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون ولكن نقول لك: اذهب انت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون..." • النصر متوقف على الاعدادين المادي والروحي هنالك بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جانبا آخر من جوانب الاستعداد لخوض المعركة يبين مدى اخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاسباب الممكنة والداخلة في اطار الطاقة البشرية عملا بقوله جل من قائل (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ورباط الخيل) ويمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في تجسيم هدي الاسلام في حيز الواقع العملي وهو هدي يلتقي مع ما ينتهي اليه العقل السليم والتفكير القويم وما يتعارف عليه الناس ويكتسبونه بالتجربة ولا يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ادنى حرج وهو يتنازل عن رايه الى راي احد اصحابه الذي ساله بادب عن الموضع الذي اختاره للنزول بالجيش اهو عن وحي ام هو الراي والحيلة ولما يعلم الصحابي انه مجرد راي يشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالانتقال الى مكان قريب من الماء فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم الا ان تنازل عن رايه الى راي صاحبه وفي ذلك درس وعبرة في التواضع وملازمة التشاور في الصغيرة والكبيرة وفي كل امر من الامور اللهم الا ما نزل فيه وحي صريح محكم ولان الحرب خدعة فان رسول الله صلى الله عليه وسلم تكتم واسر وازال الاجراس من اعناق الابل والخيل حتى يكون عدد جيش المسلمين وعدتهم مجهولا غير معلوم من طرف اعدائهم في حين تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من معرفة عدد من خرجوا في جيش قريش ومن هم وذلك باستطلاع احوالهم واخبارهم، وكانت استعلامات المسلمين من الدقة والصحة والمصداقية متطابقة مع الواقع وفي حين كان امر المسلمين في هذه المعركة بهذه الدقة وذلك التلاحم استعدادا لملاقاة اعدائهم فان قريشا كانت على عكس ذلك تماما فقد دب الى صفوفها الخلاف بانسحاب بعض حلفائهم الذين رأوا في نجاة القافلة مبررا للتراجع عن ملاقاة المسلمين كما ان الخيلاء والعجب والرياء والتظاهر هو الدافع لاعداء المسلمين لخوض هذه المعركة فقد ارادت قريش ان تسمع بها العرب فلا بد من الوصول الى بدر ونصب الخيام ونحر الذبائح وضرب الدفوف وشرب الخمور لتظل قريش مهابة في اعين العرب بعد هذه المعركة !! • تلاحم المسلمين واستعدادهم المعنوي والمادي وكانت صفوف المسلمين في تلاحم وتراص للصفوف واستعداد معنوي ونفسي عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على اذكائه في انفس اصحابه الذين اصبحوا احرص على الموت من الحياة فقد بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم انه ليس بينهم وبين الجنة الا شق تمرة وبالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والح في الدعاء والضراعة والطلب من الله ان يمده بجند من عنده وان ينصره نصرا مؤزرا وان يثبت اقدام اصحابه هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، هؤلاء الذين اذا هلكوا فلن يعبد الله فوق الارض ابدا وصدق الله وعده وما هي الا جولة او بعض جولة التقى فيها الجمعان بفارق في العدد والعدة: كثرة من قريش وقلة من المؤمنين ولكن النصر كان حليفا للمسلمين وكان مصير قريش الهزيمة والفشل والخيبة والخسران في الدارين وصدق الله العظيم (ولقد نصركم الله ببدر وانتم اذلة) ولم يخرج هذا النصر المؤزر المسلمين عما جبلوا عليه من خلق رضي ومعاملة انسانية راقية دفعتهم الى قبول الفدية واطلاق سراح من يعلم المسلمين القراءة والكتابة وكانت هذه المعركة التي خاضها المسلمون في شهر رمضان المعظم في السنة الثانية للهجرة حدثا حاسما لم يعرفوا بعده الا العز والتميكن • رمضان شهر الصبر والنصر وما يمكن ان ننهي به هذه الوقفة العاجلة مع بدر الكبرى هو الاشارة التي لا بد منها حول هذا الشهر المبارك، شهر رمضان المعظم شهر الصيام والصبر. فلا يقبل من المسلم ان يحمل الصيام تكاسله وتواكله وتثاؤبه وضعف انتاجيته وعطائه في مختلف المجالات العملية والعلمية فرمضان مثلما كان شهر الجهاد والنصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم ينبغي ان يكون شهر مضاعفة المجهود الروحي والجسمي فلهذا الشهر انواره وبركاته وسكينته وفي هذا الشهر تغشى مجالس الصائمين ومختلف مواقع وجودهم ملائكة تغمرهم بالطمأنينة والسكينة والقوة الروحية التي تحررهم من عبودية انفسهم واهوائهم التي يتحكمون فيها بالامتناع من طلوع الفجر الى غروب الشمس طيلة ايام الشهر عن الاكل والشرب وكل الشهوات ومن يستطيع ذلك ويصبر على ذلك ويخلص في ذلك لا اخاله الا محققا كل ما يامله ويتوق اليه من خير عاجل وآجل.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.