ليس من رأى كمن سمع


        إن أعظم نوع من أنواع الواقعية هو ذلك النوع الذي يسمو بصاحبة إلى درجة تجعله يقدر ظروف الناس ويحس بآلامهم ويشاركهم في المشاعر التي تعتمل داخل صدورهم.

        ولست أعني بالإحساس مجرد الشعور العاطفي الذي قد لا يحرم منه حتى الحيوان، الذي أعنيه هو ذلك الشعور الجياش والإحساس القوي الذي ينقلب إلى تأثر يضاهي تأثر الملتاع ثم يدفع صاحبه بشعور أو بلا شعور إلى المشاركة الفعلية والانصهار العملي مع ذلك الأخ أو الإخوة الذين هم في أمس الحاجة إلى من يداوي كلومهم ويغيث لهفتهم، وهذه هي الإنسانية التي تعمل جميع المبادئ الأخلاقية والشرائع السماوية على إبرازها في وجهها المشرق وصورتها الحقيقية، وهي أخص خصائص التكريم الإلهي لبني الإنسان إذ بدونها تتحجر العواطف وتتبلد المشاعر وتصبح الحياة جحيما لا يطاق إذ يستوي النائح والمولول والمتجهم والمتهلل وتنحصر سعادة الشخص في عالمه الصغير الذي يلامس كيانه، ولا يتجاوز محيطه، وأنها لسعادة شوهاء، بتراء يهددها الارتكاس والانتكاس في كل لحظة وعندئذ تتكشف الحقائق لمن أعشت عيونه بهرجة السعادة الكذوب. أين هذا من تلك الحساسية التي تجعل صاحبها يستشف غده من يوم الناس فيشيع الإحسان لمن هو في حاجة إليه شعورا بنعمة المحسن الأول الذي قال (أحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض) واستجابة تلقائية لعوامل الحنان والرحمة وكراهية طبيعية لصور البؤس والالم والالتياع، وأن هذه الاستجابة وتلك الكراهية لتبدوان في أول أمرهما كتلك الاشياء الجبلية الفطرية التي لا تؤثر فيها التربية ولا يلصقها بالناس طول المران، وإذا ما دققنا الحساب تبين لنا أن للتربية والاحتكاك أثرهما الملحوظ في التكييف والتكيف والتأثير والتأثر، إنما فقط مقياس الأشياء كلها كمقياس الحفظ والذكاء، فمن الناس من يحفظ من سماع ويفهم بإشارة ومنهم من يحتاج إلى خمسين إعادة ليحفظ وإلى العبارة والمثال والتشخيص ليفهم، ولنأخذ لنا أمثلة من واقع حياة الناس فنستبين منها أن الاحتكاك بالحياة وأحداثها أفضل مرب ومحنك نستفيد منه أكثر مما نستفيده من كتاب نقرأه أو نصيحة عابرة تمر بأذاننا مرة أو مرتين، فلو أن أحدنا أعلمته زوجته أن جارته فلانة الأرملة الفقيرة ذات الأولاد الصغار تقاسي وضعا اقتصاديا قاسيا للغاية، وأنها تبيت مع أطفالها على الطوى وهي في حاجة إلى إعانة منا تخفف آلامها وآلام بنيها فقد يكون جوابنا لأهلنا أعطوها نصف دينار والله لنا ولها.

          (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) وننقل الحديث إلى موضوع آخر، أما اذا كانت طريقة الاطلاع هي المشاهدة والمشاهدة المتكررة، فإن تلك الوجوه الذابلة والاسمال البالية والدموع المنهمرة كلها ستترك أثرا عظيما في أنفسنا يقلب الإعانة من نصف دينار إلى اهتمام جدي يجعلنا نفكر في حل جذري لمعضلة جارتنا وبنيها، وإليكم صورة أخرى قد تكون أشمل: يسمع جميعنا الكثير عن التضامن الاجتماعي وعن مشاريعه وأعماله الجليلة، ولكن القليل منا فقط هو الذي شاهد بعينيه ولمس بحواسه تلك المشاريع والأعمال فلو أن أحدنا جلس يوما من الأيام خصوصا في مفتتح السنة الدراسية بجانب أحد المسيرين للجنة من لجان التضامن لسنحت له الفرصة بمشاهدة مئات الأيتام والفقراء يأتون إلى مركز اللجنة منهم من يطلب الكفالة ومنهم المحتاج إلى المواد الدراسية ومنهم الذي لا يملك لباسا يواجه به الوضع ومنهم الذي لا يملك من الدنيا كلها إلا ذاته وأمله وأن الدهشة والمسرة لتتملكان كل من يشاهد تلك الاستجابة الكاملة لجميع الذين يدلون بما يثبت عوزهم فإذا بهم ينقلبون في لحظة من أيتام مشردين إلى أبناء مكفولين ومن أشقياء معذبين إلى سعداء يضحكون للحياة أن من يشاهد هذا لا بد أن يكون عكس ذلك الذي يسمع فقط فإن منظمة التضامن الاجتماعي تتلقى الإعانات وتطلبها وهي تقول إنها تنفقها على أهلها: إن التعمق في الأشياء والتدبر في حقائقها هو الذي يفيدنا في حياتنا إذ به نتأثر وبه ننتفع وننفع وبدونه نكون سطحيين هامشيين نمر بكل شيء ولا ننتفع بشيء ولقد صدق الله تعالى إذ قال لنا (إنما يتذكر أولو الألباب).



الكلمات الشائعة محمد أحسن الله حسنة عمل

 

الشيخ الحبيب المستاوي

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.