في رياض السنة:المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين نموذج للبناء الاجتماعي القويم

في رياض السنة:المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين نموذج للبناء الاجتماعي القويم


عن انس رضي الله عنه قال: قدم علينا عبد الرحمان بن عوف وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع وكان كثير المال قال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا. سأقسم مالي بيني وبينك شطرين ولي امرأتان فانظر أيهما أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجها فقال عبد الرحمان: بارك الله لك في أهلك ومالك وأين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع. (أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار). هذا الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب مناقب الأنصار رضي الله عنهم وهم أهل المدينة الذين استقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين رضي الله عنهم أحسن استقبال فقد آووهم ونصروهم وآثروهم على أنفسهم. والأنصار الذين هم الأوس والخزرج هم أهل المدينة (يثرب سابقا) بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال في مكة المكرمة قبل الهجرة يدعو إلى ما أرسله به للناس كافة دين الإسلام الحنيف وكانت البيعة الأولى ويعدها البيعة الثانية وهكذا تكاثر عدد المهتدين إلى الإسلام في المدينة المنورة الأمر الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل لهم من يعلمهم دينهم وتعزز الأنصار بإخوانهم المهاجرين الذين التحقوا بالمدينة فرارا بدينهم بعد الأذى الذي سلطته عليهم قريش، وبقي في مكة المكرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر إذن ربه وقد استبقى معه كلا من أبي بكر الصديق فكان كلما استأذن قال له صلى الله عليه وسلم (تمهل يا أبا بكر لعل الله يتخذ لك رفيقا) وفعلا كان هذا الرفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بقي في مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي نام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤدي الأمانات إلى أصحابها (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها). وعندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه استقبلا أروع استقبال بدأت مرحلة جديدة من تاريخ الدعوة الإسلامية. وقد بارد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد نزوله بالمدينة إلى بناء المسجد حيث تركت ناقته القصواء المأمورة وكان بناء المسجد ملحمة شارك فيها الجميع المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم الكل يقدم ما في مستطاعه وكان النبي صلى الله عليه وسلام يبني بنفسه وكان يردد “اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرين” وكان المسجد هو المركز والمحور في حياة هذا المجتمع الجديد ففي المسجد تؤدى الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام وهي عماد الدين وهي التي تنهي عن الفحشاء والمنكر وهي التي يصل القائم بها إلى مرتبة القرب من ربه (فاسجد واقترب) فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) يجتمع المسلمون في المسجد خمس مرات في اليوم والليلة ومرة في الأسبوع كل يوم جمعة (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) ويجتمع المسلمون في المسجد لطلب العلم وللتشاور في كل شؤونهم في أجواء من الصفاء والتقوى والرغبة الصادقة في تحقيق مرضاة الله. وبعد بناء المسجد بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أخوة في الله ولله أخوة صادقة خالصة هي الأخوة الحقيقية قال جل من قائل (إنما المؤمنون إخوة) وهي أخوة يباركها الله وترعاها عين عنايته فقد وعد الله المتآخين في الله بالأجر الكبير فقد ورد في الحديث القدسي (وجبت محبتي للمتحابين فيّ) وهي أخوة تفرض على المؤمن أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (لا يكون أحدكم مؤمنا حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه). وهذه الأخوة لا تساويها في درجتها الرفيعة أية أخوة أخرى، إنها أخوة لا يمكن إن تقوم مقامها أية أخوة أخرى، أخوة الإيمان هي حجر الزاوية في بنيان المجتمع الإسلامي، أخوة تتجاوز كل الفروق من عرق ولغة وفئة، أخوة التقوى التي هي سبب التكريم والتفضيل (إن أكرمكم عند الله اتقاكم) (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى وجوهكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). وهذا الحديث تصور كرما وسخاء واستعدادا للبذل والعطاء ابتغاء لمرضاة الله وكان ذلك من الأنصار أهل المدينة وكان موقف المهاجرين موقف العفة وعزة النفس ورفض الدونية والعالة وأن تكون أيديهم هي السفلى آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمان بن عوف (مهاجر) وبين سعد بن الربيع (أنصاري) وكان سعد من أثرياء المدينة وأغنيائها وكان كريما جوادا سخيا والمؤمن الحق لا يكون إلا كريما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الكريم قريب من الناس قريب من الله قريب من الجنة). قال سعد بن الربيع قد علمت الأنصار إني من أكثرها مالا وتوجه إلى أخيه عبد الرحمان بن عوف (سأقسم مالي بيني وبينك شطرين) كان ذلك عن طواعية وطيب خاطر وكان ذلك خالصا لوجه الله لا يريد من وراء ذلك جزاء ولا شكورا ولكن امتثالا لأمر الله ورسوله تجسيما لمعاني الأخوة الصادقة التي تقتضي من صاحبها البذل والعطاء بسخاء. فسعد بن الربيع عبر عن استعداده للتنازل عن نصف ماله لفائدة أخيه عبد الرحمان بن عوف وهذا موقف يستدعي من صاحبه قوة وعزيمة فالمال قطعة من الكبد ولا يقدّم على بذله والتنازل عنه لفائدة غيره إلا مصدق لما وعد الله به عباده الذين ينفقون أموالهم سرا وعلانية من الإخلاف وأضاف سعد بن الربيع موجها حديثه لأخيه عبد الرحمان بن عوف (لي امرأتان فانظر أيهما أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجها) وهذا موقف آخر فيه السخاء وفيه الكرم وهو عرض مبني على الشريعة قال (فأطلقها حتى إذا حلت تزوجها). كان رد فعل عبد الرحمان بن عوف في غاية الأنفة والعزة والشهامة والرفعة لقد شكر لأخيه ابن الربيع كرمه وسخاءه واستعداده لأن يقاسمه المال وأن يطلق زوجته (وهي ثانية) حتى إذا حلت بانقضاء عدتها فليتزوجها عبد الرحمان إن شاء. دعا عبد الرحمان بن عوف لأخيه سعد بن الربيع بأن يبارك الله له في أهله وماله. طلب منه أن يدله على السوق ليشمر عن ساعد الجد ابتغاء من فضل الله وفي ذلك عين الصواب والتطابق مع ما يدعو إليه الإسلام من بذل وكدّ وجدّ واجتهاد في تحصيل الرزق والذي يعده الإسلام عبادة بعد العبادة (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) فالعمل في دين الإسلام عبادة. والعمل شرف وقد مارس العمل بمختلف أشكاله الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام وقد رعى رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الغنم ومارس التجارة وشارك أصحابه في كل عمل صالح قاموا به وفي ذلك إرشاد للأمة إلى ضرورة الأخذ بالأسباب فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة وصدق الله العظيم الذي يقول في كتابه العزيز (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) صدق الله العظيم. لقد كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار الخطوة الثانية التي بادر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بناء المسجد وهي خطوة في الطريق القويم السليم التي بني بها مجتمع مثالي لم يشهد له التاريخ نظيرا في متانة علاقة أفراده وفي صفائها وخلوصها لوجه الله ويبقى هذا النهج القويم السليم في انبناء العلاقات هو النموذج الذي في الاقتداء به والنسج على منواله تحقق مرضاة الله فضلا عن توفير السعادة والهناء في هذه الحياة الدنيا.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.